من طرف الشاعر ناظم عزت الأربعاء يناير 11, 2012 9:07 am
ملهاة اليحاة في مأساة الحلاج
هل تستحقّ هذه الحياة أن تعاش؟
من كوّتين مضاءتَيْن بنبراسَيْن أتى جوابٌ مضيء، وجواب مشحون بالقهر يصرّ على قبول الحياة ما دامت وسيلة لرفع الظلم ونصرة الضعفاء. لقد كان الحلاّج صوفياً وشهيداً ممتلئاً بالحالتَيْن. كان قلبه مصباحاً دُرّياً أحرق "الدلق" وخرقة الصوف لأن بدايته المشرقة أوصلته إلى نهايته المحرقة، والحريق هنا هو الحالتان معاً: فناء العاشق في المعشوق، والموت تحت راية نظيفة دفاعاً عن المظلومين الذين لم يكتشفوا ظلمهم إلاّ على ضوء جراحه، ولذا لم يكن موته موتاً. كان مصلوباً على الشجرة "يبدو كالغارق في النوم" و"عيناه تنسكبان على صدره". فالموت عند المضيئين لا يخشاه إلاّ الموتى. كان في الحلاّج "الوليّ" ولينين معاً، وعبر هذين العاشقين يبدأ الحلاّج مضيئاً لينتهي شهيداً. هكذا يراه صلاح عبد الصبور في مسرحيته "مأساة الحلاّج".
2
ليس ثمّة في رأي عبد الصبور برزخ فاصل بين تجلّيات الحلاّج الصوفية، وخلْع جبته لمساعدة الفقراء، وبذلك رصد ضوءه المتصاعد من صدره والمتألق كالحجر ليجعله راضياً، بل وسعيداً في دفاعه عن الفقراء والانحياز إلى قضاياهم والتحريض ضدّ التجار وغلاء الأسعار... كانت معارج لا بدّ من قطعها. فالشبلي أخو الحلاّج في الرؤية الصوفية يختلف عنه في المنهج. الشبلي حفظ نوره في داخله واشتعل به، والحلاّج خرج من ناسوته ليعلن شهادته قبل موته، انتصاراً لقضية الإنسان، ويلخّص صلاح عبد الصبور الكونَيْن عبر اتحاد الضدَّيْن في الصديقَيْن المتوحّدين في الله.
الشبلي: يا حلاّجُ اسمع قولي
لسنا من أهل الدنيا، حتى تلهينا الدنيا
(...)
هل نبصر عندئذ في قلب غمامتنا الفضيّة
إلاّ أشباحاً حائلةً تذوي في وهج العرفان
وظلالاً زائلة لا تمسكها الأجفان
الحلاّج: لكن... يا أخلص أصحابي، نبّئني
كيف أُميت النورَ بعيني
هذي الشمس المحبوسة في ثِنْيات الأيام
(...)
في كل مساءٍ تمسح عينيّ بها، توقظني من سبحات الوجد
(...)
الشبلي: لا، بل حدّقتَ إلى الشمس
وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا، فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأحدّق فيه، فأسعدْ
وأرى في قلبي أشجاراً، وثمارا
وملائكة ومصلّين وأقمارا
(...)
الحلاّج: (...) لِمَ يختار الرحمنُ شخوصاً من خلقه
ليفرِّق فيهم أقباساً من نوره
هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتلّ
(...)
الشبلي: لا، يا حلاّج
إني أخشى أن أهبط للناس
(...)
ويموت النور بقلبي
الحلاّج: هبْنا جَانَبْنا الدنيا
ما نصنع عندئذٍ بالشر؟
نحن هنا أمام شيخَيْن كبيرين من مشايخ الصوفية. الشبلي يرى التصوّف عزوفاً عن الدنيا، والهبوط إلى الوجدان العارف في أعماقه مستجلياً متلذذاً باكتشافاته الخارقة عبر نور قلبه الممتلىء بالله. أما الحلاّج الرائي الآخر فهو ملتهب بنار الوجد العرفاني كالشبلي تماماً، لكنه يرى أن رسالته الاتصال بالآخر في وحدة كونية تحارب باستمرار الظلام وتغسل بقعه عن كينونتنا الداجية، التي تنتظر حلاّجاً باستمرار كي يشعلها، ويلهب فيها جمرته القدسية. وبهذا يكون الحلاّج مسكوناً بمناضل يؤمن بالتحريض والسير في أسواق بغداد داعياً التجّار إلى خفض الأسعار، ومحرّضاً الفقراء على اتباع نهجه عبر إيمان يتدفق منه إليهم. لقد تقدّم الحلاّج من المشنقة، وهو يقول بأعلى صوته: "حسب الواجد إفراد الواحد له". وبشهادته دخل الحلاّج في "الأنا" المطلق الذي كان يراه فيه، وكان بسعيه يرى أن التصوّف الحقيقي هو "إنهاض القلب من الحق". رمزية شهادة الحلاّج دخلت في الثقافة الإسلامية المبدعة، وغدا متجدّداً بتجدّد موته في الآخر المبدع الحياة عبر الموت، والموت عندئذ ليس نهاية، وإنما هو درس في خلوة صوفية تتسع لكل المريدين من أتباع الجمهور المتعطش لجعل السراب ماءً. الموتى هم الأحياء الذين لم يتمتعوا بفجيعة الحلم اللذيذة عبر القتل الشهيّ الذي مارسه الحلاّج، وكأنه في حضرة ربّه يفرد له ذاته ويدخل فيه. الفرح للأحياء دائماً، الأحياء الذين لا يموتون حين يموتون. لذلك تكون النفس ميتة حين لا تدخل في الآخر، هكذا عبّر بودلير للتي لا تحبه: "إنها لا تدري علام يبكي الموتى"!
رماد الحلاّج المتناثر في الرياح بعد إحراق جثته لا يزال إلى اليوم يصيب أعين الظالمين والقتلة. إنّ دروشة، ضوؤها ليس مرعباً، تدخلها ظنون كثيرة، وربما نجاسات رآها الصوفيون الكبار على خِرَق أدعياء الصوفية، فإذا كانت الصوفية "إنهاض القلب في طلب الحق" فكيف نقبل تصوّفاً متشرنقاً في مساحة داخلية يعبّر عنها الشبلي بقوله حين أنطقه شاعرنا صلاح عبد الصبور:
"وطريقتنا أن ننظر للنور الباطن
ولذا، فأنا أرخي أجفاني في قلبي
وأرى في قلبي أشجاراً، وثمارا
وملائكةً ومصلّين..."؟
اختيار عبد الصبور الحلاّج رمزاً صوفياً، هو اختيار لثقافة عربية إسلامية مبدعة تتحوّل باستمرار وتهاجر من أقاليم الذات المملوءة بالضجيج الكوني إلى رحاب الكون حيث الظلام يحيط بالأفئدة الغُلْفِ، وحيث ذَهَبُ المادة يدفع الدراويش إلى إطفاء أنوارهم الحقيقية، وفَتْح التكايا لاستقبال الهبات، لا لاستقبال الظامئين إلى النور المعرفي المبدع.
3
حلوليّة الحلاّج لم تذهله، ولم تصرفه عن إخوانه الضعفاء الجائعين إلى النور والمعرفة. حلوليّته كانت دينية وثقافية مبدعة في شوارع بنت الرشيد، بينما حلوليّة الشبلي وغيره من المتصوّفة تنحو منحى انغلاقياً وتعاني جذباً باستمرار صوب الداخل:
الشبلي: يا حلاّج
لا أدري للصوفيّ صديقاً إلاّ نجوى الليل
وبكاء الخوف من الدنيا
وأناشيد الوجد المشبوب وآهات الذل
وفتوح المحبوب بنور الوصل.
ويستمرّ الشبلي في إقناع الحلاّج بأن الشرّ هو أعلى من فهمنا نحن البشر السجناء في هياكل الطين:
الشبلي: هل تسألني من ذا صنع القيد الملعون، وأنبت
سوطاً في كف الشرطيّ؟
وإليك جواب سؤالك؟
الظلم
...
لكني ألقي في وجهك
بسؤالٍ مثل سؤالكْ
قل: من صنع الموت؟
...
قل: من وسَم المجذومين؟
والمصروعين؟
قل: من سمل العميان
من مدّ أصابعه في آذان الصمّ؟
من شدّ لسانَ البكم.
والحلاّج المغمور بالمطلق يصرخ متوجعاً، من دون أن يكون له القدرة على الشكّ أمام جبروت النور الغامر:
"لا... لا... لا أجرؤ
أتريد تقول...
لا... لا...
لا تملأ نفسي شكّاً يا شبلي".
كان الحلاّج متفرّد المصير بين أصحاب الحالات الصوفيّة. كان الجسد إحدى وسائل الخلاص عبر تهديمه، لكن التهديم يجب أن يكون قيميّاً، أي ألاّ تجعله يحترق بغير نور الحق وإنهاض القلب في طلبه، بمعنى "الشهادة المضيئة" حيث يغدو الموت امتداداً للحياة، وتخليصاً لها من شوائبها القاتمة المظلمة. كان السير إلى الحق أسلوب الحلاّج في التعبير عن وحدة الإلهي الحالِّ به. كان يصرخ في شوارع بغداد: "أنا الحقّ". روى بعضهم أنه سمع الحلاّج يردد في أسواق بغداد:
"ألا أبلغْ أحبائي بأني
ركبتُ البحرَ وانكسرَ السفينهْ
ففي دين الصليب يكون موتي
ولا البطحا أريد ولا المدينهْ".
لقد ركب البحر الهائج الذي هو الحياة، وصراعه معها كان في الوصول إلى المطلق المتجلّي بإنهاض القلب في طلب الحق، وهذا يستدعي إهمال الذات بل القضاء على رغباتها الدونية، وكان يقول: "أريد أن تُقتل هذه الملعونة" مشيراً إلى نفسه. وسأله أحدهم: هل يجوز إغراء الناس على الباطل بقتله، أجاب: "لكني أغريهم على الحق، لأن عندي قتل النفس من الواجبات". انحياز الحلاّج لمحاربة جشع البشر وقتل الظلام فيهم كان طريقه لقتل نفسه عبر ما نسمّيه الشهادة.
رفضه للبطحاء والمدينة هو في المضمر قبول بهما عبر الغوص وراء الشكلي في العبادة. هو يريد عبادة أخرى تجعله منتشراً برماده في ثقافة الأمة التي أُمرت أن تفعل الخير وتساعد على حصار الشرّ. العبادة هي دخول في الآخر بمقدار ما هي سمو وصعود إلى الذات الكلّية المتجلية في اللاهوت الأسنى "المطلق".
4
مسرحية "مأساة الحلاج" بهذا المعنى لا يمكن أن نسميها مأساة، لأنها هادفة ولأن المسرح في أساس وجوده هو "حركة الأفكار" يعيد عبرها المسرحيّ خلق التاريخ. كتابة التاريخ تعني "عملية بناء المعنى" التاريخي للحدث ("الحركة المسرحية في لبنان" لخالدة سعيد)، لا باعتباره حدثاً بل باعتباره هادفاً لمعنى يريده الكاتب. فالتراجيديا في المسرح اليوناني رغم لجوئها إلى الأسطورة، هي في الحقيقة تعبير عن هزيمة البطل - الإنسان أمام القدر المهيمن، حيث استأثرت الآلهة لنفسها بالحياة الخالدة، بينما جعلت الموت من نصيب البشر، كما يبدو في الغاية النهائية لكل فكرة، هزيمة الإنسان بعد صراعه مع القدر في المسرح اليوناني هي سرّ مأساته، وهي سبب تعاطف المُشاهد مع البطل في مصيره المحتوم. هي تُصعّد حزنَ المشاهِد لتفجّره، أي، هي تخلي النفس البشرية من أحزانها المصيرية عبر تصعيد حركة المسرح، وعبر سير البطل الحثيث إلى مصيره أمام الآلهة المنتصرة باستمرار. هذا التفريغ يشبه الندب الكربلائي لدى المسلمين. تصعيد الحزن إلى الذروة هو في النهاية محاولة قذفه خارجاً بعد عملية المعارج الداخلية في أقاليم النفس الممتلئة بالتعاطف والأسى.
لكن في "مأساة الحلاّج" الأمر مختلف، حيث يهدف شاعرنا في النهاية إلى جعل الحلاّج المتصوّف بطلاً اشتراكياً ثائراً مع الفقراء ضدّ السلطة الجائرة وغلاء الأسعار والفساد الاجتماعي، فالبطل - الحلاّج منتصر في النهاية بشهادته التي ترمز إلى بقاء رماده في ثقافة الحق المبدع المستمرّ في التراث العربي الإسلامي، فكيف نسميها "مأساة"، وهي محاولة مكمّلة لمسرح النهضة، وبداية لمسرح الحداثة، وقد بدأ هذا التوجه في المسرح العربي منذ ما يزيد على مئة عام؟ صلاح عبد الصبور في هذه المسرحية الشعرية يعيد بناء شخصية الحلاّج بناءً اشتراكياً آخذاً من التاريخ، ومسبغاً عليه أفكار مرحلة التحوّل الاشتراكي التي شهدتها مصر تحديداً في فترة جمال عبد الناصر، وشهدتها المنطقة العربية في أقطار أخرى. لقد أصرّ صلاح عبد الصبور على إعطاء شخصية الحلاّج أكثر من واقعها التاريخي رغم الخيط المنسول من كتب التاريخ، حيث كان الحلاّج ينادي في أسواق بغداد ضدّ غلاء الأسعار كما سبق أن قلنا. إنه لم يغيّب الحالة الدينية عن الحلاّج بل غلّب عليها الصفة الاجتماعية، صفة الثائر الحامل صليبه على ظهره باستمرار. وهنا يمكن وضع مسرح صلاح عبد الصبور بين مرحلة النهضة ومرحلة الحداثة في المسرح العربي، حيث أعاد بناء شخصية الحلاّج وفق ما يراه ضرورياً للمستقبل العربي، وتلك حالة نهضوية في كل حال. إنها محاولة جادة للبحث والتجديد حول قضية الجدل بين الجذور التاريخية وبعث الحيوية في الثقافة العربية المبدعة. إنها محاولة تحديث التاريخ العربي كي يصبح نهضوياً داخلاً في حداثة العالم الجديد. الشاعر هنا يعيد طرح نظرية وحدة الوجود بمفاهيم حديثة متصلة رغم حداثتها بالحلول الصوفي المعروف منذ الحلاّج ومحي الدين بن عربي:
"أراد الله أن تُجلى محاسنه، وتُستعلن أنوارهْ
فأبدع من أثير القدرة العليا مثالاً، صاغه طيناً
وألقى بين جنبيه ببعض الفيض من ذاته
وجلاّه، وزيّنه، فكان صنيعه الإنسان
فنحن له كمرآةٍ، يطالع فوق صفحتها
جمالَ الذات مجلوّاً، ويشهد حسنه فينا".
فإذا كان الله حالّاً فينا فكيف لا نُنهِض القلب في طلب الحق؟ من هنا يبدأ الانسجام الثقافي المتحدّر من "الفرد الواجد" بالصعود إلى المجتمع هادماً وبانياً وماحياً ومثبتاً. هذا ما أراده صلاح عبد الصبور في مسرحيته هذه:
"وكما لا ينقص نور الله إذا فاض على أهل النعمهْ
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء
...
جوعُ الجوعى، في أعينهم تتوهّج ألفاظٌ
لا أوقن معناها
أحياناً أقرأ فيها
ها أنت تراني
لكن تخشى أن تبصرني
لعَنَ الديّانُ نفاقكْ
أما ما يملأ قلبي خوفاً، يضني روحي فزعاً وندامهْ
فهي العين المرخاةُ الهدب
فوق استفهام جارح
"أين الله"
والمسجونون المصفودون يسوقهمُ شرطيٌّ
مذهوب اللبّ
...
من فوق ظهور المسجونين الصرعى قد رفعه
ورجال ونساء قد فقدوا الحريّة
تخذتهم أربابٌ من دون الله عبيداً سُخريّا
يا شبلي
الشرّ استولى في ملكوت الله
حدِّثْني... كيف أغضّ العينَ عن الدنيا
إلاّ أن يُظلمَ قلبي".
اشتعال القلب بأقباس الإيمان في نظر الحلاّج هو حتميّة الانحياز إلى قضايا الناس الأساسية: الحب، الحرية، الخبز، الحلم، وبهذا يختلف عن أولئك المجذوبين الذين ينساحون في شطحات تخرجهم من جلودهم للضياع في صحارى لا حدود لها، ولعلّ هذا الانحياز هو الذي تكوّر صليباً ليصلب الحلاّج عليه على جذع شجرة لا تعرف أي مسيح يُصلب عليها!
واضح أن صلاح عبد الصبور يترجم عبر "مأساة الحلاّج" الخطاب الأيديولوجي في مصر أثناء التحول الاشتراكي ومحاولة نشر العدالة الاجتماعية بين الجميع، ولذا كان لا بد من التقاء الغابر بالحاضر في قضية واحدة، وبهذا يكون المسرح في مراميه النهائية عملية استعادة وتكرار خلق المشهد الهادف عبر خشبة المسرح، ويكون في الوقت نفسه زمن الحلاّج هو زمن التحوّل الاشتراكي في مصر: الزمان والمكان ينموان معاً في المسرحية في مسارٍ صراعي، كما سنبيّن ذلك.
5
النمو المسرحي في "مأساة الحلاّج" يكون مرموزاً له بقضيتَيْ الخير والشرّ وقواهما المحتشدة، ولا بدّ في النهاية من انتصار الحق، والنصر هنا يأخذ شكل الشهادة. وتغدو الشهادة بداية لا نهاية لأنها تؤسس لمرحلة تكون أشبه بالولادة. روح الحلاّج ظلّت في حالة حضور، وجسده "مات يوم مات". حضور الروح يعني أن الحلاّج دخل في الآخر عبر الثورة والحلم، وهذا ما أراد الشاعر إثباته ونفي الموت عن الخالدين، الذين يهجمون على الموت مسلّحين بقضاياهم... "كان يريد أن يموت كي يعود للسماء". قوى الخير والشرّ تتصارع في المسرحية، شخصيات قديمة جديدة تظهر حاملة فكر السلطة لتقمع معارضيها، لكن باسم المبادىء والقيم التي تزركش عرش الحاكم، ولا تدخل صدره. يدخل إبراهيم بن فاتك وهو مريد الحلاّج وخادمه:
إبراهيم: ما أصبحنا في خيرٍ بعد الآن
قد كنت اليوم أزور القاضي ابن سُريجْ
نبّأني أنّ ولاة الأمر يظنّون بك السوء
الحلاّج: بي يا إبراهيم؟!
إبراهيم: ويقولون
هذا رجل يلغو في أمر الحكّام
ويؤلّب أحقاد العامّة
ورجائي أن أنبيك رجاءه
بالحيطة والكتمان
الحلاّج: ماذا نقموا مني:
أترى نقموا مني أن أتحدّث في خلصائي
وأقول لهم: إن الوالي قلب الأمّة
هل تصلح إلاّ بصلاحه
فإذا ولّيتمْ لا تنسوا أن تضعوا خمر السلطة
في أكواب العدل.
هذا هو جوهر الخلاف بين الحلاّج والسلطة، لكنّ السلطة لا تنقم منه علانية بأسلوب يجعل الناس تتبعه، ولذا رموه بالزندقة، وهم باعتبارهم أمناء على دين الله في ملكوته يحولون بين المرء وقلبه، ويكون لزاماً عليهم إقامة الحدّ على الزنادقة ليستقيم دين الله في الأرض، هذا ما يعلنون، وغير ذلك يبطنون. وتنمو المسرحية في مسار صراعي بين قوى الخير وقوى الشرّ، وتنتشر عيون الحكّام وعَسَسُهم لتشويه سمعة هذا الثائر المشرق، وتتبعه الشرطة وهو يخاطب الناس وهم مزوّدون بالأسئلة التي تلقى عليه لرميه بالزندقة. كان الحلاّج في لحظة توحّد وحلول ووعظٍ جوّاني لا يرقى إلى فهمه أصحاب القلوب الغليظة:
الشرطي: "مقاطعاً"
ولكن شيخنا الطيّب هل ربي له عينان
لكي ينظر في المرآة؟
الحلاّج: ولكن ولدي الطيّب، هل قفلٌ على قلبك
حتى ينطق القرآن
شرطي آخر: أجدت الرد، كيف إذن تظنّ الله
بلا نعت ولا تشبيه؟
الحلاّج: أظنّ الله، كيف، ونوره المصباح
وظني كوّةُ المشكاة
وكوني بضعة منه تعود إليه
الشرطي: أتعني أن هذا الهيكل المهدوم بعض منه
وأن الله جلّ جلاله متفرّق في الناس؟
الحلاّج: بلى فالهيكل المهدوم بعض منه إن طهرتْ
جوارحه
وجلّ جلاله متفرّق في الخلق أنواراً بلا تفريق
ولا يُنقص هذا الفيضُ أدنى اللمح من نورهْ
شرطي ثالث: فأنت إذن إله مثله ما دمت بعضاً منه.
الهدف كان إيصاله إلى هذه الحال، كي يستطيع الحاكم صلبه بتهمة الزندقة والكفر، والحقيقة أن الحلاّج كان ممتلئاً بالله في حلوليّة لا تأبه بالموت بل تطلبه للوصول إلى السماء. وينمو المسار الصراعي حتى يصل إلى المحاكمة التي يكون فيها وُعّاظ السلاطين هم "الخصم والحكم"، أما الفرد المتألّه بإنسانيته فيدخل في وجده غير عابىء بكل هذا الورم الإيماني الذي يبدو على أجساد السلاطين ووعّاظهم.
وها نحن مع الحلاّج في المحكمة التي هي مضلّة ومظنة، ما عدا القاضي ابن سريج الذي رفض أن يكون قاضي الشيطان في محاكمة الإيمان، لكن قبل المحكمة - المؤامرة أدخلوا الحلاّج السجن فأضاء نفوس من كانوا فيه بنقائه، لأن أصحاب القضايا الكبرى لا تحجبهم الزنازين وجدران السجون العالية الخالية من النوافذ.
الحارس: ادخل يا أعدى أعداء الله
ولتجلسْ بين رفيقَيْك
الحلاّج: يا صاحبَ هذا البيت
هبْ ضيفك نوراً
السجين الأول: (هامساً لرفيقه)
هذا رجل مأفون
يتوهّم أنّا جئنا في مأدبة أو حفل
السجين الثاني: من يدري، هل هو مسكينٌ مثلي أو مثلك
سجنوه إذْ هو أضعف من أن يفلت من
عسف القانون
أم شريرٌ، قد سلّطت الأيام عليه شريراً
أكبر منه
السجين الأول: أو والٍ نقّى مما أحرزه الأوباش
مكنونات وطرائف من نسوان ورياش
ودعا وزير القصر فأطعمه وأنامه
فتحلب ريق وزير القصر
واستصفى ماله
السجين الثاني: ورماه في السجن.
صورة واضحة عن حال الحاكم والمحكوم في عصر الحلاّج، وما أشبه اليوم بالأمس، لذا ينشدّ المشاهد لمعرفة النهاية منتصراً للحلاّج، إذ هو منتصر لنفسه في النهاية. التعاطف مع البطل المهزوم من قبل الجمهور منبعث من وحدة الرؤيا لقضايا الحرية والخبز والعدالة.
في هذه المسرحية، الجمهور ليس مع ذهاب البطل إلى الموت، رغم النصر المرموز له بالشهادة، لأنه يعتبر الميت ذاهباً إلى القبر مهزوماً، بينما البطل يرى نفسه صاعداً إلى السماوات العلى منتصراً لقضية الإنسان الأولى، مخترقاً جدار الخوف المتكوّر في "حفنة من تراب" ("الأرض اليباب" لإليوت). ولأن فكرة الموت لا يمكن تمثيلها على خشبة المسرح إلاّ في جثة هامدة، فإن الجمهور ينتصر لهزيمة البطل محاولاً هزيمة الموت نفسه، ومن هنا تبرز أهمية الشهادة في انحياز الجمهور إلى أصحابها، وتصبح القضايا المرموز لها بالشهادة في ما وراء الخشبة والمسرح والجمهور في آن واحد. إنه الحلاّج هنا في مصيره عند صلاح عبد الصبور يشبه المسيح في مسرحية "يسوع سرّ الآلام" التي قدّمتها فرقة منير أبو دبس في كنيسة انطلياس في نيسان 1973. الشهادة على خشبة المسرح تجعلها امتداداً للحلم وانكساراً له في آن واحد. وما يجعل المشهد لذيذاً هو امتلاؤه بروح الشرق والجذب الصوفي الحادّ الذي يرى في الموت عبوراً إلى برزخ الحلم الأبدي المنتصر بإشراقة النور الغامر ماحياً كل بقع الظلام في أحادية كونية سرمدية. أما في المحكمة فالسلطة تجلس على منصّة القضاء حاكمة سلفاً وتدين قبل السؤال، وهي بريئة من العدل تماماً، منحازة كمحاكم السلطات في زمننا، وقد لا تختلف إلاّ بالأسماء والأمكنة، غير أن القضية واحدة والقاضي واحد والحاكم يبقى هو المعصوم وهو ظل الله على الأرض لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. القاضي قبل رؤية المتهم يحكم بفساده. التهمة جاهزة ولصيقة بالحلاّج مثل كل أصحاب القضايا الكبرى حين تحاكمهم سلطات شمولية متعسفة طاغية:
القاضي أبو عمر: يا حاجبُ...
لِمَ لم يأتوا بالرجل المفسد حتى الآن؟
والقاضي الذي هو وعاء السلطان الشرعي، لا يحكم بفساد المتهم سلفاً بل بفساد المجتمع كله إذا انتصر المظلوم، فحين أخبر الحاجبُ القاضي أن الشرطة سيأتون بالمتهم من باب سرّي لأن العامّة تجمهروا للدفاع عنه في شوارع بغداد لم يفهم القاضي ذلك، بل أصر على فساد العامّة أيضاً:
"ألأن عدوَّ الله والسلطان يُؤَدَّبُ
يتجمع أوباش الناس على الطرقات؟
حقاً! ما أصغر أحلامَ العامّة".
القاضي يحرّض الشرطة على العامة ليفقد آخر حالةٍ من حالات القضاء. ورغم السلطة وأدواتها القمعية يبقى صوت العامّة قادراً على ملء قلوب وعّاظ السلاطين والسلاطين بالخوف. وككل زمان يبقى بعض الشرفاء في القضاء يمانعون ويصوّبون باتجاه الحق، كما فعل القاضي ابن سريج في محاكمة الحلاّج:
ابن سريج: أأبا عمر، قل لي، ناشدت ضميركْ
أفلا يعني وصفك للحلاّج...
بالمفسد، وعدو الله
قبل النظر المتروّي في مسألتهْ
أن قد صدر الحكم...
ولا جدوى عندئذ أن يُعقد مجلسنا.
والظلم يُعرف بأهله، وتستمرّ المحكمة المهزلة:
أبو عمر: لا، ليس بأيدينا، إذ نحن قضاةٌ، لا جلاّدون
ما نصنعه أن نجدل مشنقةً من أحكام الشرع
والسيّاف يشدّ الحبل.
تُدخل الشرطة الحلاّج، وتبدأ مهزلة القاضي الخارج لسانه من جيب السلطان الأصفر، والقاضي ابن سريج يستعفي من مجلس القضاء احتجاجاً على سير المحكمة الباغية:
ابن سريج: هل نحن قضاةٌ باسم الله
أم باسم السلطان؟
أبو عمر: بل قل أنت
أَوَتنكر أن السلطان خليفة رب الأكوان
على الأكوان؟
وتبدأ ألاعيب السلطان الخادع، حيث يرسل رسالة إلى المحكمة فيها ما يأتي:
"إن الدولة قد سامحت الحلاّج
فيما قد نُسب إليه، وتثبّت منه السلطان
من تحريض العامّة والغوغاء على الإفساد
وعفت عنه عفواً كلياً لا رجعة فيه.
أبو عمر: لكن وزير القصر يضيف
هبنا أغفلنا حق السلطان
ما نصنع في حق الله
فلقد أُنبئنا أن الحلاّج
يروي أن الله يحلّ به، أو ما شاء له الشيطان
فالوالي قد يعفو عمّن يجرم في حقه
لكن لا يعفو عمن يجرم في حق الله".
هذا الكلام الدائر في المحكمة يذكّرني بكلام لشكسبير: "الملوك لا يأمرون بالقتل، لكنهم يسمحون به".
وتمضي المهزلة حيث يتمّ الإعدام، ويهتف العامّة بأمر السلطان للسلطان مكررين كل زمان، ويستمرّ القتل، لكن الحلم يظل أقوى من القتل، وكم يحزّ في النفس أن الذين تموت من أجلهم يهتفون بموتك.
القاضي أبو عمر بعد الإعدام "يلتفت إلى جمع الفقراء":
"ما رأيكمُ يا أهل الإسلام
فيمن يتحدّث أن الله تجلّى له
أو أن الله يحلّ بجسده؟
المجموعة: كافر... كافر
أبو عمر: بمَ تجزونه؟
المجموعة: يُقتل، يُقتل
أبو عمر: دمه في رقبتكم؟
المجموعة: دمه في رقبتنا
أبو عمر: والآن... امضوا، وامشوا في الأسواق
طوفوا بالساحات وبالخانات
...
لتقولوا ما شهدت أعينكمْ
قد كان حديث الحلاّج عن الفقر قناعاً
يخفي كفره
...
فامضوا، قولوا للعامّة:
العامّة قد حاكمت الحلاّج
إمضوا... إمضوا... إمضوا".
المأساة تنتهي بشهادة الثائر، وهتاف الغوغاء على طريق عبّده الظلم منذ فجر المسيرة الكونية. البطل مهزوم سلفاً، ومصعوق بلعنة سيزيف وهو يحمل صخرته إلى الجلجلة، وعينه على المنحدرات التي سيستمرّ بقطعها إلى أبد الآبدين. إنها السرّ والقربان معاً في مسيرة الحياة، حيث الظلم ينتصب باستمرار بكل أدواته أمام أصحاب القضايا الكبرى.
6
المسرحية تمزج بين الديني والاجتماعي، في حالة وعي واحدة هي الثورة المستمرّة. والدين هنا ليس طقوساً ومناسك، إنما هو رؤى واختراق وبشارة، والحلاّج في تصوّفه رأى الظلم أكثر، ورأى الحقيقة بمقدار ما رأى الله حالّاً به. ومن هنا يبدو مدفوعاً بقدره إلى مصيره المحتوم. الضوء الساطع في أعماقه كان باستمرار يدلّه ويقوده إلى الشجرة التي سيُصلب عليها. نحن ننحاز إليه، أما هو فالموت عنده مرحلة من مراحل المكاشفة مع الله، وهذا ما يخفف من ألمه، وهذه طبائع الشهداء باستمرار، إنهم يجبروننا على الحزن، لأننا لا نعاني مثلهم من ضوء المصباح الدرّيّ في مشكاة أجسادهم. كان مولانا جلال الدين الرومي يقول: "لا تعبدوا حتى تروا"، في معنى أن الله شديد الحضور في بصيرة المريد، ومن كان الله حاضراً في بصيرته لا يرى الموت موتاً، بل يقدم عليه مختاراً، وكأنه على موعد مع معشوقه. والحلاّج كما يقول صلاح عبد الصبور: "كان يريد أن يموت كي يعود للسماء".
إذاً، الموت هنا ليس عَوْماً في العدم، إنما هو البرزخ الذي نعبره للوصول إلى الحالة الأسنى، حيث يغدو الإنسان والخالق متداخلين تماماً:
"لا يخشى الموت سوى الموتى".
وإدراك المريد أن الموت ضدّ العدمية ينقذه من العذاب الذي نعانيه نحن أبناء التراب. إنه ربما كان في حالة فرح، حيث تتحقق مشيئته عبر شهادته:
"وحينما أسلمه السلطان للقضاة
وردَّهُ السلطان للسجّان
ووُشِّيتْ أعضاؤه بثمر الدماء
تمّ له ما شاء".
إيمان الحلاّج يفصله عن خوف الجمهور، هو مطمئن للنهاية - البداية، ويريد أن يبيت عند ربه:
"هو خالقنا وإليه نعود".
الإيمان ينزع الخوف من النفس، وبمقدار ما يغوص الإيمان في الذات يخرج الخوف، وتغدو النفس البشرية متصالحة مع قدرها عن وعي وإرادة، وبهذا تختلف هذه المأساة عن المآسي اليونانية. هنا البطل هو الذي يصنع مصيره (الشهادة)، أما في المسرح اليوناني فالآلهة هي التي تصنع مصير البطل، ويكون الانتصار له أكبر من الجمهور. في هذا المعنى يكون العنوان الذي اختاره صلاح عبد الصبور ("مأساة الحلاّج") غير دقيق، حيث أن الحلاّج هو صانع فعله وقدره معاً، وتكون المأساة أقلّ عمقاً في الذات، لأن البطل يسعى حثيثاً إلى مصيره الحميم. حين حدّق الشاعر الفرنسي بودلير خلف الستارة لم يرَ غير العدم، ولذا كان إحساسه فاجعاً مؤلماً: "إنها لا تدري علامَ يبكي الموتى". عدمية بودلير جعلته يرى الحياة عبثاً، ولذلك كانت حياته مأساة مستمرة في ملهاة اسمها "الحياة" حيث لم يستطع أن يرى إبداعاً مبرّأ من الألم. الحلاّج هنا لا يتألم لأن الموت عنده أمنية تتصل بالضوء وبالمعشوق في آن واحد.
ثقافة السلطة كانت تحرّف فكر الحلاّج وتحمله ما لا يريد حمله، وكانت تبثّها عبر الشرطي والقاضي والسجّان والغوغاء، لكن هذه الثقافة تظل غائبة رغم حضورها، وتظل ثقافة الحلاّج هي الحضور رغم غيابها. مصير الحلاّج كان يهشم "لا أبالية" الضمير الإنساني المضمر تحت كراسي الحكام. ويظل موت الحلاّج ضرورة في كل عصر لتوحّد الإبداع مع الحق المطلق، حيث لا إبداع من دون فعل، والفعل كي لا يكون دونياً يجب مزجه بمحو الإرادة الجسدية للامتزاج بإرادة الحق المبدع.
والذي يشدّ الإنسان (الجمهور) إلى المسرح، يحمل في معظمه تأثيرات التربية الفكرية والبعد الروحي في أمة ما، فالحلاّج شهيداً عند فئةٍ مسلمة يحمل بعض الخلاف عن الحلاّج شهيداً عند أمةٍ غير مسلمة، مع أن قضايا الإنسان الكبرى متطابقة باستمرار، وهذا التمايز ناشىء عن اختلاف فهم الإبداع الكلّي بين أمّة وأخرى "لأن طريقنا في الوعي إلى الأشياء، في التفكير، في التخيلات تختلف كثيراً عما هو عليه سوانا، فلذا سنخلق إن أردنا أم لم نرد طريقة جديدة خاصة بنا"، وهذا يساعد على نفي التقليد. فلو أعجبنا المسرح الروسي مثلاً وطريقة ستانيسلافسكي القائمة على معرفة الكائن نفسه وتدريبها إلى أن تصل إلى الوعي البسيكولوجي الذي هو ضروري جداً للمسرح، نقول رغم صحة هذا المنطلق، تظلّ الفوارق بين أفكار الأمم ومشاعرها لها التأثير الكبير في الممثّل والجمهور معاً، وهذا ما حاول صلاح عبد الصبور حشده في "مأساة الحلاّج"، حيث كان الفكر الصوفي المبدع أحد أهم عناصر الدفاع عن شخصية الحلاّج في المحكمة، وهو الذي جذب إليه السجّان والسجناء معاً. وكانت قضية الإيمان هي مأساته عند الجمهور البسيط الذي اعتقد أن الحلاّج كافر ومفسد في الأرض، ودور السلطة واضح في تكوين هذا الوعي المنحرف لدى الجمهور.
7
ثمة صعوبة في مسرحة الوعي الذهني المجرّد إلى فعل مسرحي، كأن يُطلب من الممثلين أن يكونوا "كما هم في الواقع" ("الحركة المسرحية في لبنان" لخالدة سعيد). هذا يعني أن المسرح يصبح أسهل في نقل الفعل أكثر من الفكر المجرّد إلى خشبة المسرح، فالمؤلف المسرحي يؤلف نصاً، لكن الصعوبة تتأتى من نقل الكلمة إلى فعل مسرحي، وبخاصة عندما يكون النص المسرحي ذهنياً، كما في بعض مسرح توفيق الحكيم. مع ذلك تظل الحركة متوافرة إلى حدّ ما في "مأساة الحلاج" لسرعة تنامي الحدث في الشارع والسجن وقاعة المحكمة. والمسرحية تصبح ناجحة على خشبة المسرح بمقدار ما تثير من انفعالات في الممثل والجمهور معاً، وبمقدار ما يكون الممثل منفعلاً ومبتعداً عن اللعب وتمثيل الانفعالات يكون ناجحاً، ولعلّ فكرة الشهادة في "مأساة الحلاّج" من أهم بواعث الهياج عند الجمهور المتلقي، وهذا يرفع المسرحية وشخوصها من المسرح إلى الحياة نفسها. فهم الفضاء الروحي لأمة مع زمنها الخاص بها ضروري لفهم التأثر والتأثير في العمل المسرحي. وعصر الحلاّج كان عصر جذب صوفي حاد بعد الانكسارات التي أصابت كيان الأمة، وكان ظهور البطل ضرورياً لإعادة الثقة إلى الجمهور المنهزم. وفكرة الشهادة في هذه المسرحية تلغي نظرية كريغ القائلة: "إن الحقيقة العليا غائبة". وقوام هذه النظرية أن الواقع المحسوس ليس موطن الحقيقة، فما تكون جدوى "مسرح يجتهد في محاكاة الواقع"؟ والمبدع هو الذي يعيد بناء العناصر المأخوذة من العالم المحسوس لتصبح إشارة إلى المعاني والحقائق الغائبة. إعدام الحلاّج هو واقع محسوس، لكنه بما يعنيه لا يجعل الحقيقة غائبة، بل يجذب الجمهور إلى تصوّر الألم والمعاناة وجبروت الفكرة وقساوتها التي تجبر الروح على تسليم الجسد بكل كبرياء. هذا يؤثّر كثيراً في الجمهور كما يقول كريغ: "الشكل الفني للألم أشدّ إثارة للنفس من الألم ذاته". لهذا يكون الجمهور في القاعة أشدّ ألماً من الحلاّج الذي يستسلم لحبل المشنقة، في طقس جنائزي مرعب.
8
بقي أن نقول إن صلاح عبد الصبور هو من مجموعة الشعراء الروّاد: بدر شاكر السيّاب، خليل حاوي، نازك الملائكة، عبد الوهاب البيّاتي... وهي بداية الحداثة في شعرنا العربي الحديث، ولعلّ سرعة الزمن الحالي على أصعدة المعرفة كافة جعلتنا ننظر إلى لغتهم اليوم، وكأنها امتداد للكلاسيكية الجديدة، وممثلها عمر أبو ريشة، والتي جاءت تطويراً لمرحلة البارودي وشوقي وحافظ. وما يهمّنا الآن في هذه الدراسة عن صلاح عبد الصبور كشاعر مسرحي هو اللغة التي كتب بها مسرحيته الشعرية "مأساة الحلاج" والتي نرى فيها ما يأتي:
أ - حاول الشاعر جاهداً الجمع بين لغة الحداثة، ولغة الواقع التي يحتاجها مسرحه، وهذا ما جعله متنافراً أحياناً كثيرة. استقبال النص المسرحي يحتاج إلى استيعاب دلالة الكلمات في مراميها البعيدة، وهذا ما يقرّبها من الرمز ويحدِّثها، لكنها لم تكن كذلك عند صلاح عبد الصبور. فقد كتب المسرحية شعراً، والمسرح الشعري كان نافذاً ومهيمناً في مرحلة طفولة الحضارة وسيطرة الأسطورة على الشاعر المسرحي وجمهوره المتلقي، لذلك استُقبلتْ المسرحية اليونانية استقبالاً داخلياً وشارك الجمهور الشاعر في خلق الحالة بالانتصار للبطل والتدخّل في النص أحياناً. كان ثمة حنين في العقل البشري ليبقى في طفولته الرعوية، أما اليوم فهل يصلح المسرح الشعري لحمل القضية؟ أقول نعم في حالة المسرح الغنائي الذي صعد به الرحابنة عبر النص المبدع وعبر حنجرة فيروز الخالدة إلى كل وعي ووجدان، ودخل إلى كل بيت لا بصوت فيروز وحدها، وإنما بإيماءات ودلالات الكلمة وشخصية البطل. مسرحية "بيّاع الخواتم" بشخصية راجح وعالم القرية الثري نقلت الحالة ليس إلى المجتمع اللبناني فحسب، بل راحت عميقاً في وجدان المتلقي العربي، وأصبح راجح رمزاً سياسياً، وكذلك "يعيش يعيش" وغيرها كثير. لغة صلاح عبد الصبور المسرحية لم تتقن لغة المسرح، ولا حافظت على ريادته الكلاسيكية.
ب - استعمل عبد الصبور على ألسنة البطل وخلصائه اللغة الصوفية، وهذه شهادة له وليست عليه، وقد مرّت معنا في هذه الدراسة نماذج واضحة منها ولا داعي لتكرارها. وهذه اللغة تحدث خرقاً على خشبة المسرح يغذّي حالة التشوّق القصوى التي يريد المتلقي أن يتقدّم عبرها إلى مرحلة متقدّمة. ولعل وظيفة المسرح تكمن في هذا الاتجاه، حيث الدلالة تتحوّل إلى فعل، ويصبح المسرح ثورة يخافها الحكام خوفهم من الموت نفسه. المسرح الملتزم هو تحريض قوي على سلطات لا تؤمن بالتغيير إلاّ في إرثها وتناسخها إلى الأدنى باستمرار. استعمال لغة المتصوّفة متناسب مع روح الأمة التي تنتظر المخلّص، ويكون المسرح عندها إرهاصاً وربما ولادة. كان المسرح اليوناني يفتح الحالة عند الجمهور بما يناسب الطبيعة الداخلية للإنسان اليوناني، كان يبدأ "باستشعار السماء الصافية وزرقتها القاسية، وإذا كان نصاً شكسبيرياً يحضر الضباب والعالم الرمادي القاتم" ("الحركة المسرحية...")، ولذلك لا بد للمسرح من هوية وتاريخ ورقيا في كل مجتمع. رغم أن الأمة العربية بتركيبتها الدينية رفضت المسرح إلاّ أنها احتوت الحالة، وعادت إليه بمواسم كربلائية، على سبيل المثال، لتفريغ الحزن المشحون في النفوس المقهورة، وانتصاراً لشآبيب الدم التي يرونها مسكوبة على ثرى "الطف".
ج - استعمل عبد الصبور لغة الشارع ولغة العصر الاشتراكي، محاولاً عبرهما تحويل الحلاّج صاحب نظرية الحلول إلى ثائر اشتراكي. ورغم الانطلاق من حقيقة تاريخية تشير إلى بعض هذا، إلا أن لغة العصر الاشتراكية لا تتناسب مع لغة الجذب الصوفي التي ظلّ الحلاّج فيها حتى صعد إلى ربه "حسب الواجد إفراد الواحد له".
ولا بدّ من الاعتذار من شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور، فـ"ما أصعب الفن وما أسهل النقد". مع أنني أعتقد اعتقاداً راسخاً أن النقد هو كتابة أخرى للنص المُنتقَد، وليس الناقد "كالدجاجة التي تُقَوْقىء كلما باضت جارتها" كما يقول ميخائيل نعيمة. والناقد أيضاً ليس عدواً للمبدع بل هو استمرار له، وليس أيضاً كما يقول المثل اللبناني "من غربل الناس نخلوه". فالحركة الأدبية لا تنمو إلاّ عبر التكامل المتضاد بين طرفين يلتقيان بمقدار ما يختلفان. المسرح الإنساني ليس أجساداً وأضواءً وأشكالاً على خشبة المسرح، إنما هو ظلال الأشياء الداكنة في النفس، والتي تتوق باستمرار إلى الانعتاق باتجاه الضوء. لقد كانت الأوثان الحجرية القديمة بداية الانطلاق للديانات التي جعلت اللاهوت فضاء بلا بدء وبلا نهاية، وتركت مجالاً للاستمرار في الأسئلة ومحاولة الاختراق: "كل ما خطر في بالك فهو على خلاف ذلك". المسرح أفكار ورموز في حفنات الطين المتحركة على المسرحة، إلى درجة أن الممثل الجيّد قد يموت على خشبة المسرح لشدّة توهجه وحضوره في دوره. فبمقدار ما كانت الغابات مسكناً لساحرات ماكبث كان المسكن الحقيقي لهن في أعماق ماكبث، وليدي ماكبث. والممثل الذي يمثّل هذا الدور يجب أن يمتلىء بالحالة حتى لكأنه هو هي. وقد يقترب قدره من قدر بطل المسرحية نفسها.
للكاتب عمر شبلي
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني