(4)



شلال عبد الفتاح، موظفٌ من الطراز الرفيع، قضى ثلاثة عقود من حياته الوظيفية بين مساعد مسئول ومسئول رئيسي في دائرتي الأراضي وأمانة العاصمة.

عندما كان يُذكر اسمه، تنكسر النظرات احتراماً له، حتى وإن كان غائباً، فلم يرد على لسان أنه كان ممن يقبلوا حضور العزائم والولائم التي يقيمها أشخاصٌ يودون أن يجروا موظفاً ليدخلوه في دائرة الفساد، ولم يرد على لسان أحد أنه قبل هديةً أو رشوة.

كان مثقفاً موسوعياً، ويتمتع بالسكوت والصمت، حتى يُطلب رأيه، فإن كان ذلك، فإنه يوظف ثقافته في أقل عددٍ من الكلمات، ليترك انطباعاً طيباً، يُضاف الى رصيده الذي يزيد احترام المسئولين والحاضرين له.

كان يتمتع بصفات فريدة في حفظ القوانين، وتوظيفها عند طلب الرأي أو اتخاذ القرار، كما أنه يُعتبر من الموظفين القلائل الذين يستفيدون من أسفارهم الى خارج البلاد، لتنظيم المدن. وقد جعل من العاصمة مدينة سريعة التطور في تنظيم جسورها وطرقاتها وساحاتها. وقد كان الكثير من أمناء العواصم العربية يرجعون إليه لتقديم العون والاستشارة.

كان ابن عائلة ريفية، تملك الكثير من الأراضي، وأبنائها يقبلون على التعليم، كما كان له الكثير من الأخوة والأخوات والأبناء من زوجتين أحدهما توفت وتركت مجموعة من البنات والأولاد، كلهم قد تزوج وأنجب المزيد من الذرية. وقد ساعدهم موقعه وسمعته في أن يتسلموا مواقع وظيفية على درجة من الحساسية، في أكثر من وزارة.

استطاع شلال أن يؤسس شبكة دقيقة من أقرباءه وأصهاره، أشبه ما تكون بمنظمة سرية، تم تكليفها بفتح متاجر قروية في أطراف العاصمة، وكان كل واحدٍ منهم يعرف طبيعة عمله، فبعد مرور عشرين عاماً، كان يملك هو حوالي ثمانمائة ألف متر مربع، بعضها كان سداد دين عن حلاوة وتبغ وبعض المواد التموينية، وبعضها كان من خلال عمليات الشراء ب (تراب المال). لم يسجل شيئاً باسمه، بل رتب ذلك من خلال توكيلات وعقود معقدة، إضافة الى أنه أفاد من خدموه إفادة يجعلهم لا يفشون له سراً.

(5)


لم يستطع عملاء شلال من شراء مترٍ واحد من أراضي (أم الضباع) والتي تعود ملكيتها لعائلة (فارع أبو الزغاليل)، فقد كانت مواصفاتها أكثر جودة من الأراضي التي تم شرائها، كانت أراضي عميقة مطيرة، يزرع بها فارع القمح والبقوليات ويربي الدجاج البلدي والخراف والحمام وغيرها، فكان أهل العاصمة يعرفونه ويعرفون منتجاته التي يفضلونها على المستوردة أو المنتجة بطرق حديثة تحت مسميات (بيض بلدي، خروف بلدي، زغاليل فارع الشهية الخ).

مرت عدة سنوات، حتى امتد التنظيم الى تلك المنطقة، فاستطاع عملاء شلال أن يبيعوا مائة ألف متر لإسكان أساتذة الجامعات، وبعض كبار الموظفين، حتى امتلأ المكان بالفيلات والقصور الفخمة.

كانت امرأة فارع أبو الزغاليل، على قدرٍ كبير من الجمال والفتوة رغم سنين عمرها التي جاوزت الأربعين، فكانت تنظر الى نساء سكان الحي الجديد نظرة ممزوجة بالحسد والاستعلاء في نفس الوقت. لم تكفها المردودات التي تهل على العائلة من بيع المنتجات، بل أخذت تحسب، إنها تملك هي وزوجها حوالي مائتي ألف متر، وثمن المتر الواحد يعادل دخل العائلة لأسبوع أو أكثر، بماذا تتباهى عليها النساء اللواتي يقصدنها لشراء منتجاتها؟ وتطل إحداهن من شباك السيارة لتبلغها أنها تريد لبناً وزبداً وزغاليل؟ هي أجمل من أكثرهن، وهي تعلم كم غاب أزواجهن في الخليج والغربة ليشتروا قطعة أرض، فلماذا لا توقف (عنطزتهن) وتبني بيتاً أفخم من بيوتهن وتشتري سيارة أحدث من السيارات اللاتي يركبنها؟ ولماذا لا تنهي شقاء أولادها وتبعثهم الى الجامعات؟

كان من الصعب عليها أن تفاتح زوجها (فارع ) بتلك النوايا، فزوجها كأبيه، كأمه، لم يكن يعرف التصرف بمبلغ يزيد عن ألف دينار، فلم يتدرب على تماطي طلباته أو حتى أحلامه. فابتكرت طريقة جعلت سكان الحي يبتعدون عنها شيئاً فشيئاً، كانت تترك الأوساخ قريبة من مكان مناولة الحاجات التي يشريها الزبائن، وأحياناً ترمي ببعض الذباب فوق الحليب.

ما هي إلا أيام قليلة، حتى جاء موظفو الصحة، وبلغوا فارع بضرورة تصويب أوضاعه، والتوقف عن تربية الحيوانات أو ممارسة بيع المنتجات الغذائية.

كان لزوجة فارع ما أرادت، فتم بيع قطعة أرض وبناء بيت فخم وشراء سيارة وإرسال الأبناء الى الجامعات في الخارج.

(6)


دفعت الشفقة أحد الموظفين أن يُعطي والد علوان قطعة من الورق يساعده فيها على الوصول الى بيت المسئول الذي تملص من رؤيته في مبنى الدائرة الحكومية، وقد كان سبب تملص المسئول، أن من أبلغه عن وجوده في الدائرة أنه صوَّر حالته التي بدا عليها بأنه سيدخله في حرجٍ أمام زواره الأنيقين.

استغرب والد علوان، من التطور الكبير الذي حل بتلك المنطقة التي يسكن فيها قريبه، فقد كانت قبل عقدين منطقة موحشة قريبة من العاصمة، ولكن اسمها كان يعلن عن طبيعتها فكان يُطلق عليها (أم الضباع)، ولم يكن يسكن فيها إلا بعض الفلاحين الذين يزرعون البقوليات والبصل والقثاء.

لقد امتلأ المكان بالبنايات الفخمة والتي يسكنها حديثو النعمة من المغتربين وكبار الفاسدين والمشتغلين بغسيل الأموال، وبعض أصحاب الحظوظ.

لم يكن أبو علوان قادراً على ابتكار سيناريوهات تعينه على فهم لماذا تطورت تلك المنطقة بهذه السرعة، حتى لو استعان بعشرات الخبراء.

توقفت سيارة الأجرة أمام بيت (فارع أبو الزغاليل) وأنزل السائق أبا علوان وابنه، وأبلغهما أن أصحاب هذا البيت يعرفون كل سكان الحي. تحركت السيارة، وارتقى أبو علوان درجات البيت وطرق الباب، رغم وجود جرس كهربائي.

خرجت امرأة فارع غاضبة:
ـ لماذا تطرق الباب؟ ألا ترى الجرس؟ وماذا تريد؟
ـ تفاجأ الرجل الخشن من خشونة المرأة الناعمة، ورُبِط لسانه، فلم يعلم بماذا يرد عليها.. يا أختي كنت أود أن أسأل عن بيت قريبي سليمان بك.
ـ ومن قال لك أننا هنا مكتب استعلامات؟ فلم تدله رغم أنها تعرف كل بيوت الحي.



لها تتمة لاحقة لها قريباً بمشيئة الله تعالى

أخوكم ماهر بشناق