من طرف فتون شاهين السبت يوليو 23, 2011 9:58 am
وغنتْ على أوتار خيبته !!
كانت ذاكرته قد تساقطت منه تباعا ، عندما كان يخطو لأول مرة ، منحدرا أسفل التل ، الذي يحتضن القبو ، بين غياباته ، توقف مستديرا ، تأمل كأنه يعاين البقعة ، يحدد أين هو ، لكنه لم يستطع شيئا من هذا ؛ حيث كانت الذاكرة بيضاء ، كأنها ترى الحياة لأول مرة ، طيور مفخخة في البعيد ، و أصوات نوارس مهاجرة ، وسماء بلا لون ، سوى الفراغ و التيه الممتد بلا انتهاء ، و أسراب من السمان تتراص على أسلاك البرق ، أحراش على امتداد التل تكسوها حلقات كثيفة من ذباب وبعوض وحشي كان طنينه يحدث دويا صاخبا . لكن شيئا ظل عالقا برأسه ، من وقت اصطدمت عيناه بتلك المداخل الدائرية ، التي أودت به إلى مزيد من الريبة و القلق ، كأنه سبق و رأى كل ذاك . هذه العيون التي تتفجر كشلالات صغيرة هنا وهناك ، تلك الأشباح التي تعانق الجدران متهالكة ، بين بكاء و صراخ ، و ضحك .
حين تحلقوه ، ترددت أنفاسهم ، و علا صراخهم ، و لغطهم ، أيضا تهكماتهم ، التلاعب بالحواجب و الألسن ، و الإشارات البذيئة ، بل و رسم بعض خطوط ، وأشكال ، أحسها سافرة و خادشة ، امتعض ، دون أن يدرى لم يفعلون ، حتى النساء و الفتيات الصغيرات ، اللائي كن يلوحن له ، و يكشفن عن أفخاذ بضة ، لها أنفاس شهوة معتقة ، ثم يعرين صدورهن بغنج وتلاعب ، وأصوات رغبات جامحة ، فى بله و استسلام عجيب ، كأنه شيء عادي ، فتبدو صدورهن كرؤوس حراب ، أو كطيور تحلق مع أدني اهتزاز ، أو حركة و إن بدت خفيفة .. ظل يحث الخطى عبر دهاليز تؤدي إلى حجرات ضيقة للغاية ، تتحكم فيها بوابات ضخمة ، بعضها مغلق برتاج عتيق ، سقاطة رهيبة ، كأنه مبني من عصور سقطت فى حساب السنين ، و الآخر مشرع ،تلطمه نسمات فتصدر عنه تمزقات وتزيقات ، تنبعث منها روائح زنخة ، كأنها مخلفات آدمية ..ما تعنيه تلك ، و لم نبشت هذه فى ذاكرته ، سعت بين تلافيفها زاحفة بقوة ، تستدعى ذاك العصي على الإياب .
حين أصبح أمامه ، كاد نبضه يتطاير كدخان أو كضباب ، و كمن رأي سلعاة ، تراجع بحذر ، حتى اختفت تلك الأنياب ، وذاك العواء السحيق ، و سمع صوتا : " وحدك ؟".
حار فى حقيقة الصوت ..أيستوجب منه ردا ، أم هو نوع من اللهاث أو أى شىء كان ؟
:" ما حاجتك إلى القبو ؟".
أيضا كأنه ما سمع سوى لغط غير مفهوم .
:" جميل .. هذا ما طمعت فيه دائما ، مخلوق جديد ، الآن أعطيك اسما يليق بتلك الوسامة .. أنت ربما ". و أشار إليه ، و أكد الاسم " ربما "
فتأتأ بالاسم :" ربما .. ربما ".
:" نعم أنت ربما ".
سحبه خلفه ، دار به بين خبايا القبو ، حتى وصل إلى مخازن الغذاء و الشراب ، ثم عبر أرض منبسطة رأى زروعا و أصناف عديدة من فاكهة ، و أعناب .. رأى عجبا ، وسمع أصواتا غريبة ، لكائنات آدمية ، أو شبه حيوانية ، ولسعت سمعه أصوات كرابيج ، و طرقات ، وصراخ ، صيحات استغاثة ، أو نقمة .
شيء ما كان يؤلمه ، يطن فى رأسه كذبابة الفاكهة ، تنخر فيه بقوة ، فيصرخ ، ثم يتوقف لترتيب الأمر من جديد ، هذه الخيالات التى تأتي و تختفي ، و تترك دوائر سوداء ، لم تغادره إلا حين كان يدنو من هؤلاء .
هاجس ما يتحرك ، يشده إليهم ، ذاك الرضا المرتخي على عضلات وجوههم ، ما يدور بينهم من حديث هامس ، أو عال صاخب ، ذاك الحميم الذى يشجي ، يدر دموعهم ، أو ضحكهم فى لمحة .. كان يتابع . داخله شوق عجيب لفهم ما يقولون ، ما يدور بينهم . دنت منه إحدى الفتيات ، تأملته باسمة ، وبرقة عجيبة :" أين كنت ؟!".
لا يفهم ، لكن مساحة الود ، وتلك البسمة التى تشرق وجهها اجتذبته ، اخترقت مشاعره ، فانجذب إليها ، و أسلم لها نفسه .
من ( ن ) تكونت أبجديته ، و تحرك لسانه ، بل أفرغت فيه كل معرفتها بأهل القبو ، و فوق هذا كانت تبث ريحها فى قلبه و روحه ، كيانه كله ،
مما أوغر عليه فتيان القبو ، بعد أن استأثر بها ، و أصبحوا لا يرون لها وجها منفردا . أغاروا عليه أول الأمر ، و لولا يقظته لتخلصوا منه ، ولم يوقفهم ألا ( ن ) :" مالكم به ؟!".
فى حين كانت صخرة ضخمة ترتفع بين قبضتي عملاق ، و وقت كان صاحبها يقرر طحن رأسه بها من الخلف ، كانت تجذبه بقوة ، وتنجيه من موت محقق .
كأننا هنا في بيداء ، مع أول الخلق ، و هاهو هابيل ( ربما ) ينجو من صخرة قابيل ، ويفوز بأجمل بنات القبو إطلاقا .
نفضت عنه ما تساقط من غبار ، و لفت ذراعها حول خاصرته : " سوف يهدؤون .. نعم كانت آخر ما لديهم ".
: أين كنتِ ؟!".
: لم غبتَ عني كل هذا الوقت ؟ ".
: " لم أغب .. أنا معك منذ مولدي ، لكنك انصرفت عني ".
زأر بقوة :" كيف أنصرف عنك ، و أنت مني خرجت ، لأجلك كنت هنا
بحثت عنك كثيرا ، فى كل الدروب و السكك ، وفى كل نساء الأرض ، كنت كحلم لم أر له شبيها ، و لا لك مثيلا ، وظللت غريبا متوحدا لا أجد مستقرا ".
كان سحر ما يجذبه ، كأنها تتحرك فى دمه ، وشرايينه ، تدفق مع كل نفس ، أو نبضة ، وحين كانت تتخلص من ثيابها ، تلقي بنفسها بين جلده و إعصاره ، كان يهمس و هو غارق في عرقهما معا :" أقسم أنك كنت هنا دائما .. كنت دائما معي كأنني ما عرفت سواك ".
هبطت شفتاها برقة ، حطت كطائر على ثغره ، اختصر العالم ، و الوجود ، ومسافات من عمر ، كانت قادرة على الفتك بأى تقارب . و الأصوات من حولهما تشدو بذاك النشيد ، و من هنا أدرك لأول مرة أن الغرف المغلقة ، لم تكن لسكناهم ، بل لأشياء أخري ، ربما مخازن ، أو هي سجون على أسوأ تقدير ، و هذا ما تيقن منه بعد ذلك !
الشيء الذي لم يكن يتوقعه ، أن يصبح محط دائرة يرسم معالمها صاحب القبو ، و يتحكم فيها بقوة و عنف إذا لزم الأمر ، فكم أخضعوه لكذبهم ، ومحاولتهم بث الغيرة ، بل تدمير نفسيته تماما ، لعدم معرفته بقدرة الرجل الأول ( و) ، و مدى ما يتمتع به القبو من برمجة ، و أجهزة حديثة ما سمع بها من قبل ، و لا غازلت قريحته !
حين كانت تهجع بعيدا عنه ، أو تنصرف لشأن من شئونها ، أو تغاضبه – هى الرقيقة – كانوا يبثون ملامحها هنا و هناك ، بل و برزت مقدرتهم الخارقة فى تقليد صوتها ، ايماءاتها ، ضحكتها المميزة ، حتى أفلحوا ذات حزن فى سحق ترابطه ، لتنهار ثقة عمياء فى تصرفاتها كحبيبة .
كم بكي حتى اخضل التراب بين قدميه ، حادث جنادب الأرض ، النجوم ، الشهب ، أقمارا كانت أحاطت بهما معا ، ودارا فى فلكها ، وغيمات كانت مرتعا و بساطا طائرا . كم صرخ في ليل القبو مناديا عليها ، إنقاذ روحه من ضلال السعي ، من موت وشيك ، و كم كانت عصية ، مغرورة ، غريبة الأطوار ، فلم تقتنع بدوافعه ، و رمته بسيل مسموم من تهم و أباطيل !
كان حديث القبو الذي لا ينقطع ، إلا ليبدأ ، حتى و إن أقنعته يوم الصخرة ، أنهم أتوا بآخر ما في استطاعتهم ، و حين راود نفسه ، أنهكها بحثا وتدبيرا ، مقررا أنه أصبح لعبة يديرها ( و ) ، فيطارده هنا و هناك ، يقتحم كل مساكن القبو ، هائجا لأقصى حد ، ليكتشف نوع و عمق العمى الذي يرزحون تحت وطأته ، فقد رأى عجبا ، من قسوته ، اختل توازنه ، و انفصلت رأسه عنه ، فيما يشبه حالة جنون حقيقي ، لا براء منها ، بين صراخ ، وعويل ، ركض وجرى ، ثم يجالس ربابته ، فتهتز جوانب و أرجاء القبو سحرا و تفتتا و اعتصارا ، كأنه يعانى حمى من نوع عجيب . كان ذلك حين أبصرها من بعيد برفقة أحدهم ، فغلى الدم في عروقه ، صهل كحصان هائج ، و أغلق عليهما الطريق .
كانت تحمل نفس الهيئة و الملمح ، نفس الاسم ( ن ) ، لكنها لم تكن هي ، فنأى بنفسه ، و بقليل من التفكير ، وضع مجمل الصور التي مرت به ، و أشاعوا أمرها ، في ليالي الحنين الأكثر شقاوة ، كان صدره يعلو و يهبط كبغل مجهد .
كم أدار الرؤوس بربابة ، قاسمته محنة احتجابها ، وغيابها الغريب و المدهش ، فارتوت من حنينه ، غنت على أوتار خيبته ، دنت منه حد الالتحام ، التوحد . صدح النواح ، ورقت قلوب القبو حتى أشباحه المحلقة ، التى يدريها ، و تلك التي لا يعلم من أمرها شيئا !
لحظة الانهيار فعلت سحرها ، فتكت بذاك البون الشاسع ، بينه و فتيان و فتيات القبو ، مالم تستطعه جسارته ، و بأسه ، أتاه فى لحظة شجية ، غارقة فى حزن كافر ، لا حدود له ، و هياج دامع أشاع عدواه ، فالتحم
الجزء بالكل ، و هذا مالم يفكر فيه ( و) بشكل جيد و مدروس !!
تحياتي
منقوووووووووووووولة
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني