المسرح منقسم إلى قسمين. قسم أمامى، وهو حوالى ثلثى المساحة وهو مضاء واضح المعالم.. فى وسطه نخلة مغروسة، وفى جانب منه ساقية صامتة، القسم الخلفى مرتفع الدرجات على هيئة مصطبة، تغشاه الظلمة، وتلوح به أشباح راقدة، نيام أو موتى.. الطابع طابع تجريدى.
يُرفع الستار.. على المسرح فتاة جميلة تسير ذهابا وجيئة بين النخلة والساقية.. ثوبها يناسب الجو التجريدى حيث يصعب تحديده على أساس جغرافى وكذلك ثياب جميع من سيظهرون على المسرح.
ومع ارتفاع الستار تترامى أصوات معركة بين اثنين، آتية من ناحية اليسار.. شتائم وتهديدات وأصوات ضرب.
الفتاة: يا رب السماوات.. متى تختفى هذه الأصوات من الوجود؟ متى تشرق شمسك على أرض ناعمة البال، قريرة العين؟
(تصغى إلى الأصوات بقلق متزايد ثم تقول):
ترى هل أكفّر عن ذنب قديم؟ أم أنه بلاء مركب فى دمى؟ أم أنها أخطاء تقع فلا تلقى إرادة صادقة لإصلاحها؟
(يتقهقر شخص مندفعا بعنف، نتيجة دفعة قوية تلقاها فى الخارج، ثم يسقط تحت النخلة مغمى عليه.. الفتاة تنحنى فوقه باهتمام وتربت على خده بحنان، يفتح عينيه.. ينظر إليها ثم يغمض عينيه مرة أخرى مغمغما)
الفتى: أبى!
(تربت على خده بحنان، يفتح عينيه لحظات ثم يغمضهما مغمغما)
: أمى!
(رتبت على خده بحنان، يفتح عينيه لحظات ثم يغمضهما مغمغما)
: زوجتى!
الفتاة: شد حيلك.
(تدلك خديه.. يفتح عينيه مفيقا.. ينظر إليها طويلا ثم يتمتم)
الفتى: أنت!
الفتاة: حمدا لله.. قم.. اعتمد على ذراعى..
(تقيمه.. تمسح بمنديل جبينه وتسوى له شعره.. وهو يأخذ فى التماسك شيئا فشيئا)
: لعلك أحسن..
(الفتى لا يرد ولكنه يعاود حالته الطبيعية)
: تنفس بعمق، فالجو اليوم طيب.
الفتى: لا شىء طيب على الإطلاق.
الفتاة: الجو طيب على الأقل، هدئ خاطرك.
الفتى: هيهات أن يطيب بعد اليوم جو أو خاطر.
(تشده برقة إليها فى دلال)
الفتاة: تعال إلىّ، أنا لا أعرف اليأس.
(تحتد فى عينى الفتى نظرة لكنه يتراجع فى حياء أمام نظراتها الحنونة).
الفتى: لست على حال أهنأ معها بعطفك، معذرة.
الفتاة: ليتك تقنع بصدرى ملاذا لك من متاعب الدنيا.
الفتى: ليت ذلك فى الإمكان.
الفتاة: إنه ممكن إذا أردته.
الفتى: (متحسسا رأسه وعنقه فى تألم) إنه مستحيل أردت أم لم أرد.
الفتاة: إنها اللعنة القديمة التى تطارد التعساء.
الفتى: الحق أنها تطارد الأحياء.
الفتاة: وعلى الأحياء أن يحذروها، إنى أدعوك إلى السعادة الحقيقية فى الوجود.
الفتى: حتى السعادة تنقلب أحيانا بين أيدينا ترابا وخجلا.
الفتاة: يا لك من جاحد!
الفتى: لا أنكر عهدك، ولكنى أخشاه، أخشاه فى لحظة اندحارى الراهنة، وأراه من موقفى الدامى ذا جاذبية مخيفة تعمى البصر.
الفتاة: أهذا شعورك حوالى تفتح القلب وتألق الأزهار وجنى الثمر؟!
الفتى: بل إنى أذكر مع الأسى ثقل الجنون، وترهل العضلات واسترخاء الهمم.
الفتاة: دعنى أكرر أن ليتك تقنع بصدرى ملاذا لك من متاعب الدنيا.
الفتى: يا له من جمال دافئ قهار.. أقوى من الموت نفسه، ولكن تلاشت فى أحضانه أحلامى.
الفتاة: إنه أنفع من أحلامك.
الفتى: سيظل الجبن أكبر منغص لصفو الرجال.
الفتاة: من عجب أن تحن إلى فظاظة الخلاء!
الفتى: أحن حقا إلى توهج مصباح الحياة على حافة هاوية الخطر الداهم.
الفتاة: والدم والتشرد والغبار.
الفتى: بل قوة الاعتداد المسخرة للرياح.
الفتاة: ولدى زلة قدم يهال التراب على رجل من الرجال.
الفتى: والصرخات المدوية تتوارى فى أعقابها الفئران فى الجحور، ولذة التساؤل المفعم بالقلق أمام احتمالات الحياة والموت.
الفتاة: ووجهك الملطخ بالدماء المثير للرعب.
الفتى: ونبض القلب بزهو النصر المؤسس على الحق والكرامة.
الفتاة: أنت أنانى، زهدت فىّ بعد شبع.. وشاقتك رائحة الدماء.
الفتى: إنى أحبك ولكنى أكره أن أتمرغ فى التراب.
الفتاة: هذا يعنى أنك لا تحبنى.
(الفتى يشير إلى المصطبة المسربلة فى الظلام حاملة الرقود من الأشباح)
الفتى: ليكن لى قدوة فى الغابرين.
الفتاة: لا أحب النظر نحو الموتى.
الفتى: لكنهم أحياء ما دمنا أحياء.
الفتاة: فراغ وراءك وفراغ أمامك، ولا حقيقة فى الوجود سواى!
الفتى: كم استنمت إلى هذا الكلام الآسر حتى داستنى الأقدام.
الفتاة: لقد أشعلت غضبه بمزاحك.
الفتى: المزاح من آداب حياتنا فكيف يكون جزائى ضربا أليما موجعا!
الفتاة: طالما حذرتك من المغالاة فيه.
الفتى: ولما أردت الدفاع عن نفسى خذلتنى يداى.
الفتاة: الرجل المهذب خير عندى من الرجل القوى.
الفتى: صدقت حتى وهنت منى القبضة.
الفتاة: كان علىّ أن أنتشلك من حياة التشرد فى الخلاء.
الفتى: وهكذا هزمنى وهو يسخر من ضعفى.
الفتاة: لا تمزق عشرتنا بالكبرياء.
الفتى: إنها تتمزق بالمهانة كما تتمزق بالموت.
الفتاة: لا شىء كالموت.
الفتى: إنه ليس شر ما فى الحياة.
الفتاة: صدقنى فإنه العدو الأول للحياة.
الفتى: أيسرك أن أرضى بالهزيمة؟
الفتاة: ارضَ بأى شىء إلا الموت.
الفتى: وأعود إلى اللعب السعيد وقلبى يحترق بنار الهزيمة؟
الفتاة: للزمن بلسم يشفى كل شىء، إلا الموت.
الفتى: (مشيرا إلى المصطبة) تعامل أجدادنا مع الموت بعقيدة أخرى، فوُهب لهم الخلود.
الفتاة: لقد ماتوا وشبعوا موتا.
الفتى: (مخاطبا المصطبة وأهلها) قولوا إنكم خالدون.
(صوت من المصطبة كالصدى): إنكم خالدون.
الفتاة: لا تخاطب الفراغ كالمجانين.
الفتى: ألا تسمعين؟
الفتاة: إنك تصرخ فى الأموات تبريرا لسفك الدماء.
الفتى: يا له من صوت رهيب!
الفتاة: متى كان للتراب صوت؟
الفتى: (مخاطبا المصطبة) هل تسمعون ما يقال؟!
الصوت - الصدى: (بعد قليل) هل تسمعون ما يقال؟
الفتى: ماذا فعلتم بالموت وماذا فعل بكم؟
الصوت - الصدى: ماذا فعلتم بالموت وماذا فعل بكم؟
الفتى:
(لا يزال ناظرا إلى المصطبة كأنما يخاطب نفسه)
: إنهم يرددون قولى.. أجل.. ولهذا معنى عميق لا يخفى على لبيب.. وها هم يتحركون.. (يظلون رقودا طيلة الوقت ودون حركة).. إنهم يهدون إلىّ صورة عزيز غابرة.. ها هو ذا القتال يحتدم.. الشهداء يسقطون.. الجنود يتسلقون جدار الحصن كالنمل.. ها قد سقط الحصن.. وهذا هتاف النصر يدوى مخترقا جدار المئين من السنين (ثم ملتفتا نحو الفتاة).. أرأيت؟! أسمعت؟!
الفتاة: لا شىء يُرى أو يسمع!
الفتى: لقد زلزلنى هتاف النصر فوق جثث الشهداء.
الفتاة: ما هى إلا هواجس رغباتك الجامحة فى القتل.
الفتى: سحقا للخمول فى خمائل الورد.
الفتاة: يا حسرتاه على حكمة الأيام الناعمة!
الفتى: (مشيرا إلى المصطبة) لقد لفحتنى أنفاسهم المحترقة حزنا علىّ.
الفتاة: ليس للأموات أنفاس تحترق.
الفتى: إذا مات الأموات أدرك الفناء كل شىء.
الفتاة: إذا أردت الحياة حقا فلا تنظر إلى الوراء.
الفتى: ولكن الوراء هو الأمام!
الفتاة: ولا تنظر إلى الأمام..
الفتى: (يقطب محتجا حائرا)
الفتاة: فلتغرق فى عينى.. يوهب لك خلود بين الظلمتين!
(قهقهة ساخرة وحشية تترامى
من ناحية اليسار).
الفتى: أتسمعين استفزازه الساخر؟!
الفتاة: ريح هوجاء يعربد خلالها الشقاء.
الفتى: إنه يتحدانى!
الفتاة: سأغنى لك أغنية ترقص لها الحمائم فاستمع لى أنا!
الفتى: فلتطرب العصافير.
الفتاة: فلتهنأ بك شهوة الدماء.
الفتى: إن قهقهته الساخرة تحيل الهواء فى صدرى ترابا.
الفتاة: خير ما تفعل أن تصم أذنيك.
الفتى: ولكنى خلقت بأذنين.
الفتاة: لتسمع بهما مناجاتى الدافئة.
الفتى: يا لها من مناجاة أجهضت همتى! الوداع..
الفتاة: لن تستغنى عنى أبدا.
الفتى: فلتكونى الأمل المؤجل حتى يطيب كل شىء.
الفتاة: لن يطيب شىء بعيدا عن ذراعى.
(القهقهة الساخرة تترامى من بعيد)
الفتى: الوداع.
الفتاة: انعم بالنوم رغم الضوضاء.
الفتى: بل أقضى على الضوضاء قبل أن أنعم بالنوم.
الفتاة: كلمة أخرى.. لا أريد أن يدركنى اليأس.
(الفتى يضع إصبعيه فى أذنيه.. تنظر إليه مليا ثم تمضى إلى الجهة اليمنى).
(الفتى ينظر نحو المصطبة).
الفتى: لا يمكن أن يدلنى على حقيقة الحياة إلا شخص أدركه الموت!
الصوت - الصدى: الموت.
الفتى: ذهبت.. ولكنها لن تذهب بعيدا.. محال أن أتحرر منها كلية.. ولا رغبة لى فى ذلك.. ولا قدرة لى عليه.. ولكنى أريد الحقيقة..
الصوت - الصدى: الحقيقة.
الفتى: أفصحوا.. لا تتكلموا كما تتكلم الصخور.
الصوت - الصدى: الصخور.
الفتى: حدثونى عن الموت والحياة.
الصدى: الحياة.
الفتى: من البطل؟
الصدى: البطل.
الفتى: أهو المحارب؟
الصدى: المحارب.
الفتى: أهو المسالم؟
الصدى: المسالم.
الفتى: اللعنة.. اللعنة.. اللعنة..
(يتحول الفتى عن المصطبة)
: (صائحا) علىّ أن أستعد.. إلىّ بالطبيب.. أيها الطبيب..
(يدخل الطبيب بالثياب التجريدية.. لكنه ذو لحية.. وبيده حقيبة).
الطبيب: لا تصرخ اتقاء للمضاعفات.
الفتى: وهل تأكدت من مرضى حتى تحذرنى من المضاعفات؟
الطبيب: إننا لا ندعى للأفراح.
الفتى: بل يبدو لى أنى مريض.
الطبيب: إننى أعمل يومين فى اليوم الواحد
له تتمة
قريباً بإذن الله
معكم ربى المنسي
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني