استحوذت القصة على فكر كثير من الأدباء والمفكرين وأدلى كل واحد بدلوه فيما يتعلق بها، ودار حولها حديث كثير، وكانت القضية التي اشتد فيها الجدل هي قضية وجود القصة في أدبنا العربي وعدم وجودها.. وكان السؤال المطروح على موائد البحث دائماً: أهي موجودة في أدبنا العربي قبل ظهور القصة في أوروبا، ثم انتقالها بقوانينها إلى الأدب العربي الحديث.. أم غير موجودة.. وهذا هو محور حديثنا. إن القصة فن من فنون الأدب الجليلة، بقصد لها ترويح النفس باللهو المباح، وتثقيف العقل بالحكمة(1)، وهذا الفن من الفنون التي احتلت مكاناً، مرموقاً في النفوس، للمتعة التي يحس بها القارئ، ويتذوقها السامع، باختلاف العصور، وتنوع الأعمال، وتباين البيئات(2)، كما أنه يعد شكلاً من أشكال التعبير، وسيلته النثر، ويعتبر من أعرق ألوان الأدب تاريخاً ووجوداً، لأن دافع السرد القصصي خاصية إنسانية يشترك فيها جميع الناس، إذ يستطيع كل إنسان أن يحكي لك حادثة مرت له، أو موقفاً تعرض له، ومعنى هذا أن القصة ولدت مع الإنسان، طالما أن الحكاية –وهي العنصر الأساسي في القصة- قاسم مشترك بين الناس، فلا زال الطفل يميل لسماع حكايات جدته، ولا زال الناس يتبادلون الحكايات في مجالسهم للسمر(3) والسهر والترويح عن النفس. وعلى هذا نرى أن فن القصة من أقرب الفنون الأدبية إلى النفس البشرية، لأنه فن يستقي مادته من الحياة اليومية الجارية بحلوها ومرها، وينقل التجارب والخبرات من واقع تلك الحياة، ويحيل ما يستقيه وما ينقله إلى أشياء ثابتة نسبياً، في صورة تتميز بروح الشمول أو التأثير القوي، وذلك عن طريق العرض الجيد، من خلال الأسلوب المحكم النسج الذي تترابط لحمه بسداه، وتتماسك العلاقات بين كلماته وجمله وتعبيراته، والذي يعطي دلالات جيدة مؤثرة. وليس هذا الأمر بالمستغرب، فالقصص يحكي لحياة الإنسان على هذه الأرض، فلقد كان القصص هو الأدب، والعلم، والثقافة العامة لما تحويه كل قصة من معارف شتى بالخلق، والتاريخ الإنساني، والأديان، والطبيعة، والعادات، والتقاليد، فما شيء في التاريخ إلا وله قصة(4). والقصص مظهر حضاري تقاس به الأمم والشعوب، وما دام الأمر كذلك، فإنه يندر أن تجد شعباً من الشعوب، أو أمة من الأمم لا يوجد لديها تراث قصصي تحفل به(5). والقص والقصة.. الخ بمعنى الخبر يقتطع من سياق الحديث اقتطاعاً، كما يقتطع من سياق الأحداث المتصلة في الحياة المحيطة لأهميته وطرافته لكل من المتحدث والسامع، المحاور الثلاثة التي يدور حولها المعنى وهي (القطع، والخبر، وتتبع الأثر) هي الأساس في فن القصة، حيث تقوم على القطع أصلاً أي: اختيار الحدث، أو الأحداث الصالحة وفصلها عن سياق الأحداث الحياتية الأخرى، ثم يتتبع القاص أثر هذا الحدث ويستقصيه، ويحاول الإلمام بكل تفاصيله لإمكانية تصويره، ثم الإخبار والإبلاغ به، بمعنى نقله إلى المتلقي قارئاً كان أو سامعاً(6). ومن الناحية الاصطلاحية، فالمفهوم الفني الأدبي لفن القصة في ابسط صورة وبعيداً عن المصطلحات المعقدة فيلخص في قولنا(7): إن القصة عبارة عن مجموعة من الأحداث الجزئية التي تقع في الحياة اليومية للمجتمع مرتبطة ومنظمة على وجه خاص، وفي إطار خاص، بحيث تمثل بعض جوانب الحياة وتجلوها في شتى وجوهها، بغرض الوصول من خلال الوعي الكامل بالأحداث، والظروف الاجتماعية إلى الحقائق الإنسانية، مع عدم إغفال الحرص التام على جانب التسلية والاتباع، وجانب التثقيف والتهذيب. والقصة بهذين المفهومين: اللغوي والاصطلاحي يقوم بنيانها، وتشكيل هيئتها على عدة عناصر رئيسة لا يمكن إغفالها وهي أولاً: الحدث أو الأحداث، وهذا العنصر هو الأساس في القصة، الذي تبنى عليه، بل هو صلب الحكاية أو ما يسمى بالمتن القصصي، ولابد أن تكون أجزاء الحدث متصلة، ووقائعه متلاحمة بحيث يأخذ بيد القارئ أو السامع إلى الأثر الكلي الذي يوحي بأن للأحداث في صلب القصة معنى. ثانياً: الشخصيات، وهذا العنصر تدور الأحداث من خلاله، سواء وقعت منه أو عليه، وشخصيات القصة تتشكل من خلال أحداثها كل ملامحها سواء أكانت شخصيات نامية متطورة، أم شخصية ثابتة جامدة، أو كانت شخصيات رئيسة أو ثانوية، فهي عنصر فاعل في بنية القصة وتكوينها لا يمكن إغفاله. ثالثاً: البيئة الزمانية والمكانية، فلابد لكل حدث من شخص أو أشخاص يوقعونه، حسب القاعدة التي تقول: "كل حدث لابد له من محدث"، وإذا توافر الحدث ومحدثه فلابد من زمن يقع فيه الحدث، فليس هناك حدث خارج دائرة الزمن، كما أنه لابد من مكان يقع عليه هذا الحدث، ويتحرك في جنباته محدثه، وهو ما نطلق عليه البيئة الزمانية والمكانية للأحداث داخل بنية القصة. رابعاً: الحبكة القصصية: ويقصد بها منهج الكاتب في عرض أحداث قصته، والخطة التي يتحرك أبطال قصته على أساسها، وطريقة تنظيم كل ذلك، ومن خلالها لا يحدث الصراع ويتنامى، حتى يصل بالملتقي إلى ما يعرف بالعقيدة، ثم يأخذ بيده تدريجياً في اتجاه الإنفراجية المؤدية إلى الحل، وتمثل الحبكة القصصية الرابط الذي يحكم به نسيج القصة وبناءها معاً، ويجذب المتلقي، ويجعله مشدوداً بكليته مع حركة الأحداث، ولابد للحبكة أن تكون دقيقة، قابلة للتصديق، لا يقوم على المصادفة وحدها.. خامساً: الحوار، وهو ما يحدث بين أشخاص القصة تعبيراً عن جانب من الأحداث والتفاعلات، بحيث يكشف عن الجوانب النفسية للأشخاص، ويفلسف الواقعات، سواء تم ذلك من خلال المشافهة بين أبطال القصة وشخوصها، أو من خلال سرد القاص لما يتردد بين هؤلاء الشخوص، أو كان حواراً وثائقياً تتحدث فيه الوثائق المكتوبة مثل الرسائل والوصايا، أو الأخبار المنشورة..الخ. سادساً: أسلوب القاص وطريقة عرضه، وهذا عنصر شديد الأهمية لأن الأسلوب إذا كان ركيكاً مفككاً جاءت القصة مهلهلة النسج، غامضة المعاني وكذلك طريقة العرض إذا لم تكن جيدة منظمة، جاءت الأحداث مختلطة متداخلة لا تغري القارئ بالمتابعة المستمرة، وسرعان ما يصاب بالملل لكثرة ما سيلقاه من تعقيدات وغموض بسبب هذا الخلط والتداخل. ويتوارد إلى الذهن سؤال هو: هل عرفت القصة التي بيناها في أدبنا العربي قديماً؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن النقاد أمام قضية وجود القصة في أدبنا العربي القديم، أو عدم وجودها انقسموا إلى ثلاث فرق: الفريق الأول يرى أن العرب لم يعرفوا القصة، وإن الأمة العربية والتراث الإسلامية خلو من الفن القصصي، وإنهم لا يعرفون القصة والفن القصصي، وأول من تبنى هذا الاتجاه هم واضعو دائرة المعارف البريطانية في الجزء الخاص بالأدب الإسلامي، فهم يرون أن الأدب التمثيلي، وأدب القصص من الفنون المحرمة والممنوعة في الإسلام(9). كما اتجه نفس الوجهة الأستاذ / أحمد حسن الزيات وإن اختلف تبريره، حيث قال: القصص فن من فنون الأدب الجليلة، له عند الفرنج مكانة مرفوعة، وقواعد موضوعة، أما عند العرب فلا خطر له، ولا عناية به، لانصرافهم عما لا رجع للدين منه، ولا غناء لملك فيه(10)؛ وللأسباب التي دعت إلى قصورهم في الشعر القصصي، وهي أن مزاولة هذا الفن تقتضي الروية والفكرة، والعرب أهل بديهة وارتجال، وتطلب الإلمام بطبائع الناس، وقد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيمن عداهم، وتفتقر إلى التحليل والتطويل، وهم أشد الناس اختصاراً للقول، وأقلهم تعمقاً في البحث، وقد قل تعرضهم للأسفار البعيدة، والأخطار الشديدة، وحرمتهم طبيعة أرضهم، وبساطة دينهم، وضيق خيالهم، واعتقادهم بوحدانية إلههم كثرة الأساطير، وهي من أغزر ينابيع القصص(11)، كما أن هذا الفن نوع من أنواع النثر، والفن الكتابي أو النثر الفني ظل في حكم العدم أزمان الجاهلية وصدر الإسلام حتى آخر الدولة الأموية حين وضع ابن المقفع الفارسي مناهج النثر، وفكر في تدوين شيء من القصص(12). ومن الذين جردوا أدبنا القديم من فن القصة الأستاذ / يحيى حقي حيث ذهب إلى أن القصة العربية نشأت تحت التأثير الأوروبي، فقد حملت الرياح التي تهب من أوروبا بذرة غربية على المجتمع العربي، بذرة القصة، كما ذهب إلى أن ما يحويه التراث العربي من قصص على شكل سير وأخبار ومقامات ما هو إلا فتات فني تنقصه الوحدة(13)، وأشار إلى مثل هذا بطرس البستاني في معرض حديثه عن نشأة القصة عند العرب ومنزلتها حيث قال: إنه لم تأتنا عنهم (أي عن العرب) قصص راقية الفن، وإنما جاءنا حكايات، ومقامات، وأحاديث(14)، وإن كان قد ناقض نفسه بعد كلمات قليلة من قوله هذا حيث قال:"ثم كان عصر الانحطاط، فانحدرت القصة انحداراً مشؤوماً، وآلت لغتها إلى العامية، أو ما يشبه العامية، وأصبحت عبارة عن تعداد حوادث خارقة يشترك فيها الإنس والجن، ولا تصور في أكثر وجوهها الحياة الطبيعية التي يحياها الإنسان. على أنه ما انتشرت الثقافة الغربية في القرن الفائت (أي في القرن التاسع عشر)، واطلع الكتاب على القصص الأعجمية حتى أكبوا على نقلها. فأي قصص هذه التي انحدرت انحداراً مشؤوماً قبل القرن الفائت كما يقول؟ إنها بلا شك قصص عربية قديمة وجدت في أدبنا العربي، وأصابها ما أصاب الأدب على وجه العموم شعره ونثره من انحطاط.. وهو بهذا ينقض ما قرره آنفاً بشأن عدم وجود قصص في أدبنا العربي القديم. ولقد تصدى للرد على هذا الإدعاء بعدم وجود قصص تمثل فناً راقياً في أدبنا العربي القديم كثير من النقاد، مبينين أن مثل هذا الإدعاء فيه كثير من الافتراء والمغالطة لحقائق التاريخ الأدبي في اللغة العربية، وإن مثل هذا الإدعاء والإنكار سواء من الغربيين أنفسهم، أو من النقاد العرب إنما جاء لأنهم وضعوا القصة الغربية بمفهومها الغربي، وصياغتها الخاصة كأنموذج فبحثوا عن مثل هذا اللون في التراث العربي فلم يجدوا، وهذا مقياس خاطئ في تعميم عدم وجود الفن القصصي في الأدب العربي، فالقصص في العربية له خصائصه ومناهجه وألوانه، وأشكاله في تصوير المجتمع العربي(15)، بآماله وآلامه، وواقعه وأحلامه. والحق أنه قد وجد في العربية فن قصصي، منه ما هو مترجم مثل (ألف ليلة وليلة)، و(كليلة ودمنة)، ومنه ما هو مكتوب أصلاً بالعربية مثل قصص المقامات والقصص الشعبي، وقصة (حي بن يقظان)، وقصة (زنوبيا) ملكة تدمر، بل أن الأدب العربي حفل بقوالب متعددة للتعبير عن القص مثل: "قال الراوي"، و"يحكى أن"، و"كان يا كان"، وما إلى ذلك من المقدمات التي كان يبدأ بها القاص حديثه القصصي، بل العرب كأمة أول من قالت: "يحكى أن"، و"زعموا أن"(16)، ومن النقاد من يرى(17)، أن العرب قد عرفوا هذا الفن، وإن اختلف مفهوم القصة الغربية عنه لاختلاف خصائص حياة الغرب عن حياة العرب، وتباين الطبيعة الغربية عن الحياة العربية، ولأن الفن إذا ما نبع في أمة ظهرت معه مكونات أدبها وتطورها الحضاري، والمقومات الحضارية، والجذور الثقافية. والاختلاف الملحوظ بين القصص في الشرق والغرب ناتج عن التباين الفكري بينهما، وبصرف النظر عن نوع القصة أو اسمها وعدد كلماتها وشخوصها، يوجد كثير من أشكالها عند العرب، نجد القصة، والرواية، والنبأ، والخبر، والأسطورة، والمقامة، وهي الأصول التي قام عليها بناء القصة الغربية التي لم يتفق كتاب الغرب على تحديد لها. وعلى أساس الاختلاف والتباين بين الحياة العربية وحياة الغربيين، وكذا اختلاف الطبيعتين العربية والغربية رفض بعض النقاد قياس فن القصة عند العرب قديماً بمقاييس هذا الفن في العصر الحديث، لأنه متأثر تمام التأثر بالاتجاهات الأوروبية منذ بدايات القرن التاسع عشر، وذلك لاختلاف الظروف، ويقرر صاحب هذا الاتجاه(18)، أنه ليس صحيحاً أن العرب القدامى لم يعرفوا القصة لمجرد أن خصائص القصة الحالية لا تنطبق على القصص كما عرفها العرب، وهذا شبيه بقولنا تماماً: إن الأقدمين لم يعرفوا البيوت لمجرد أنهم لم يسكنوا العمارات والفيلات التي نسكنها اليوم. ولا ينكر كاتب كبير، وناقد معروف كالدكتور الطاهر أحمد مكي وجود القصة في أدبنا العربي القديم بل يقول(19): "فيتصورنا أن القصة موجودة في التراث العربي، لا بمواصفات القصة الفنية الحيثة بالطبع، ولكن بمميزات خاصة فرضتها طفولة هذا الفن وبداياته، ولا عيب في ذلك، فالقصة الأوروبية الحديثة نشأت في بداياتها في العصور الوسطى متأثرة بأصول عربية واضحة كقصص السندباد، وكليلة ودمنة، وحي بن يقظان، بل ووجدت أشكال مختلفة للقصة في التراث العربي، ولكل شكل مميزاته الخاصة، فالقصة في السير تختلف عن القصة في بخلاء الجاحظ، وهذه تختلف عن القصة في المقامات. أما الدكتور/ شوقي ضيف، فقد أفاض الحديث حول هذا الموضوع في كتابه تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، وعاد للتطرق إليه في العصور الأخرى، وفي كتابه الفن ومذاهبه في النثر العربي حيث قال: "من المحقق أنه وجدت عندهم (أي عند العرب) ألوان من القصص، والأمثال، وسجع الكهان، ومن المؤكد أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفاً شديداً. وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة في الصحراء، فكانوا حين يرخي الليل سدوله يجتمعون للسمر، وما يبدأ أحدهم في مضرب خيامهم بقوله: "كان ياما كان" حتى يرهف الجميع أسمعاهم إليه، وقد يشترك بعضهم معه في الحديث، وشباب الحي، وشيوخه، ونساؤه وفتياته المخدرات وراء الأخبية، كل هؤلاء يتابعون الحديث في شوق ولهفة، ومن غير شك كان يفيض القصاص على قصصه من خياله، حتى يبهر سامعيه، وحتى يملك عليهم قلوبهم. وقد دون الكتاب العباسيون ما انتهى إليهم من هذا القصص مع تغيير في الصياغة، وإن كان من الحق أنها ظلت تحتفظ بكثير من سمات القصص القديم، وظلت تنبض بروحه وحيويته، وربما كان أكثر ألوان القصص شيوعاً على ألسنتهم أيامهم وحروبهم، وما سجله أبطالهم من انتصارات مروعة، وما منيت به بعض قبائلهم من هزائم منكرة، وكانوا يقصون كثيراً عن ملوكهم من المناذرة والغساسنة ومن سبقوهم أو عاصرهم من ملوك الدولة الحميرية"(20)، وقد دارت بينهم أطراف من أخبار الأمم المجاورة لهم ممتزجة بالخرافات والأساطير، ففي السيرة النبوية لابن هشام أن النضير بن الحارث المكي كان يقص على قريش أحاديث عن أبطال الفرس أمثال رستم واسفنديار، وأكثر مت يستهويهم من القصص أحاديث قصاصهم عن أيامهم وحروبهم في الجاهلية(21)، ومن القصص التي استهوتهم قصة (الزباء) ملكة تدمر، ومن قصص الهوى قصة المرقّش الأكبر وصاحبته أسماء بنت عوف(22)، ويدخل في هذا القصص بعض خرافاتهم كخرافة "الحية والفأس" والتي نشأ عنها المثل العربي "كيف آمنك وهذا أثر فاسك". وفي كتابه (في الرواية العربية - عصر المجتمع) يطلعنا الشاعر المصري المعاصر فاروق شوشة مؤكداً على أصالة فن القصة في أجبنا العربي، لأن الشواهد تدل على أن هذا الأدب قد عرف القصة في مختلف عصوره، ففي العصر الجاهلي كانت لهم قصص كثيرة وكانوا مشغوفين بالتاريخ والحكايات، وقد عرف العرب في الجاهلية ألواناً من القصص، وكان لهم تراثهم الأسطوري، وقد استدل خورشيد على أصالة الفن القصصي لدى العرب بما ورد في القرآن الكريم من قصص، إذ أشار إلى أنه إدراك لخطر القصة وأثرها في نفوس العرب، مما يدل على رسوخ هذا الفن في تراثهم، ومن كبار القصاصين وهب بن منبه، وكعب الأخبار، وقد ذهب خورشيد إلى أبعد من هذا الزعم فأكد أن القصة عند العرب كانت تحظى بالمقام الأول، وأنها كانت الفن المفضل عند الغالبية العظمى، بينما حفلت أقلية خاصة بأمر الشعر والخطابة، وربما كان السر في انصراف المسلمين عن القصص أنهم اعتبروها من الخرافات الجاهلية فأهملوها خوفاً على دينهم(23). أما الفريق الثالث، ويمكن أن نسميه فريق التوفيقيين فعلى رأسهم د:محمد صالح الشنطي الذي حرص على التوفيق بين آراء الرافضين لوجود القصة في أدبنا العربي، والقائلين بوجود هذا اللون الأدبي بقوله(24): "إن القصة بمفهومها العام قديمة قدم البشر، ولكنها كفن لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر، وبذور هذا الفن القصصي موجودة في التربة منذ القدم، وأكمل وجه من وجوهها ما ورد في القرآن الكريم من قصص الأنبياء والأمم الغابرة، ويعتبر القصص القرآني ذخيرة غنية بأروع الأساليب القصصية، حتى الأساليب الفنية التي لم تظهر إلا في العصر الحديث، ثم يضيف قائلاً:"وليس من شك في أن الرواية بمفهومها العام، وكذلك القصة القصيرة من الفنون الأصلية في أدبنا العربي القديم، ولكن الرواية كفن له تقاليده، وقيمه الجمالية المعاصرة وتعبيره عن أوضاع اجتماعية بعينها، بحيث يرى كثير من الباحثين أنه ارتبط بنشأة الطبقة المتوسطة في أوروبا فهو يعتبر حديثاً، غير أن التراث الإنساني في هذا المجال، يظل حقيقة ماثلة، ولا يضيرنا في شيء أن تكون الرواية الحديثة مختلفة في تقنيتها عما ورثناه، فلكل عصر ضروراته ومتطلباته، وبالتالي ليس ثمة قضية تقتضي أن نحتشد لها هذا الاحتشاد، فأصحاب البأس القائل بأن الأدب العربي لم يعرف القصة ولا الرواية لم يتنكبوا طريق الصواب، بل نظروا إلى القضية من زاوية أخرى (هي زاوية المقاييس الفنية الحديثة)، وليس من زاوية القصة بمفهومها العام كوسيلة للإمتاع والتسلية، والتذكير بالأحداث المؤثرة، وليس في هذا خطورة، بل الخطورة في النوايا، فهناك من يتعصب ضد الأدب العربي حقداً وكراهية، وليس توخياً للحق والإنصاف، وهؤلاء هم الجديرون بالتصدي لهم، وفضح ادعاءاتهم، وبهذا الاتجاه استطاع الدكتور الشنطي أن يوفق بين الاتجاهين المتقابلين، وإن كنا نستشعر أنه أكثر ميلاً إلى رأي القائلين بوجود الفن القصصي في أدبنا العربي، ونحن نرى أنه من غير المعقول أن نجرد أمة يمتد تاريخها الأدبي إلى ما يقرب من ألفي عام من عنصر أساسي من عناصر الأدب، ولون على جانب كبير من الأهمية من ألوانه، وقد اتضح لنا وجود الكثير من القصص والقصاصين في العصر الجاهلي، ولو لم تكن القصة معروفة ولها تأثيرها في العصر الجاهلي ما خاطب القرآن الكريم مشركي مكة بكثير من القصص المؤثر، حتى لفظ كلمة قصة واشتقاقاتها المختلفة جاءت في القرآن الكريم فيما يزيد على عشرين موطناً، وساق القرآن الكريم كثيراً من القصص منها القصة القصيرة كقصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، وفي نفس السورة جاءت قصة أهل الكهف، وقصة موسى والخضر، وقصة ذي القرنين، وجاءت قصة سليمان والهدهد، وسليمان والملكة بلقيس ملكة سبأ، وقصة سليمان والنملة في سورة النمل، وجاءت قصة أصحاب الجنة في سورة القلم، وغيرها، كما ساق القرآن القصة المتوسطة الطول كقصة مريم مع قومها، وجاء القصة الطويلة التي تشبه الرواية في سورة يوسف، كما ساق القصة البالغة الطول المتعددة المواقف كل موقف في موضع، ولكن المواقف يتمم بعضها بعضاً حتى تكتمل كما حدث في قصتي موسى وإبراهيم عليهما السلام.. وهذا أبرز دليل على أن العرب كانوا يعرفون القصة بكل أشكالها وألوانها ولولا تلك المعرفة ما خاطبهم القرآن بها، وما قصها عليهم، وإلى جانب ما جاء في القرآن الكريم من القصص بجد القصص النبوي، حيث اتبع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أسلوب التربية بالقصة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص السابقين للعظة والاعتبار، ومثال ذلك قصة الثلاثة الذين حوصروا في مغارة سد فمها عليهم، فراحوا يتقربون إلى الله بصالح أعمالهم، وكذا قصة الثلاثة المبتلين (الأعمى والأقرع والأبرص)، وكذلك قصة الرجل الذي سقى كلباً في صحراء قاحلة فأنقذه من الموت فشكر الله له وغفر له ذنبه..الخ، ما كان يحكيه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مقدماً له بقوله:"كان فيمن قبلكم" ومثل هذه القصص كانت تتوافر فيه أبرز عناصر القصة وهي: الأحداث، والزمان، والمكان، والشخوص. والحوار، بل وإذا تأملنا جيداً لوجدنا فيه الحبكة القصصية، هذا إلى جانب أن تلك القصص كانت قصصاً تتميز بالواقعية والصدق، لأنها تهدف إلى تربية النفوس وتهذيبها، وليس لمجرد التسلية والإمتاع. ويذهب "بروكلمان" إلى أن فن المقامة القصصي يرجع إلى أيام الجاهلية، وكانت المقامات عن مجتمع القبيلة، وفي زمن الأمويين تتخذ شكلاً دينياً، فإذا هي أحاديث زهدية تروى في مجالس الخلفاء، ثم تطور معناها فصارت تقرن بالشعر والأدب وأخبار الوقائع القديمة(25)، ومعنى هذا أن فن المقامات نشأ تدريجياً من رواية القصص والأخبار، ثم تطور فن المقامة حتى بات مؤثراً في الأدب الغربي، حيث ظهر أثرها في قصص الشطار الإسبانية، ثم الفرنسية التي تأثرت بدورها بهذا النوع من القصص الإسباني، وكان لقصص الشطار –بالطابع الذي أخذته عن المقامات العربية، تأثير بالغ في نشأة قصص العادات والتقاليد في الأدب الفرنسي، ثم أثرت قصص العادات والتقاليد بدورها في قصص القضايا الاجتماعية التي كانت بواكير للقصة الحديثة العالمية في معنى القصة الفني، فكان للمقامات العربية تأثير مباشر وغير مباشر في نهضة القصة العالمية(26). والمتأمل فيما ظهر من ألوان القصص في العصر العباسي المترجم منه مثل كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، وما جاء في قصص البخلاء لجاحظ، وكذلك ما سبقه من قصص في العصر الأموي خصوصاً قصص الحب والتقدير كقصة جميل بثينة، ومجنون ليلى، وكثير عزة يرى أن القصة العربية في طبيعتها وأشكالها تتشابه مع بداية القصص عند الأمم الأخرى، والمنصفون من النقاد لا ينكرون تأثير القصص العربي في القصص الأروبي، ولا ينكر منصف أن القصة الحديثة في أدبنا لعربي قد تأثرت بالقصة الغربية، وسارت على مقاييسها منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن وإن كانت تطالعنا حديثاً بعض القصص التي نرى في منهج كتابتها نزوعاً نحو التخلص من القيود التي فرضها الغربيون على القصة والعودة بها إلى التلقائية البعيدة عن التعقيد، كما حدث تماماً في الثورة على التقاليد القديمة الموروثة بالنسبة للقصيدة العربية في الشعر. وخلاصة القول: إن القصة قد وجدت في أدبنا العربي القديم في كل عصوره ومنذ العصر الجاهلي وما تلاه من عصور وجدت فئة القصاصين، وأول من قص من الصحابة الأسود بن سريع، وقيل تميم الداري، وهو من أول من جلس ليقص في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومن أول من قص من التابعين بمكة عبيد بن عمير الليثي، وقد جلس إليه عبدالله بن عمر وسمع عنه، وقد أقرته السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم صار القصص مما يلقى في سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذت له حلقه كحلقة الدرس، وأول من لزم ذلك فيه، مسلم بن جندب الهذلي.. وقد سبقهم إلى ذلك عبدالله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، ثم كان القرن الثاني فجلس الحسن البصري -رضي الله عنه- وكان أصدق القصاصين(27)، للوعظ، وكان لكل هذا تأثيره.. وعلى ذا نقر وجود القصص، ولكن ليس على أساس المقاييس الغربية المستحدثة، ومن شاء أن يقف على كثير من القصص العربي القديم فليرجع إلى كتب التراث أمثال: العقد الفريد "لاين عبد ربه الأندلسي"، وبلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب "للألوسي"، والأغاني "لأبي الفرج الأصفهاني"، والمستطرف في كل فن مستظرف "للأبشيهي" والمختار من نوادر الأخبار "للأنباري" وغيرها، ليجد صفحاتها مليئة بكثير من قصص تتحدث عن شمائل العرب وسجاياهم ومكارمهم. المراجع 1-أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث ج3 "بطرس البستاني" دار نظير عبود –بيروت. 2-الأدب العربي الحديث "د. محمد صالح الشنطي" دار الأندلس -بحائل. 3-تاريخ آداب العرب ج1 "مصطفى صادق الرافعي" دار الثقافة -بيروت. 4-تاريخ الأدب العربي طبعة 26 "أحمد حسن الزيات" دار الثقافة -بيروت. 5-تاريخ الأدب العربي/ العصر الجاهلي ط14 "شوقي ضيف" دار المعارف -مصر. 6-تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي ط6 "أنيس المقدسي" دار العلم للملايين -بيروت. 7-دراسات في القصة والمسرح "محمود تيمور" دار المعارف -القاهرة. 8-فجر القصة المصرية "يحيى حقي" مصر. 9-فضول في النقد الأدبي وتاريخه "ضياء الدين الصديقي وغيره" دار الوفاء -المنصورة- مصر. 10-الفن ومذاهبه في النثر العربي "شوقي ضيف" دار المعارف -مصر. 11-فن الرواية العربية عصر التجميع "فاروق خورشيد" مكتبة مدبولي -القاهرة. 12-قضايا من الفكر العربي "يوسف عز الدين" الهيئة المصرية العامة للكتاب -مصر. 13-القصة القصيرة ط2 "الطاهر أحمد مكي" دار المعارف -مصر. 14-القصة القصيرة "يوسف الشاروني" دار الهلال -مصر. 15-مطالعات في الأدب المقارن "عدنان وزارن" الدار السعودية للنشر. 16-المنجد في اللغة والأعلام ط21، دار المشرق العربي -بيروت. 17-التكرار في القصة القرآنية "بحث مخطوط للكاتب". الهوامش (1)تاريخ الأب العربي، أحمد حسن الزيات، ص393، دار الثقافة، بيروت. (2)قضايا من الفكر العربي، د.يوسف عز الدين، ص52، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. (3)فصول في النقد الأدبي وتاريخه، دراسة وتطبيق د.ضياء الصديقي، د. عباس محجوب، ص279، دار الوفاء، بالمنصورة. (4)مطالعات في الأدب المقارن، د. عدنان وزان، ص145، الدار السعودية للنشر والتوزيع. (5)المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، مادة "قص" ص631، ط21. (6)التكرار في القصة القرآنية بحث للكاتب ص4.. (7)السابق، نفس الصفحة. (أوجزت هذه العناصر من كتاب "الأدب العربي الحديث" د. محمد صالح الشنطي ص330-332، دار الأندلس بحائل، ومن بحث للكاتب تحت عنوان "التكرار في القصة القرآنية" ص4-5. (9)نقلاً عن كتاب مطالعات في الأدب المقارن، د. عدنان وزان، ص147، الدار السعودية للنشر والتوزيع. (10)تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، طبعة 26، ص393، دار الثقافة، بيروت. (11)السابق ص31. (12)السابق ص393. (14)فجر القصة المصرية "يحيى حقي" ص21، الهيئة المصرية للكتاب، عن فضول في الأدب والنقد الأدبي وتاريخه، "د. ضياء الدين الصديقي"، و"د. عباس محجوب" ص288، دار الوفاء بالمنصورة. (15)مطالعات في الأدب المقارن "د. عدنان محمد وزان" ص147، الدار السعودية للنشر والتوزيع. (16)دراسات في القصة والمسرح "محمود تيمور" ص65-67، القاهرة مع المرجع السابق ص147. (17)قضايا من الفكر العربي \ "د. يوسف عز الدين" ص52، الهيئة المصرية العامة للكتاب. (18)القصة القصيرة "يوسف الشاروني" ص7، دار الهلال، القاهرة، 1977م. (19)القصة القصيرة "د. الطاهر مكي" ص46، الطبعة الثانية، دار المعارف، مصر، 1978م، فصول في النقد الأدبي وتاريخه، دراسة وتطبيق لكل م د. ضياء الصديقي، و د. عباسي محجوب ص281، دار الوفاء بالمنصورة. (20)تاريخ الأدب العربي/ العصر الجاهلي، د. شوقي ضيف، الطبعة 14، ص399، دار المعارف بمصر. (21)الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف، الطبعة 8، ص15، دار المعارف بمصر. (22)ومن القصص المشهورة في الجاهلية قصة المنخل اليشكري، والمتجردة زوجة النعمان بن المنذر وهي من القصص العاطفي الوجداني. (23)في الرواية العربية -عصر التجميع "فاروق خورشيد" عن كتاب الأدب العربي الحديث د. محمد صالح الشنطي، ص341. (24)الأدب العربي الحديث، د. محمد صالح الشنطي، ص342، دار الأندلس للنشر والتوزيع بحائل ، السعودية. (25)تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي "أنيس المقدسي" ص362، دار العلم للملايين، بيروت. (26)في النقد التطبيقي والمقارن "محمد غنيمي هلال" ، ص15 ، القاهرة. (27)تاريخ آداب العرب ، ج1 ، مصطفى صادق الرافعي ، ص3881 ، دار الكتاب العربي - بيروت.
مع كل احترامي وتقديري
د. بسام التلهوني
مع كل احترامي وتقديري
د. بسام التلهوني
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني