من طرف وديعة بحيري الأربعاء يوليو 06, 2011 8:22 am
الدراويش يعودون إلى المنقى
رواية
الجزء الثاني
ابراهيم درغوثي / تونس
الباب الثالث
سفينة نوح تغادر الميناء
" نمرة" بنت عم درويش مغرمة بالخيول و بألعاب الفروسية . و درويش فارس و يحب نمرة . و نمرة زاهدة في الزواج . و درويش راغب فيه أشد الرغبة .
و ما العمل يا درويش ؟
كتب لها الرسائل المعطرة .
بعث لها بالورد في فصل الشتاء.
أهداها سيارة مرسيدس و ثلاث إماء اشترهن من سوق العبيد. دفع ثمن السيارة مائة ألف دولار أمريكي.
و نمرة مغرمة بالخيول الأنجليزية.
تزورها كل يوم في الإسطبل.
و تطعمها اللوز و الفستق .
و تربت على مؤخراتها بحنان. و تدفع لفرسانها خصلات من شعرها ، و خواتمها الذهبية.
و درويش يرشي الشعراء بالهدايا الثمينة ، و بـ "اعطه يا وزير ألف دينار"
فيكتبون له قصائد غزل ينسبها لنفسه و يدعو الرواة لحفظها.
و نمرة..
نمرة السمراء،
غزال الصحاري،
و ريم البراري ،
يربت فرسان الخيول الأنجليزية على ردفيها بحنان السائس الماهر، و تغادر اسطبل البهائم و بين نهديها بقايا من علف الخيول .
* * *
و نمرة تذهب كل مساء للنبع مع البنات .
تحمل الجرة على رأسها.
و تختال كالمهرة ..
و تعمل في الحقل .
تحرث..
و تزرع ..
و تجني المحاصيل ..
و تعود إلى البيت مهدودة القوى ..
فتأكل الثريد بالحليب..
و تنام على الأرض.
* * *
و درويش
عابر سبيل يطلب شربة ماء .
مجنون يغني على ليلاه.
حمام يهدل.
بدوي يبحث عن ناقة شاردة.
و نمرة لا تلتفت إليه ، فتعتريه حالات من الجنون القصوى ، فيتخلص من ثيابه و يهيم في الصحراء.
ياكل العشب مع الوحوش.
و ينام تحت النجوم.
ثم يعود إلى رشده فيذهب إلى مصحة طبيب نفساني من أصدقاء العائلة ’ فيعتني به دهرا ، ثم يكتب له وصفة دواء و يوصله بسيارته إلى أهله.
* * *
و نمرة تعشق السفر.
و تقتني ملابسها الداخلية من باريس ،
و أحمر الشفاه من هونغ كونغ ،
و كلاسينها من لندرة ،
و سوتياناتها من جزر هاواي ،
و مرآة الزينة من لاهاي،
و عشاقها من بورصة نيويورك.
* * *
و درويش يدفع .
يوقع على شيكات و يدفع .
و تسافر نمرة إلى جزر البهاما،
فيشتري درويش كل ليلة قينة.
و يكتري لها فرفة موسيقية،
تعزف العود ،
و تضرب على الدربكة و الأورغ الكهربائي.
و تنثر تحت قدميها الدنانير الذهبية المصكوكة في عهد السلطان قلاوون.
* * *
و نمرة ترعى الغنم ،
و تجمع الحطب ،
و تحلب النوق ،
و تصنع الفرش و الزرابي ،
و ترفض الزواج من درويش.
و يقول الأهالي : نمرة لا تحب درويش ، يا ويلنا إذا أزفت ساعة زواجهما .
* * *
و يصير درويش بائعا جوالا . يدفع عربته اليدوية ، و يتغنى ببضاعته ، و بأشعار الغزل الرقيقة.
عندي أمشاط من عاج أنياب الفيل.
عندي خواتم من ذهب البحرين .
عندي بخور هندي.
راديوهات.
سيوف.
كاستات.
قلوب آدمية.
فيديوهات.
فول سوداني .
بنادق أوتوماتكية .
أحزمة من جلد التمساح.
بطريات كهرباء.
اشعار عمر إبن أبي ربيعة..
" أهيم إلى "نعم" فلا القلب جامع
ولا الحبل موصول و لا أنت مقصر.
إذا زرت "نعما" لم يزل ذو قرابة
لهـا كلمـا لاقيتـها يتنمـر.
عزيز عليه أن ألم ببيتها
يسر لي الشحناء و البعض يظهر".
سوتيانات .
أشرطة مسجلة لمادونا .
نواسيات.
خمر بساتين الحيرة.
قمصان نوم .
كحل من باكستان .
غزل مجنون بني عامر.
أشرطة " سكس" .
معجون أسنان .
قوارير كوكا كولا مثلجة .
قراطيس مخدرات .
حبوب منع الحمل .
عندي صندوق الدنيا .
* * *
و تهل الصبايا .
و يهل العيد .
و تغني فيروز .
و ترقص الخيول المطهمة .
و ينفجر الفرح في قلب درويش .
و تمتلىء القرية بالهمس ،
و بالضحكات اللذيذة ،
و تذهب بنت تنادي نمرة : " تعالي إلى حيث الفرجة و الأشياء الجميلة" ،
و تعطيها رسالة من البائع الجوال الذي لبس صورة درويش فيهرب الفرح من القرية و نمرة تغلق في وجه البنت أبواب السماوات السبع بالمفتاح.
و تعود البنت إلى البائع الجوال ، فتسمع شقشقة داخل صدره تشبه صوت تحطم البلور.
و يسيل دم درويش فوق قمصان النوم الحريرية ،
و أحزمة جلد التمساح،
و البخور ،
و الفول السوداني ،
و مشابك شعر الرأس ،
و تذوب الإبتسامات،
و تهرب البنات في كل الإتجاهات ،
و يقصف الرعد ،
و ينزل المطر غزيرا على القرية .
و تمتلىء الشوارع بالضفادع النازلة من السماء .
و تفيض الأدوية بالدم..
و تتحول
عربة
البائع
الجوال
إلى
" سفينة" .
و ينزع درويش قناع البائع الجوال..
و يلبس بذلة الربان – قائد السفينة – .
البذلة ذات الشرائط المذهبة .
و ينادي :
" من كل زوجين إثنين "...
و يتدافع الخلق .
" من كل زوجين إثنين "...
و السيارات .
" من كل زوجين إثنين " ...
و الأحمرة ..
و الفئران ..
و الخنازير...
و البق.
" من كل زوجين اثنين "...
و حقائب " السمسونايت"..
و أجهزة التلفون الملونة..
و الثلاجات..
و مسابح العوم..
قو قوارير الوسكي..
"منكل زوجين إثنين "...
و عرئس البحر ..
و خدم الخليفة..
و إماء السلطانة ..
" من كل زوجين إثنين "...
و التنوريفور ..
و صافارات السفينة تعوي ..
و درويش ينادي :
يا أولاد الكلب .
" من كل زوجين اثنين "...
و نمرة تردد :
" سأعتصم بجبال الهملايا و لن تتفخذني يا درويش "...
و ربان السفينة يلوح بماديل الوداع..
و المدعون يمسحون الدموع ..
و أعوان الجمارك يضعون طوابعهم على جوازات السفر ..
و حراس الحدود ببنادقهم القصيرة يدفعون المتطفلين.
و السفينة تقسم الموج شطرين ..
و الصفارات تؤذن :
حي على السفر ...
حي على السفر...
*****
"كلما رمت الملجىء لهذه الدنيا ، لبست بدنا إذ لا وجه للكون مع الناس الا بالتأنس"
"حكمة هندية "
*****
كلما سمعت دق الطبول و شقشقة الدفوف و صهيل الخيل و زغاريد النسوة ، خيل إلي أنني عشت في زمن آخر، و في مكان آخر، على ظهر هذه الأرض العجوز.
أين عشت هذه الحياة الأخرى ؟
و متى كان ذلك ؟
لست أدري ...
بقيت على هذه الحالة مدة طويلة .. إلى أن كان يوم تذكرت فيه حياتي السابقة كما يتذكر طفل صغير حلما جميلا.
المناسبة : حضرت حفل زفاف قطر الندى من الخليفة المعتضد العباسي.
الزمان : عصر خمارويه بن أحمد بن طولون.
المكان : القطائع من بر مصر .
صداق العروس : ولى الخليفة العباسي ، المعتضد ، خمارويه ، جميع البلاد الممتدة من الفرات إلى برقة. و جعل إليه الصلاة و الخراج و القضاء . و خلع عليه إثنتي عشرة خلعة و سيفا و تاجا و وشاحا.
جهاز العروس : " حملت معها ما لم ير مثله ، و لا سمع به ، إلا في وقته":
دكة من أربع قطع من الذهب ،
عليها قبة من ذهب مشبك
و في كل عين من التشبيك قرط ،
كل قرط معلق فيه حبة من الجوهر.
كل حبة من الجوهر لا يعرف لها قيمة.
و مئة هاون من الذهب لدق الطيب.
و ألف تكة ثمن الواحدة منها عشرة دنانير.
و قد أمر خمارويه بعد أن فرغ من الجهاز بأن يبنى لبنته على كل مرحلة ، قصر أشبه بالمنزل أو مكان الأستراحة ،تنزل فيه وهي في طريقها إلى بغداد.
و أعدت هذه القصور بكل ما تحتاج إليه ، فكانت في سفرها ممتعة بجمع وسائل الراحة
و أسباب الرفاهية كما لو كانت في قصر أبيها.
جائزة إبن الجصاص الذي عهد إليه بإعداد جهاز العروس : أربعمائة ألف دينار.
و قد أقيمت الحفلات و المآدب بمناسبة هذا الزواج في قصر خمارويه . و إجتمعت النساء في أحسن ملابسهن الحريرية . و ظهرن أجمل حليهن ، و إرتدت قطر الندى ثوبا من الحرير الأبيض.
ووضع على رأسها إكليل من الذهب ، و طرحه مرصعة بالجواهر ، و على أذنها قرط ثقيل الوزن على شكل حلقة من الذهب ، و في أصابعها الخواتم.
و في معصمها سوار من الذهب المرصع بالجواهر.
و زين وجهها بالأصباغ ، فبدت في أحسن زينة.
و مد السماط ، و زين بالأزهار ذات الرائحة الذكية ، و بالألوان المختلفة.
جلست العروس في صدر السماط.
و جلست أمها عن يمينها و جدتها عن يسارها.
و وضع في طرفي السماط قطعتان كبيرتان من الحلوى .
و نثرت عليه صحاف ملأى بألوان الطعام المختلفة .
و خرجت قطر الندى من قصر أبيها في موكب اخترق مدينة القطائع التي اشترك أهلها في توديع ابنة الأمير، الذي تقدم الموكب ، يحف به حرسه المختار، يلبسون الأقبية ، و يتقلدون السيوف المحلاة بالذهب ، وهو ممتط فرسه الأشهب ، متقلدا سيفا بحمائل ، تكسوه الهيبة ، و يتبعه جيشه من المصريين و الأتراك ، يحملون الدروع و السهام. ومن السودانيين يرتدون الأردية و العمائم السود.
و لما وصلت قطر الندى إلى بغداد ، نزلت في قصر صاعد ، و أقيمت الحفلات ، و دعيت النساء من علية القوم ، و كن يرتدين أفخر الثياب ، و يتزين بأنفس الحلي و مدت الأسمطة و عليها أنواع الطعام على النحو الذي مدت به في مصر، و أخرجت القيان ، و المغنيات.
إفلاس : لما وصلت قطر الندى إلى بغداد كان خمارويه في شدة و كرب شديدين بسبب تجهيز ابنته الذي استنفد كل ثروته و ليس أدل على صحة هذا القول من أنه احتاج إلى شمعة فلم يوفق إلى أجادها لوقته.
* * *
هل حضرت حقا هذا الحفل ؟
هل قرأت قصته في مخطوط قديم ...
هل شاهدت شريطا سنمائيا يحكي عن زواج قطر الندى و أنا في سابع نومة ؟
كل هذه الاحتمالات واردة.
ما أنا متأكد منه فقط ، هو أنني قررت حينها أن يكون حفل زواجي من نمرة ، كعرس قطر الندى.
و طبعت استدعاءات باسم خمارويه التركي و المعتضد العباسي.
و لم أنس ابن الجصاص ...
و هل ينسى ابن الجصاص ؟
الباب الرابع
البراق لا يحط في المطار
أفاق عبدو كعادته باكرا ، تحسس بقعة لطمة البارحة و أن بصوت خافت ، ثم اغتسل غسلا كاملا بالماء البارد.
كان دائما يردد : " الماء البارد طهارة للروح و البدن ".
و صلى
و أخرج سبحة صغيرة من جيبه و راح يسبح ...
* * *
حين استيقظ فرنسوا مارتال ، كانت العصافير قد شاركت عبدو في تسبيحه . تمطى و تثاءب بصوت عال.
و رسم إشارة صليب .
و رتل صلواته .
و نادى عبدو، فجاء بالقهوة و بغليون ، و بعلبة ثقاب.
ارتشف من القهوة رشفات ، و أشعل الغليون ، و تثاءب من جديد.
اقترب عبدو من السرير، و نظر في عينيه.
كانت دموع البارحة مازالت عالقة بجفونه ، و النحيب مازال يملأ الغرفة ، و يتردد في أرجائها :
" أكل
هذا
الوحش
الشرقي
صور
بدء
الخليقة"
و تتحرك الكتب المرتبة في ركن من أركان بيت النوم : كتب التوراة و الإنجيل و القرآن.
و مجلدات في علم الأديان و في التاريخ القديم .
كتب تحكي عن البابليين..
و الآشوريين ..
و الكلدان ..
و الفينيقيين ...
تحكى عن هزائم هنيبعل و تنسى انتصاراته قرب نهر بو.
و المصريين القدماء :
" مومياء " + عرب = "مومياء" + عبد الناصر = "مومياء" + السادات = حرب أكتوبر + عصر الانفتاح و الصلح ألإنفرادي و "طز" في العرب البائدة. و العرب العاربة و العرب المستعربة و الآراميين و الإغريق و مملكة سبأ ،
و داوود ينكح بلقيس بعقد صوري ، و بمباركة الهدهد .
و الصين ،
و الهند ،
و كتاب العبر . و دوركايم تتلمذ على ابن خلدون و سرق منه علم الإجتماع.
و عصور ما قبل التاريخ .
" و إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد" .
و عصا موسى التي أكلت ثعابين الحواة.
" و إذ قال إبراهيم ربي ارني كيف تحيي الموتى ؟ "
قال : ألم تؤمن ؟
قال بلى و لكن ليطمئن قلبي.
قال فخذ أربعة من الطير،
فصرهن إليك ،
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا .
ثم ادعهن يأتينك سعيا.
و أعلم أن الله عزيز حكيم".
و أنكيدو ،
و جلجامش ،
و تموز،
و أفروديت ،
و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد ... فصب عليهم ربك
سوط عذاب ... إن ربك لبالمرصاد ..."
و حمل فرنسوا مارتال آلة التصوير على كتفه ، و خرج . التقى في الطريق بمجموعة من السياح الأمريكان النازلين لتوهم من حافلة على ملك وزارة السياحة و الإرشاد القومي . رطن معهم بالأنجليزية و اتجهوا إلى ساحة درويش كان في الطريق قد حدثهم عن ساحر يشعل النيران في رجليه و لا يكتوي بنارها . و وصل الأمريكان إلى الساحة . حمر. سمان . يقطر الشحم من تحت آباطهم و من بين أفخاذهم . تحلقوا حول درويش ، و أشبعوه تصويرا.
و أشبعوا الدليل أسئلة عن هذه النيران التي تشتعل في رجلي الرجل و لا تحرقه.
رأى الحيرة تحوم حول الوجوه ، فذكرهم بقصة إبراهيم الخليل والنمرود ، و كيف أن النيران كانت على إبراهيم بردا و سلاما .
قالوا : ذلك رسول الله ...
قال : و هذا درويش الله ...
و لا قناعهم أكثر، و ربما لا رباكم ،حكى لهم هذه الحكاية:
" مات درويش في مركب فجهز، و أريد إلقاؤه في البحر، فجف البحر، و أنزلت السفينة ، فحفروا له قبرا ، و دفنوه . فلما فرغوا ، استوى الماء . و ارتفع المركب".
و قالوا : " هل هذا الدرويش مجنون ؟"
قال فرنسوا مارتال : " البارحة أكل صور بدء الخليفة ".
و قال الدليل : " و ما صاحبكم بمجنون و لكنه الحب ".
* *
الجزء الرايع
ما رأيكم أصدقائي الكرام لو نترك هذه القصة في هذا المقطع ، و نعود مع قافلة السياح الأمريكان إلى نزل الأنترناشيونال ، فقد عرض عليهم الدليل مشاهدة شريط سينمائي بالألوان الطبيعية يحكي قصة جنون درويش بعد أن هام حبا بنمرة ، و بعد أن قالت له يوم الطوفان العظيم : " سأعتصم منك بجبال الهملايا و لن تتفخذني يا درويش". و قد راقت الفكرة للسياح ، فوافقوا على العودة مهللين ، مكبرين ،مصفقين كالأطفال الصغار.
سكوت.
سيبدأ الآن عرض شريط :
مجنون الصحراء.
درويش و نمرة
الصورة الأولى : دعاية للحليب الزبادي ..
و قوارير الكوكا كولا كبيرة الحجم ..
و احتفالات في الشوارع ..
أعلام ..
و شرائط حريرية ملونة ..
و تصفيق ..
و يعيش . يعيش . يعيش.
و يحيا.
و صورة لرئيس دولة زنجبار و قرينته ..
و أطفال المدارس في صفوف طويلة على جنبات الطرق.
- أواه ذكرني أطفال المدارس بطائرات الورق –
و ظهرت رمال الصحراء ، و صوت الناي..
و نمرة راكبة في هودجها مع خادم سوداء
و مسعود السائس يقود الجمل :
" و سوق و ربص ، آسعد شوشان . سوق و ربص..
سايس جمل للاك حتى تلبس ..
آسعد آشوشان
سوق و هني ، آسعد آشوشان . سوق و هني ..
سايس جمل للاك حتى تحني
أسعد آشوشان .
و الفرقة الماسية بقيادة الموسيقار بليغ عبد الحليم تعزف ألحانها..
و فرق الموسيقى الشعبية ..
و الطبل و المزمار..
و البواريد تلعلع ..
و زغاريد النساء ..
و الجمل يتمخطر..
إلى أن وصلت قوافل العرس إلى نبع الماء المبارك الخارج من شق في الجبل. شرب الأطفال من ماء النبع ، و شربت النسوة ، و شرب درويش ، و اغتسل ، و مسح على شعره.
و شرب الرجال بعده ، و اغتسلوا .
و نادي عراف القرية نمرة :
طلب منها أن تخرج من الهودج ليغسل لها يديها و وجهها و يباركها.
و يقرأ الحاضرون سورة الفاتحة.
و تنحر الخرفان.
لكن جملها لم يبرك
و عاود العراف النداء ، فقالت له إنها طامث ، و لا تريد له النجاسة ، و طلبت منه أن يبتعد عن النبع المبارك.
و عاود العراف النداء ، فأخرجت له الخادم قميصا ملطخا بالدم .
قال العراف : " بكم بعت عفتك يا نمرة ؟
ردت من وراء الحجاب : " أنا لا أبيعها و لو بمليارات من الدولارات يا سيدي أنا أهب عفتي يا سيدي لم أهوى ".
قال : " و من وطئك إذن في هذا الهودج ؟"
قالت : " صاحب هذا الجبل ، يا سيدي العراف " .
و جلس العراف على ركبتيه ، و أغمض عينيه ، و ضرب الجبل بحجر، فانفلق الصخر . و صاح العراف : زع ... زع ... زع ... يا جمل
فدخل الجمل من الباب المفتوح في الصخر بعروسه وهودجه المزدان بالشرائط ، و البالولات الحمراء و الصفراء والزرقاء ، وذاب داخل الجبل .
وهم درويش بالدخول وراءه ، فصده العراف .
قال له :"لقد استجارت منك بصاحب الجبل ."
و حاول مرة ثانية فانغلقت الأبواب السبعة في وجهه..
بابا
وراء
باب .
و حاول مرة ثالثة.
صاح : افتح يا سمسم ...
فرددت الأودية صدى صوته : ,, افتح يا سمسم . إلا أن أبواب الجبل بقيت موصدة .
و تفرق الخلق في الجهات الأربعة. و ضرب طاقم الموسيقى لدرويش سلام تعظيم .
و أطلقت المدافع عشرين طلقة ..
و امتلأت السماء بالنجوم الاصطناعية .
و عوت صفارات الإنذار.
و قال الأهالي : يا ويلنا من هذا الليل الطويل . سيقتل درويش نفسه .
و شق درويش صدره ...
و أشعل النيران في الساحة .
و شوى كبده فوق النار الملتهبة .
و أطعم منه خمارويه التركي ..
و المعتضد العباسي ..
و ابن الجصاص ..
و الفرس الصاهل أمامه ...
و الشياطين ...
و عزرائيل ...
و سائق سيارة العريس ...
و مسعود الجمال ...
و حادي العيس ..
يا حادي العيس عرج كي أودعهم
يا حادي العيس في ترحالك الأجل ...
و الموسيقار بليغ عبد الحليم .
و أكل بعد ذلك قطعة من الطورطة العملاقة .
و أطعم حصانه قطعة أخرى .
و مد السكين لضيوف الشرف .
قال لهم ليأخذ كل منكم كفايته و لا يخجل .
و لحسن أصابعه من بقايا الشوكولاطة . و ثقب بدبوس البالونات التي تزين السيارة المعدة سلفا لنقل العروسين إلى فيلا السعادة .
و أخرج من خرج معلق بجانبه برذغة الحصان قميصا أبيض ، و دنانير ذهبية مسكوكة في دار السكة في عهد الخليفة العثماني سليمان القانوني أعطاها لعجوز جاءت تطلب صدقة لوجه الحي القيوم .
و الظلام يعم القاعة
قاعة عرض الأفلام في نزل الانترناشيونال .
و الأمريكان سكوت ...
و صوت آلة العرض يتكتك تك..تك..تك ..
و ذهب درويش إلى النبع .
ذهب وحده هذه المرة .
فتطهر ،
و مسح وجهه بالتراب ...
و صلى ركعة واحدة ..
و سلم ذات اليمين ..
و سلم ذات الشمال ..
و ذهب إلى أعلى الجبل ..
وقف فوق الصخرة ..
رأى القرية تمتد تحت بصره ، لونها أحمر كلون حجارة الجبل .
و الدخان يتصاعد من وسط الواحة و يعلو حتى السماء .
قال : ماذا لو ذهبت مع هذا الدخان إلى السماء ...
و ربت على ظهر حصانه، فنبت في الحين الحصان جناحان، ريشهما من كل الألوان .
ريش أجمل من ريش الطاووس .
و استدار وجه الحصان .
صار أجمل من وجه حورية من حوريات الجنة .
عينان سوداوان برموش طويلة ..
و فم يقطر منه الشهد .
و أصبحت الساحة الممتدة تحته مطارا كبيرا .
و البراق يتحفز للطيران
و صوت المكروفون يردد :
على المسافرين على متن الطائرة القادمة من فرنكفورت الالتحاق بمكاتب جوازات السفر لإتمام الإجراءات القانونية .
تلمس حقيبته الصغيرة .
فيها منامة ،
و ثلاثة كتب :
الحب في زمن الكوليرا لماركيز ..
و المسيح يصلب من جديد لكزانتراكسيس ..
و المحصول الأحمر لخورخي امادو..
و مجلة أدبية ..
و مسودة لرواية غير مكتملة .
و نسخة صغيرة من حربه .
حربة من البرنز المطعم بالفضة .
تحفة .
- ماذا؟ ماذا قلت ؟ حربة داخل حقيبتك حربة .
- فتشوه ...
تململ السياح الأمريكان في قاعة العرض .
- سيحول وجهة الطائرة .
- أيلول الأسود.
- بادريماين هوف .
- الجيش الجمهوري الإرلندي .
- الدرب المضيء.
- أبو العباس .
- أبو نضال .
- بدأ الهرج و الصياح .
طلقات نارية ززز...
دم...
فرق مكافحة الإرهاب تحاصر المطار.
سلم نفسك ...
مسافرون محتجزون في إحدى القاعات .
الصليب الأحمر الدولي .
سيارات الإسعاف .
وزير الإعلام يتحدث عن اكتشاف كلاشنكوف داخل حقيبة مسافر عربي في مطار دولي .
إذاعات العالم تنقل الخبر.
مفاوضات .
مفاوضات .
مفاوضات .
مفاوضات.
فاوض.
يفاوض.
مفاوضات .
النساء و الأولاد يغادرون الطائرة .
الرجال المرضى يغادرون الطائرة .
فاوض.
يفاوض .
مفاوض .
مفاوضات.
الإرهابي يسلم نفسه مصحوبا بآلة الجريمة :
حربة من البرونز المطعم بالفضة ،
و الحب في زمن الكوليرا،
و الدم يعود إلى وجوه السائحات الأمريكيات .
وجوه سمينة .
وجوه معطرة .
وجوه يقطر منها السم.
و الهدوء يعود من جديد إلى قاعة العرض.
و العسل يسيل أنهارا من فم الطاووس .
و البراق يردد: إلى أين يريد سيدي السفر ؟ .
و درويش يرد : إلى الحيرة عند الملك النعمان بن المنذر .
* * *
إشتعلت الأضواء في القاعة ..
وتهامس السياح .
تساءلوا عن الحيرة ، و عن النعمان بن المنذر .
جاء الدليل يسعى .
جمعهم حوله و بشرهم :
لا تتساءلوا كثيرا عن الحيرة سنزورها هذا المساء . و هذه بطاقات إستدعاء من الملك النعمان بن المنذر .
قيل إنه سيولم لضيوفه .
سيذبح لهم ألف بعير .
قالوا : هي فرصة لا تتكرر مرتين .
قبلنا الدعوة أيها الدليل .
و سنتذوق لحم الجمال .
ما أحلاك يا لحم الجمل ...
سكر .
الباب الخامس
ملصق دعاية على تفاح تركيا .
عاد فرنسوا مارتال إلى داره بعد أن حل الظلام . نادى عبدو طلب منه احضار الغليون و الحشيش و الخمر . عاد الخادم يسعى بمائدة عامرة بالحلوى الشامية ، و بأجود أنواع الخمور .
وانصرف للمراقبة .
الأحوال هادئة .
لا خوف و لا هم يحزنون .
و الرجال يصلون تباعا ، و يتجرجرون داخل جبابهم ، و يكركرون برانيسهم الثقيلة ، فالليلة جمعة ، و حلقة الذكر ستبدأ عما قريب .
جذب الفرنسي نفسا من الغليون ، و ترك الهواء مدة طويلة داخل صدره ، ثم أخرجه رويدا رويدا ،و تنهد :
أكل هذا الوحش الشرقي صور بدء الخليفة .
و عاد إلى غليونه يعب منه بشراهة .
***
دقت البنادير و الصنوج و الطبول خفيفة في بادئ الامر .
تحسس الرجال جلودها فوق النار، ثم جربوها مرة أخرى .
رنت الضربات واثقة هذه المرة ، ثم مرروا الجلود ثانية على النار، و نقروها .
طنت في الآذان ،عنيفة ، صارخة من الالم .
و دارت كؤوس الشاي .
و دار الغليون محشوا بالكيف .
و ارتفع صوت الجماعة
رخيما حزينا ..
مليئا بالألم .
و أنت الصنوج و خشخشت، و العصيات الرقيقة تنوشها بحذق و خفة .
و رزم الطبل .
و صوت البندير .
و تعالت أصوات المداحين :
مزجت روحك في روحي كما ،
تمزج الخمرة بالماء الزلال .
فإذا مسك شيء مسني .
فإذا أنت أنا في كل حال .
و عبق الجو بروائح البخور و الجاوي و العنبر و عود القماري .
و انتشى الفرنسي ، فزاد في كمية الحشيش ، و مرر الغليون إلى حلقة المداحين ، فلهجوا بالعرفان و الثناء ، و ناحوا و رؤوسهم تدور يمنة و يسرة :
أنا من أهوى و من أهوى أنا .
نحن روحان حللنا بدنا .
فإذا أبصرتني أبصرته ،
و إذا أبصرته أبصرتنا .
و قام شيخهم و الزبد يتكدس على شدقيه و بدأ يتكلم بلغة أعجمية . و وقف واحد من الجماعة يرد عليه باللغة نفسها .
خطاب هستيري، تخللته شطحات و رقصات مجنونة إلى أن أغمى على الشيخ، فسكبوا فوق جبهته قارورة عطر ...
و بللوا وجهه بماء الورد .
و الفرنسي مازال يشعل النيران في الكوانين، و يرمي فيها بأعواد العنبر و الجاوي و البخور
و تمتد السهرة حتى الفجر .
ثم يغادر أهل الذكر الدار .
و يفتح عبدو الأبواب من جديد لندامى آخر الليل .
و تدور كؤوس الراح .
و يدندن العود نشيطا و الأنامل الرقيقة تدغدغ أوتاره .
و يهزج صوت رخيم تعتعه السكر :
يا رب دعني بلا صلاح .
يا رب ذرني بلا فلاح .
يدي مدى الدهر فوق ردف ،
و راحتي تحت كأس راح .
و يقول الحضور بصوت واحد : آمين
و ترتفع الآهات .
و الفرنسي راقد فوق السرير.
و الشباب يروحون و يجيئون على بيت النوم.
يتهامسون ..
و يتغامزون..
و يدسون الدنانير في جيوبهم
و يعودون إلى دنان الخمر يكرعون منها ، و يحرضون المغنى على الغناء :
يا خليلي قد عطشت وفي
الخمرة ري للحائم العطشان
فاسقياني بين الدنان إلىأن
ترياني كبعض تلك الدنان ،
و اسقياني ، فقد رأيت بعيني
في قرار الجحيم أين مكاني ؟
و يغادر الندامي البيت و الديك يؤذن ، فيغلق عبدو الأبواب ، و يذهب لينام .
و يتحرك فرنسوا مارتال على الفراش..
منهوكا ...
فتتحرك الصور المعلقة على جدران البيت أمام السرير ..
صور بدء الخليقة ..
و تمد حواء التفاحة لآدم ..
و تقول : " كل يا حبيبي هذا التفاح الأحمر ، له رائحة أحلى من المسك هو تفاح مستورد من تركيا .
كل و لا تخف " .
و تعض التفاحة بأسنانها البيضاء كالثلج ، تقضم قطعة ، و تمدها لآدم - يقطر منها الرضاب-
و يستعيذ آدم بالله من الشيطان الرجيم ..
و يبسمل ..
و يحوقل ..
و يبوس يد حواء و يطلب منها برفق أن تبعد عنه التفاح.
- هذه الثمرة ممنوعة يا حبيبتي و أكلها حرام علينا ...
- لماذا تقول حواء ، وهي معروضة في الأسواق ،وتحت الشجر، وفوق أغصان الحدائق العمومية .
-هكذا أشاء الرب يا عزيزتي..
ولا تقتنع حواء بكلامه. . و تقرب التفاحة من فم آدم.
و يشجعه فرنسوا مارتال : " لماذا كل هذا الاضطراب يا آدم ؟ كل و لا تخف ، فالتفاح عندنا زهيد ،الثمن وهو ملقى على قارعة الطريق . لماذا يا آدم تحرم نفسك من التفاح ؟
و يلتفت آدم يمنة و يسرة ، و يمسك بالتفاحة في يده.
على التفاحة ملصق صغير يقول إنها مستوردة من تركيا .
و يعض.
و تنغرس أسنانه الحادة في لحم الثمرة ..
و يسيل ماؤها داخل فمه.
- أحلى من العسل –
و يعض بعنف .
يعض بعنف المحروم .
و لا شاهد عل الخطيئة سوى الفرنسي
و يخرج آدم من الصورة المعلقة على الجدار.
يمشي بخطى خفيفة ..
عريان السوأة .
و حواء تصيح من داخل الصورة :
" عد يا آدم ...
عد يا آدم لقد فضحتنا ".
و يبحث آدم داخل خزائن المطبخ عن التفاح
ويفتح الدواليب .
و يملأ حضنه بالثمر المحترم ...
و يعود إلى الصورة قبل أن يغلق الرب في وجهه الأبواب.
* * *
" فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري منهما من سوءاتهما و قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
و قاسمهما إني لكما من الناصحين فدلاهما بغرور. فلما ذاقا الشجرة ، بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . و ناداهما ربهما ألم أنهاكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين.
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و ان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين .
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو. و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين" .
قرآن ( سورة الأعراف)
* * *
فنادى الرب الإله آدم و قال له أين أنت ؟
فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت . فقال من أعلمك أنك عريان ؟
هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟
فقال آدم للمرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت .
فقال الرب الإله للمرأة ما هذا الذي فعلت ؟ فقالت المرأة الحية غرتني فأكلت .
فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم و من جميع وحوش البرية.
و على بطنك تسعين.
و ترابا تأكلين كل أيام حياتك .
و أضع عداوة بينك و بين المرأة.
و بين نسلك و نسلها .
هو يسحق رأسك.
و أنت تستحقين عقبه.
و قال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك.
و بالوجع تلدين أولادا.
و إلى رجلك يكون اشتياقك ، و يسود عليك.
و قال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك ، و أكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها.
ملعونة الأرض بسببك " .
العهد القديم ( الإصحاح الثالث )
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني