من طرف فياض النسور الأربعاء يوليو 06, 2011 8:18 am
عشّ الدبابير
رواية للفتيات والفتيان
جـميل السلحوت
رحلة مدرسية
وعندما عادت إلى البيت في ساعات ما بعد الظهيرة من رحلتها المدرسية إلى حديقة الحيوانات ، كانت في غاية السعادة . تتنقل في أرجاء البيت بخفة ورشاقة كطائر الشنّار ، يسألها شقيقها فراس الذي يكبرها بسنتين عمّا رأت ، فتجيبه إجابات غير كاملة وسط قهقهة عذبة ، فيلح عليها لمعرفة المزيد ، فتزداد ضحكاً وتهرب منه كأنها في مطاردة .
كان الوالدان مسرورين لما يجري بين طفليهما ، فيسمعان لهما بصمت والابتسامة تعلو وجهيهما ، بينما يزداد فراس شوقاً لمعرفة ما رأت شقيقته في رحلتها المدرسية ، وكلما تهرب منه يرتفع صوته غاضبا ، فيحاول الإمساك بها الا انها تهرب كالفراشة إلى حضن احد والديها ، ويبدو ان هذه اللعبة قد استهوتها.
ناداها والدها وسألها :
- ما رأيك يا رباب .. هل ستحدثينني عن رحلتك ؟؟
فأجابت : نعم يا أبي ، بشرط ان لا يسمع فراس .
- ولماذا لا تريدين فراس ان يسمع ؟؟
-لأنه عندما ذهب إلى الرحلة نفسها لم يحدثني شيئا عنها. ضحك الأب ، وضحكت الأم ، بينما انزوى فراس في مقعد جانبيّ ولم ينبس ببنت شفة .
قال الأب :
أنت طفلة رائعة يا رباب ، وبالتأكيد فإنك ستحدثيننا أنا وأمك وفراس عن الرحلة . فابتسمت رباب وهي تقف أمام والدها وشرعت تقول ، وهي تشير بيديها ذات الشمال وذات اليمين :
عندما نزلنا من الباص أمام الحديقة ، طلبت منا المعلمة ان نصطف اثنين اثنين ، وان يمسك الاثنان بيدي بعضهما ، فأمسكت بيد زينب وحرصت ان نكون في المقدمة ، وعندما فتح الحارس الباب وسمح لنا بالدخول ، أول ما صادفنا أقفاص فيها أنواع مختلفة من الببغاوات ، منظرها جميل جدا ، وكل مجموعة لون ريشها يختلف عن لون المجموعة الأخرى ، صوتها مزعج ، الا ان قائدها يتكلم مثلنا نحن البشر ، طرح علينا تحية الصباح ، وطلب منا الوقوف للتفتيش، فلم استجب له وواصلت المسير ، فصاح ثانية : توقفا أيتهما الطفلتان ؟ أريد ان أفتش حقيبتيكما ، فقلت له باستهزاء : أنا لا اسمح لببغاء بأن يفتش حقيبتي ، وبدأ يفتش حقائب الأطفال الآخرين كما فتش حقائب المعلمات ، ولم ينج من التفتيش سوى أنا وصديقتي زينب ، وعلى مقربة منه كانت حظيرة فيها حوالي عشرة رؤوس من حيوانات الّلاما ، كانت تجفل من جانب إلى الجانب الآخر حتى تصطدم بالأسلاك الشائكة، يبدو انها مذعورة ، صاح الذكر الأكبر منها قائلاً :
- توقفوا أيها الأطفال وافتحوا حقائبكم للتفتيش ؟!
فأجبته : نحن لا نسمح لأحد بأن يفتشنا. فرفع رأسه واقترب من الأسلاك الشائكة وهو يخبط بقائمته الأولى الأمامية ، وكأنه يريد إلقاء القبض علينا ، فقلت له :
- أرجو ان لا تنخدع بطول وارتفاع قامتك وشبهك بالجمال، فتظن نفسك جملاً ، فما أنت الا أسير، وان أطلقوا سراحك ، فهناك من يمتطي ظهرك ، ويقودك إلى حيث يشاء ، أو يحملك الأحمال الثقيلة ، وينتقل بك من مكان إلى آخر ، ولن اسمح لك بتفتيشنا .
وبينما كان الوالدان يصغيان بانتباه شديد ، انفجر فراس صائحا :- هذا كذب ، هذا كذب ، الحيوانات لا تتكلم ، فالتفت إليه والده لفتة فيها عتاب فسكت . وطلب الوالد من رباب ان تكمل ، فقالت :- فتش الّلاما الجميع الا أنا وصديقتي زينب ، ثم انتقلنا إلى أقفاص فيها أنواع مختلفة من القردة والسعادين ، فلفت انتباهي نوع من السعادين طويل الذنب ، صغير الحجم ، كانت تتأرجح على مراجيح منصوبة في الأقفاص ، وبعضها كان يلّف ذنبه على الأرجوحة ، ويدلي جسمه متأرجحا بشكل لا نقوى عليه نحن البشر - طبعا باستثناء من يعملون في السيرك كما شاهدناهم في التلفاز – وهنا التفتت إلى والدتها وقالت : ماما ، الذين يعملون في السيرك هل هم أبناء قردة وسعادين ، أم ان القردة والسعادين أبناء لهم ؟؟ فضحك الأبوان ، أما فراس فقد قال متجهما : هذا سؤال سخيف ، فردت عليه رباب : ومع ذلك فانك لا تعرف الإجابة ، وان كنت تعرفها اخبرنا عنها ، فسكت ، وواصلت رباب حديثها : وبالقرب من قفص السعادين ذات الأذناب الطويلة والأجسام الصغيرة ، كان هناك نوع من القردة كبير الجسم بلا أذناب، أخبرتنا المعلمة انه الشمبانزي ، مظهره يوحي بشبه بينه وبين الإنسان ، يجلس على مؤخرته كالإنسان تماماً ، ويحضن أبناءه الصغار ، ويطعمهم ، ويحملهم في حضنه عندما ينتقل من مكان إلى آخر داخل القفص ، ويتأرجح بيد بينما يحضن ابنه في اليد الأخرى ، يكسو الشعر الكثيف جسمه باستثناء مؤخرته ، يصدر أصواتاً غير مفهومة ، تقدم احدها من أسلاك القفص ، وطلب منا ان نفتح الحقائب لتفتيشها ، فرفضت أنا وصديقتي زينب بينما قام بتفتيش الآخرين ، في حين كانت أنثاه ترضع صغيرها ، فألقيت لها من بين الأسلاك تفاحة ، التقطتها وبدأت تأكلها ، أطعمت قليلا منها لصغيرها ، في حين رفضت ان تعطي أي جزء منها للذكر الذي مدّ يده إليها طالباً ان تمنحه منها شيئا ، التفت إلينا وكأنه يتوسل ان نعطيه تفاحة ، لكن لسوء حظه لم يكن معنا مزيد من التفاح ، الا ان زميلتنا فاطمة أشفقت عليه ، وألقت إليه إجاصة كانت معها فأكلها لقمة واحدة ، وهو يصرخ مناديا إياي وزينب كي نتوقف للتفتيش ! فقلت له : بدلاً من تفتيشنا كان الأجدر بك ان تعمل لتحرر نفسك من هذا القفص ، وتعود إلى الغابة ، تأكل ما تشاء من الثمار ، وتنتقل كيفما تشاء ، فلو كنت في الغابة لما اقتربنا منك ، ولن نسمح لك بتفتيشنا إلا في الغابة ، فخجل من نفسه ، وعاد إلى بيته الذي يشبه قنّ الدجاج في القفص واختبأ .
وعندما وصلنا إلى الثعالب ، كانت في حفرة واسعة ، لا تستطيع القفز منها ، محاطة من الأعلى بسياج حديدي يمنع الدخول والخروج وفي جانبها جحر تختبئ فيه وقت الحاجة ، كان بعضها مستلقيا على جانبه كالكلاب في حالة الاسترخاء ، بينما خرج بعضها من الجحر وقد طأطأ رأسه بين قائمتيه الأماميتين الممدودتين أمامه ، نظرت إلينا بعض الثعالب التي اصطفت بجانب بعضها البعض ، وطلبت منا ان نفتح حقائبنا للتفتيش ، فقلت لها ساخرة : نحن لا نستطيع النزول إليكن ، وان أردتن تفتيشنا فاخرجن من هذه الحفرة ، وتقدمن إلينا حتى تستطعن رؤية ما بداخل حقائبنا ، فطأطأت الثعالب رؤوسها، وعادت إلى جحرها، وبهذا أنقذت معلماتي وزميلاتي من تفتيش الثعالب .
وانتقلنا إلى حظيرة فيها حمير الوحش ، وهذه هي المرة الأولى التي أقف أمامها وجها لوجه ، سبق لي ان رأيتها في التلفاز ، لكن تلك الرؤيا لم يكن لها وقع على نفسي كما المشاهدة الحقيقية ، تمعنت في منظرها ، ولاحظت ان لا فارق بينها وبين حمار جارنا سامر الا في اللون، وسألت إحدى معلماتي ان كانت هذه الحمير تسمح للإنسان ان يمتطيها كما يفعل حمار جارنا سامر ، فأجابت بأن هذه الحمير لم تُسَخّر لخدمة الإنسان كالحمير الداجنة ، كان بعضها مستكيناً ، الذباب يحوم حول أجفانها ، وفمها ، وتحت ذيولها ، في حين كان البعض الآخر يتمرمغ احياناً ، ويخبط الأرض بقوائمه أحيانا أخرى ، تقدم احدها منّا مادّاً أذنيه إلى الأعلى ، رافعا ذنبه جاحظاً عينيه ، ويخبط الأرض بقائمته الأمامية اليمنى ، وينهق علينا طالباً ان نفتح حقائبنا للتفتيش ، فقلت له : لو انك بقيت في مراعي موطنك الأصلي مع بقية الحيوانات الأخرى ، لما استطعنا الاقتراب منك ومنها ، ولو كنت هناك فعلا وطلبت تفتيشنا لسمحنا لك ، أما وأنت أسير في حظيرة حقيرة فليس من حقك ان تفتشنا ، فقال لي : لكنني لم آت إلى هذه الحظيرة بإرادتي بل أتى بي بشر متوحشون ، طاردوني وخدروني وأوثقوا رباطي إلى ان أوصلوني هنا رغما عني، فقلت له : كان الأجدر بك ان تموت ميتة واحدة في موطنك الأصلي ، بدلاً من ان تأتي هنا لتموت في اليوم مئة مرة ، فسألني : وكيف ذلك؟
فأجبته :
- ألم تسمع بحكاية جدي عن هذا الموضوع -لا لم اسمع.
- اذن سأحدثك .وبعد ان هدأت نفسه وأرخى أذنيه وأسبل عينيه ، قلت له :
"حدثنا أبي عن أبيه عن جده بأنه قال : يحكى ان النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، ذلك النبي الذي حكم الإنس والجن ، بأنه طلب يوما من ساكني إحدى البلدان من إنسان وحيوان ان يتركوا المكان ، لأنه يريد ان يحرقه ، ولن يترك فيه كائناً من كان ، وأعطاهم مهلة أسبوع بالتمام والكمال حتى يخرجوا ، وبعد انتهاء الأسبوع أشعل النيران في الأرض ، فحرقت الزرع والشجر والأعشاب ، ولم يبق فيها شيئ الا واحترق ، وبعد ان خمدت النيران ، خرج وجنده يتفقد المكان ، فوجد ثعباناً طويلاً وقد احترق ، فأسف لذلك ظناً منه ان الثعبان أصمّ فلم يسمع نداء التحذير ، ودعا الله ان يعيده حياً ليسأله عن سبب عدم رحيله ، فاستجاب الله دعاءه ، وعاد الثعبان حياً يسعى ، فسأله النبي سليمان – وكان الله قد أعطاه القدرة على فهم لغة جميع الحيوانات – عن سبب عدم رحيله ، وهل سمع الإنذار بالرحيل أم لا؟ فأجاب الثعبان : بأنه سمع النداء ولم يرحل فاستغرب النبي سليمان ذلك وسأله عن السبب، فأجاب : يا نبي الله ، إن حرق الأبدان أهون عليّ من ترك الأوطان ، فتعجب النبي سليمان من إجابته ، وندم على فعلته ، وترك الثعبان وهو يقول : لو كنت أعلم ما قاله الثعبان قبل الإنذار والحريق لما فعلت ما فعلت ، وسمح لبقية الحيوانات التي هربت أن تعود إلى أرضها ، وقدم لها الماء والغذاء " ، فطأطأ الحمار الوحشي رأسه وألقى جسده على الأرض ، وشهق شهقة واحدة ومات ، وعلى مقربة منّا كانت غرفة ثلاثة جدران منها من الزجاج المقوى ، فيها ثعابين ملتفة حول سيقان أشجار جافة ، وحول أحجار وضعت خصيصاً لها ، فبادرتها أنا بالتحية حيث طرحت عليها السلام ، إلا أنها اختبأت خلف الأحجار وسيقان الأشجار الجافة، فناديتها بأعلى صوتي طالباً منها أن يخرج كبيرها لتفتيش حقائبنا ، فلم يستجب احد منها ، وكررت النداء مرة ثانية وثالثة ، فأطلّ احدها برأسه وقال : اسمعي أيتها الطفلة؟ فأجبته بأنني كلّي أذان صاغية ، فقال لقد استمعنا إلى حكاية جدك عن قصة جدنا الثعبان مع النبي سليمان ، فلحق بنا الخزي والعار، لأننا لم نصن حكمة الآباء والأجداد ، فقررنا أن لا نظهر أمام احد حتى يقضي الله امراً كان مكتوباً ، فتركناه وواصلنا المسير إلى أن وصلنا إلى قفص الأسود ، كان به ثلاث لبؤات وهزبر واحد ، فزأر الأسد ، وطلب منا الوقوف للتفتيش ، فقلت له :
- إن كنت ملك الغابة حقا فاخرج إلينا وفتشنا ؟!
فزمجر وزأر زئيراً مرعباً وقال : أتتحدينني أيتها الطفلة ؟!
فأجبته : نعم ، أتحداك .
فنظر إلى اللبؤات الثلاث ، وزأر زئيراً خفيفاً كأنه يكلمها ، وما هي إلا لحظات حتى انقضت أربعتها على القضبان الحديدية فكسرتها وخرجت جميعها دون أن تلتفت إلينا، وقفزت قفزات كبيرة باتجاه البعيد ، وأظنها إلى الغابة ، ويبدو أنها سمعت حكاية الثعبان مع النبي سليمان عليه السلام .
ابتسمت رباب وتوقفت عن الكلام ، فسألها والدها :
وماذا فعلتم بعد ذلك ؟
- أجابته : انهينا جولتنا في حديقة الحيوانات لإن الفوضى دبّت بين الحيوانات الأخرى ، فتدخل الحرّاس ببنادقهم ، وعدنا إلى الباص ، الذي أقلّنا إلى المدرسة ، وبعدها عدت إلى البيت .
احتضنها والدها وطبع قبلة على جبينها وسط مزاحمة الوالدة التي كانت تريد هي الأخرى احتضانها ، بينما صرخ شقيقها فراس قائلاً : كاذبة لا تصدقوها .. اقسم أنها تكذب .
المعلمة تخطئ ورباب ترفض الاعتذار
في صباح اليوم التالي ، نهضت رباب مبكرة ، كانت تحلم بأن أسد حديقة الحيوانات قد قفز عليها والتهم جسدها الصغير دفعة واحدة ، فبالت في سريرها ، بقيت في السرير حتى سمعت أمّها تنهض وتسير باتجاه الحمام ، تبعتها وهي تضحك قائلة : أمّي هل تعلمين أنني أصبحت طفلة غبية ؟!
ابتسمت الأمّ ووضعت يدها على رأس رباب وقالت : لا يا حبيبتي أنت لا لست غبية، لماذا تقولين كلاماً كهذا ؟!
- لأنني حلمت أن أسد حديقة الحيوان يقفز عليّ ، ويلتهمني دفعة واحدة ، ومن شدة الخوف بوّلت في سريري .
ما عليك يا صغيرتي هذا أمر عادي ، أجابتها الأمّ وهي تقودها إلى الحمام ، حيث ساعدتها على الاغتسال ، كانت رباب تضحك والماء ينساب على جسدها الصغير ، في حين كانت لا تقوى على فتح عينيها خوفا من أن يدخلهما الصابون .
أنهت الاغتسال ، وخرجت لترتدي ملابسها، ارتدت المريول الأزرق الذي بلا أكمام ، على قميص أبيض ذي أكمام طويلة ، ثم أدخلت ربطة عنق حمراء على رقبتها ، فقانون المدرسة يلزم الطلاب بهذا اللباس الموحد ، ثم انتعلت حذاءها ، وجلست على كرسي في المطبخ في انتظار أن تحضر الوالدة وجبة الإفطار ، شربت كوب حليب ، وتناولت بعض لقمات من الخبز المغموس بالزيت والزعتر ، وفي بعض الأحيان تقضم قطعة جبن صغيرة .
نهض شقيقها فراس في السادسة والنصف كالمعتاد ، وعندما رأى شقيقته رباب وقد تناولت إفطارها ، وأكملت لباسها سألها : ما هذا النشاط يا رباب ؟
فأجابت : أنا لست كسولة مثلك ، تركها وذهب إلى الحمام ، واغتسل ، ثم ارتدى ملابسه ودخل إلى المطبخ لتناول طعام الإفطار ، وفي السابعة والنصف غادرا البيت باتجاه المدرسة- فقد كانت قريبة من البيت- ، في حين كان شقيقها الأصغر يزيد ابن الثلاثة أعوام يصرخ خلفها ، يريد مرافقتها إلى المدرسة .
وهناك كان طلاب وطالبات صفها يتحدثون فرحين عن رحلة الأمس إلى حديقة الحيوان ، في حين كان طلاب الصفوف الأخرى يلعبون ألعابا أخرى ، وعندما قرع الجرس في الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة اصطف الطلاب ، وأدّوا التمارين الصباحية المعتادة .
وفي الثامنة دخلوا إلى الصفوف تتبعهم المعلمات ، وفي الصف الابتدائي الأول حيث تدرس رباب طلبت منهم المعلمة أن يصمتوا ، وشرعت تطلب من كل واحد منهم أن يتحدث عن رحلة الأمس ، فضحك الطالب محمد الذي يجلس في المقعد خلف رباب ، فظنت المعلمة أن الذي ضحك هو مروان الجالس بجانب رباب ، فاستدعته إليها وضربته بالمسطرة على يده ، فبكى ، وهو يصرخ لست أنا الذي ضحك ، لست أنا ... ، لكن صراخه لم يشفع له ، كما لم تشفع له شهادة رباب التي استاءت من تصرف المعلمة ، فجلست صامتة تفكر لعدة دقائق ، ثم خرجت من مقعدها ، وذهبت إلى المعلمة، وطلبت منها إذنا بالخروج إلى الحمام ، وخرجت من الصف قبل أن تسمع إجابة المعلمة ، واتجهت إلى غرفة الإدارة ، فطرحت تحية الصباح على المديرة ، واستأذنتها بالحديث ، ولما أذنت المديرة لها، قالت رباب : سيدتي المديرة ، أنا جئت إلى هذه المدرسة لأتعلم ، ولم أجيء كي أُضرب .
- ومن ضربك يا رباب ، سألت المعلمة ؟!
لم يضربني احد ، أجابت رباب .
- إذن ما المشكلة ، سألت المديرة ؟!
-المشكلة في المعلمة سعاد ، لقد ضربت جاري مروان ظلماً مع أنه لم يرتكب أيّ مخالفة ، الذي ضحك هو محمد الذي يجلس خلفنا ، والمعلمة ضربت مروان وأبكته ، وأنا لن ادخل هذا الصف ثانية ، فإن لم تنقليني إلى الشعبة الأخرى عند المعلمة هند فلن أعود إلى هذه المدرسة ، بل سأعود إلى البيت ، وأطلب من أبي وأمي أن يرسلاني إلى مدرسة أخرى .
قالت المديرة : بسيطة يا صغيرتي ، عودي إلى صفك ، وسأعالج الموضوع ؟!
-قلت لك إنني لن أعود إلى هذا الصف ثانية ، فهذه المعلمة لا تعرف كيف تتعامل مع الأطفال! فألحت المديرة على رباب بأن تعود إلى صفها ، لكنها واصلت الرفض ، فطلبت المديرة منها أن تقف أمام مكتب الإدارة ، ففعلت .
وبعد أن انتهت الحصة الثانية ، وخرج الأطفال إلى فسحة الصباح استدعت المديرة المعلمة ، وقصّت عليها ما قالته رباب ، ثم طلبت من رباب أن تدخل ، مدّت المعلمة يدها لتمررها على رأس رباب وهي تعتذر قائلة : أنا آسفة يا حبيبتي يا رباب ، ولن أكرر ما فعلت . إلا أن رباب دفعت يدها وهي تقول : لن اقبل عذرك ، هل تريدين أن تضحكي عليّ بهذا الاعتذار ، ولن أعود إلى صفك مرة أخرى ، تدخلت المديرة طالبة من رباب أن تقبل اعتذار المعلمة ، إلا أنها رفضت وبإصرار شديد ، فطلبت المديرة منها أن تخرج وتقف أمام مكتب الإدارة ، ففعلت .
وبدأت المديرة توبخ المعلمة قائلة: كم مرة قلنا لكم إن العقاب الجسدي ممنوع ؟! ماذا سنفعل الآن ؟! ماذا ؟! فأطلت رباب برأسها من الباب وقالت : نحن فهمنا ما قلت لها ، لكنها هي لم تفهم ، فزجرتها المديرة قائلة : قفي مكانك ولا تتكلمي ؟! فعادت ووقفت .
ولما أصرّت رباب على موقفها الرافض للعودة إلى الصف ، اتصلت المديرة بوالدتها هاتفياً وطلبت منها أن تحضر إلى المدرسة لوجود مشكلة مع رباب .
وعندما حضرت والدتها أخبرتها المديرة بالذي حدث ، وطلبت منها أن تتكلم مع رباب ، وتطلب منها العودة إلى صفها ، فأدخلتها والدتها إلى غرفة الإدارة ، وتحدثت معها أمام المديرة وهي تحتضنها قائلة :
لم يضربك احد يا بنيتي ، والمعلمة اعتذرت ، مع أن المعلمين يعاقبون تلاميذهم ، وهذه المعلمة من المعلمات الجيدات وهي صديقتنا ، فعودي إلى صفك يا رباب يا حبيبتي ..
لكن رباب أصرت على رفضها ، وهنا طلبت المديرة بأن تحضر المعلمة ثانية ، فجاءت المعلمة وفي يدها قطعة شوكولاتة وعلبة عصير وضمت رباب إلى صدرها وهي تقول لها : هذه لك أيتها الطفلة الجميلة ...
إلا أن رباب حاولت تخليص نفسها من بين يديها ، ورفضت قبول قطعة الشوكولاتة وعلبة العصير وهي تقول :
هل تريد أن تقدم لي رشوة هذه المعلمة القبيحة؟ فبكت المعلمة شعوراً بالإهانة فقامت والدة رباب وأمسكت بيد ابنتها طالبة منها أن تغلق فمها ، وان لا تتكلم أيّ كلمة ، واستدارت إلى المعلمة واعتذرت لها ، ثم طلبت الوالدة من رباب : أن تعود إلى صفّها .. إلا أن رباب رفعت صوتها أمام والدتها وهي تقول : إذا ضحكت عليك المعلمة فلن تضحك عليّ ، إذا لم تسمح لي المديرة بالذهاب إلى الشعبة الأخرى فإنني سأعود إلى البيت ، وسأخبر والدي بالّذي حدث ، وسأطلب منه أن يرسلني إلى مدرسة أخرى .
عندها وافقت المديرة على نقل رباب إلى الشعبة الأخرى ، وأرسلتها إليها ، وعادت تنظر إلى وجه المعلمة مرة والى وجه والدة رباب مرة أخرى ، وهي تردد أي جيل تنتمي إليه هذه الطفلة ... أيّ جيل ؟عادت الوالدة إلى البيت ، وعادت رباب هي الأخرى بعد انتهاء الدوام ، وعندما عاد الوالد من عمله أخبرته زوجته بمشكلة رباب مع معلمتها ، فضمّها إلى صدره ، وطبع قبلة على جبينها ، فسألته رباب :
- هل أخطأت يا والدي أم لا ؟!
فضمها إلى صدره ، وقبـّلها مرة أخرى والبسمة تعلو وجهه دون أن يتكلم ، وعندما ذهبت رباب إلى سريرها للنوم ، قال والدها لزوجته : هذه الطفلة لن يأكل حقها أحد ..
وليمة
وفي فصل الربيع ، لبست الأرض حُلّة خضراء جميلة ، كانت الزهور البرية تعطي رونقاً خاصاً للمكان الذي تنبت فيه ، يخرج الأشقاء الثلاثة ( فراس ، رباب ، ويزيد ) ، إلى الحقول يتمددون على الأعشاب ، ثم يتقلبون على بطونهم وظهورهم فرحين بهذه المناظر الخلّابة ، كان كلّ واحد منهم يمسك زهرة الأقحوان ، يخلع الوريقات البيضاء المحيطة بالزهرة الصفراء واحدة واحدة وهو يردد سائلاً الآخر : من تحبّ أكثر ؟؟ أمّك أم أباك ؟! ويخلع وريقة وريقة معدداً : أمّك .. أبوك .. أمّك .. أبوك ، وعندما تبقى وريقة واحدة يقف عندها ضاحكاً ويقول الكلمة التي توقف عندها ، ها أنت تحب أباك أكثر من أمّك ، سأخبر أمّي بذلك ، وعندما تبقى الوريقة الأخيرة للأمّ يقول : ها أنت تحب أمّك أكثر من أبيك ، سأخبر الوالد بذلك ..! لكن كل واحد منهم كان يقول أنا أحب أمّي وأبي ، لكنني أحب أمّي أكثر قليلا من أبي ، ولا أعرف سبباً لذلك ، وفي عصر أحد الأيام جاء زوجان حديثا العهد بالزواج لزيارة الأسرة ، كانت المرأة الضيفة رشيقة القوام ، هيفاء ، نحيلة الخصر ، شعرها فاحم يسترسل على كتفيها ، عيناها فيهما حور ، أنيقة الثياب ، صافح الضيفان أفراد الأسرة ، بدءا بالأب ثم الأمّ ثم الأبناء الذين اصطفوا حسب العمر ، عانقت الإمرأتان بعضهما البعض ، ثم قبلت المرأة وكان اسمها فاطمة الأطفال واحداً تلو الآخر ، وأمسكت بيد يزيد ، وقادته إلى حيث تجلس ، أوقفته بين ساقيها ، وأمسكت يديها بيديه ، ومرّرتهما على وجهه وهي تخاطبه مداعبة إياه :
- ما اسمك أيها الصغير ؟
-اسمي يزيد
- كم عمرك ؟
ثلاث سنوات .
- هل تذهب إلى المدرسة ؟
لا ... فأمّي ترفض أن أذهب إلى المدرسة .
- لماذا ترفض ؟
لا أعرف .. اسأليها !!
كان يزيد يقلب ناظريه مرة باتجاه والدته ، والأخرى باتجاه الضيفة فاطمة .
وفجأة التفت إلى أبيه وخاطبه قائلاً :
- أبي لماذا لم تتزوج فاطمة هذه !! إنها أجمل من أمّي !! ضحك الجميع ..
وعلت حمرة على وجه الأمّ وهي تقول له:
انتظر حتى تكبر لتنظر إلى النساء ، وتعرف أيّهن الأجمل ؟!
في حين قالت فاطمة الضيفة وهي تضمّه إلى صدرها : أمّك جميلة أيضاً أيها الصغير !!
فردّ عليها : لكنك أكثر جمالاً ، وهنا روى فراس كيف أن يزيد كانت نتيجته دائما في اللعب على زهرة الأقحوان بأنه يحب الوالد أكثر من الوالدة ، فتدخلت رباب قائلة : أمّي أجمل منكم جميعاً ، وأذكى منكم ،وأقوىمنكم ، فلا تغتروا بأنفسكم .
حضرت الزوجة وجبة العشاء ، كانت منسفاً من الثريد والأرز ، يعلوهما لحم الضأن المطبوخ بالّلبن ، ومُزين بحبات الصنوبر واللوز المقليّ المتناثرة فوقه بلا انتظام . اصطفّ الجميع حول المائدة ، أمّا يزيد فقد ركض ليجلس بجانب الضيفة فاطمة التي بدورها أجلسته في حضنها ، وقبلت يده ، ولم يستجب لنداء أمّه بالابتعاد عن الضيفة حتى تتناول طعامها ، وكان يزيد أول من مدّ يده إلى المائدة ، فتناول حبة صنوبر بين إصبعيه الإبهام والسبابة ، ووضعها في فم فاطمة الضيفة ، فالتقطتها بفمها ، وقبلت يده الصغيرة وهي تضحك ، ثم تناول أخرى ووضعها في فمه وسط ضحك الجميع .
طلبت فاطمة وزوجها أسامة ملاعق ، لانهما لم يعتادا أن يأكلا بأيديهما ، مع أن عادة أكل المنسف هي باليد ، وليست بالملاعق أو الشوكات لصعوبة حمل الثريد ، وتقطيع اللحم بهما ، فأحضر فراس لهما الملاعق وتناول كلٌّ منهما ملعقة ، فغرست فاطمة ملعقتها بالأرز والثريد ، وألقت حمولتها في فمها ، وكان الطعام ساخناً جداً ، فهمهمت وتحشرجت واحمرّ وجهها ، ودمعت عيناها ، فسقط قليل من الطعام على رأس يزيد الذي غضب من ذلك ، ورفع يده شاتماً بكلمات غير مفهومة ، أبعدته من حضنها جانبا ، وبلعت ما في فمها على مضض . في حين أحضرت لها ربّة البيت كوباً من الماء البارد، شربت نصفه دفعة واحدة ، فعلّق زوجها على الموقف بحكاية سمعها قبل عدة سنوات ، وتقول الحكاية :
يُحكى أن أعرابياً من سكان البادية تصادق مع تاجر من سكان المدينة ، فدعاه التاجر إلى وجبة طعام في بيته ، فحضر الأعرابي بصحبة ابنه الفتى البالغ من العمر خمسة عشر عاماً ، ولمّا جلسوا حول المائدة تناول الفتى الأعرابي ملعقة وملأها طعاماً ، وألقى به في فمه ، وكان الطعام ساخناً جداً ، فابتلعه الفتى على مضض بعد أن دمعت عيناه من شدة الحرارة ، فسأله والده عن سبب سقوط دموعه ، فأجاب الفتى : لقد تذكرت المرحوم أخي ، وتمنيت لو أنه كان مشاركاً لنا في تناول هذه الوجبة اللذيذة ، بعدها ملأ الأعرابي الأب ملعقته بالطعام ، وألقاها في فمه ، فدمعت عيناه هو الآخر من شدة الحرارة أيضا ، فسأله ابنه الفتى عن سبب دموعه، فأجاب الأب : راودني هاجس بأنك قد مت ولحقت بالمرحوم أخيك .
ضحك الجميع على الحكاية في حين شعرت فاطمة بشيء من الإحراج ، أكل الجميع حتى شبعوا باستثناء فاطمة التي لم تعد تشعر بشهية للطعام ، فأعادت الصغير يزيد إلى حضنها ، وأخذت تتناول قليلاً من الطعام على رؤوس أصابعها الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وتطعمه .
وعندما انتهوا من الطعام ، غسلوا أياديهم وعادوا إلى الجلوس يتسامرون، وحافظ يزيد على الوقوف بين ساقي فاطمة الضيفة التي كانت سعيدة بذلك ، فقربت خدّها الأيسر من خدّه الأيمن وهي تداعب يديه بيديها وسألته :
- هل أنا جميلة حقاً يا يزيد ؟
نعم أنت جميلة .
-إذن عندما يرزقني الله ابنة سأزوجك إيّاها!!
فسأل : وما اسم ابنتك ؟!
- سأسميها الاسم الذي ستختاره لها .
أين هي وكم عمرها ؟!
- لم تولد بعد .
إذن أنت تكذبين عليّ .
- أنا لم اكذب عليك ، قلت لك عندما يرزقني الله ابنة ، وهذا يعني أنه لا يوجد عندي ابنة الآن .
فسألها : وكيف سيرزقك الله ابنة جميلة ؟!
- فأجابت : هذه إرادة الله .
فسأل : ولماذا لا يرزقني الله أنا ابنة مثلك؟
عندما تكبر ستتزوج وسيرزقك الله البنين والبنات.
فنهرته والدته قائلة : ما هذه الأسئلة يا يزيد؟!
فأجاب : أنا لا أتكلم معك ، أنا أتكلم مع صديقتي فاطمة ، فضمّته فاطمة على صدرها وهي تقول : ما عليك يا حبيبي ، تكلم واسأل مثلما تشاء .
شرب الضيفان القهوة بصحبة ربّة ورب البيت ، واستأذنا بالانصراف ، وعندما وصلا إلى باب البيت طبعت فاطمة قبلة الوداع على جبين يزيد ، فقال لها : لا تنسي أن تحضري ابنتك معك في المرّة القادمة، فضحك الجميع .
وبعد أن انصرف الضيفان ، أجلس الوالد ابنه يزيد في حضنه وسأله :من الأجمل أمّك أم صديقتك فاطمة ؟! فغضبت الأمّ وقالت : هذا ما تريده ، اترك الطفل فإنه لا يدرك ما يقول ، وذهبت إلى سريرها للنّوم ، فلحق بها يزيد ، رفع الغطاء بخفة ، وانسلّ إلى جانبها، استدارت إلى جانبها الأيمن ومدت يدها اليمنى، وضع رأسه على يدها ، واقترب من صدرها وهو يقول : أنت أجمل امرأة يا أمّي قبّلته ووضعت يدها اليسرى عليه ، اقترب من صدرها أكثر فأكثر ، كان زفيرها يخرج على رأسه ، فشعر براحة تامة، واستسلم للنوم سريعاً ، فحملته بين يديها وهي تذكر اسم الله عليه ، وأعادته إلى سريره .
في زيارة المسجد الاقصى
وذات يوم من أيام عطلة الربيع ، أصرّ الأولاد الثلاثة ( فراس ، رباب ، ويزيد ) ، أن تصطحبهم والدتهم معها لزيارة القدس الشريف ، ففعلت بعد أن استأذنت من زوجها، وعندما أطلّوا على المدينة من منطقة رأس العامود ، التفت يزيد إلى يساره ، فرأى أشعة الشمس تنكسر على قبة الصخرة المشرفة الذهبية ، كانت قطرات الندى تنساب من قمة القبة الذهبية ، فخُيّل إليه أنها مرآة تعكس صورته وهو يسأل بصوت عالٍ : ماما ماما انظري ما هذا وأشار إلى القبة المشرفة ؟؟ فأجابت :هذه قبة الصخرة المشرفة في ساحة الأقصى ، التفت فراس ورباب ، فطلب فراس من السائق أن يتوقف ليستمتع بالمنظر الجميل ، غير أن السائق لم يستجب له ، في حين قالت له والدته : انتظر فنحن ذاهبون إلى هناك .
أنزلهم السائق في محطة الباصات القديمة قرب باب العامود ، فأمسكت الأم بيد يزيد الصغير ، في حين طلبت من فراس ورباب أن يمسك أحدهما بيد الآخر ، ويتبعانها , فرفضت رباب أن تعطي يدها لفراس ، نظرت إلى سور المدينة التاريخي وهي تقطع الشارع ، فكانت وجها لوجه مع مغارة سليمان التي تشكل ما يشبه النفق العظيم ، محفورة في الصخور تحت أسواق وأبنية المدينة القديمة ، فسألت والدتها عنها ، فأجابتها باقتضاب : هذه مغارة سليمان ، وواصلت المسير ، هبطوا الدرج المقابل لباب العامود ، كان يزيد يريد رؤية كل شيء ، فشرع يلتفت إلى كل الجهات ، في حين فاخر فراس ورباب بأنهما رأيا هذه المناظر من قبل أكثر من مرة ، أمسكت الأم بيدها الثانية يد رباب لتحثها على المشي بصحبتها ، هذه أول مرة في حياة يزيد التي يرى ويعي فيها أسواقاً مكتظة بالمارة، ومحلات تجارية متراصة بجانب بعضها البعض ، في مدخل باب العامود وتحت الباب مباشرة امرأة سوداء عجوز ، تسند ظهرها إلى زاوية حائط الباب ، تبيع الفستق السوداني المحمص ، يقابلها محل صغير لبيع الملابس ، وهناك محل لبيع مختلف أنواع الساعات ، وبجانبه موسيقى تصدح بصوت مرتفع من محل يبيع أشرطة الأغاني المختلفة ، وباعة متجولون يعرضون بضاعتهم على مكان في الرصيف مستغلين غفلة شرطة البلدية التي تعكر صفو حياتهم ، وتعتدي عليهم . رأوا شرطة الاحتلال وهي توقف بعض المارة تحت تهديد السلاح وبشكل انتقائي ، يسمحون للبعض بالمرور ، في حين يُكبلون أيدي بعض الشباب بالقيود الحديدية ، ويقتادونهم إلى جهة مجهولة ، نزلوا طريق الواد فهو أقل ازدحاماً وواصلوا المسير ، كانت بعض الأبنية التي يقف أمامها جنود الاحتلال بأسلحتهم ، وبجانبهم بعض الشباب الذين يضعون طواقي صغيرة على أمهات رؤوسهم مثبتة بمشبك صغير في شعورهم ، وأيديهم على زناد أسلحتهم .
وصلوا إلى باب المجلس الإسلامي الأعلى، ودخلوا إلى ساحة المسجد المبارك ، كان المنظر مهيباً ، عندما رأت الوالدة قبة الصخرة أمامها ، هلّلت وكبرت بخشوع ، ثم اقتادت أبناءها إلى المطاهر للوضوء ، دخلت مع يزيد ورباب إلى قسم النساء ، في حين طلبت من فراس أن يدخل إلى قسم الرجال المجاور ، وأن يتوضأ ، وينتظر في الخارج حتى يلتقوا جميعاً ، ففعل ، لم تكن رباب ويزيد يعرفان سنن الوضوء ، فطلبت الأم منهما أن يفعلا مثلما تفعل ، توضأوا جميعاً وعادوا إلى باحات المسجد مرة أخرى ، خلعوا أحذيتهم عند مدخل الصخرة المشرفة ، وأبقوها هناك ، ثم دخلوا حفاة ، فهذه من آداب دخول المساجد . طلبت منهم أن يصلوا ركعتين تحية المسجد ، فصلتها هي وفراس في حين كان يزيد ورباب يركعان ويسجدان مُقلدين أمهما ، نظروا إلى جدران مسجد الصخرة المشرفة ، ثم اقتربوا من الصخرة ، فشرحت لهم الوالدة كيف عرج الرسول الأعظم صلوات الله عليه من على هذه الصخرة إلى السماوات العلى، وعاد إلى مكة في الحجاز في جزء من ليلة واحدة ، وهي تردد الآية الكريمة " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع العليم" صدق الله العظيم .
فسألت رباب : وكيف صعد إلى السماء من هنا وعاد بهذه السرعة ؟
فأجابت الأم : هذه من معجزات الرسول صلوات الله عليه ، سأحدثكم عنها في البيت ، ثم دخلوا في الكهف الصغير تحت الصخرة ، حاولوا لمسها قدر استطاعتهم ، كان فراس يحاول قراءة بعض الآيات القرآنية الكريمة المنقوشة على فسيفساء جدران المسجد العظيم ، وكان يرددها بصوت مسموع ، ثم خرجوا إلى الساحة ، ركضوا بسرعة على مرأى من والدتهم ، كانوا فرحين وفي غاية السعادة .
رأوا بعض السائحين الأجانب يتجولون في ساحات المسجد ، يلتقطون الصور بحرية تامة، جلسوا في ظلال إحدى القباب ، وشرعوا يجمعون بعض بقايا الطعام الملقاة على الأرض المباركة ، ملأ فراس ورباب أيديهما بالقمامة ، وعادا إلى أمّهما يقولان :
انظري كيف يلقي السياح القمامة في ساحات المسجد، فأجابتهما :
إنهم ليسوا السياح يا أبنائي ، السياح يدخلون المسجد ولكل منهم أسبابه ، وتناول الطعام ليس واحداً من هذه الأسباب ، فسأل فراس : إذن ما هي أسبابهم ؟
فأجابت : هذه قضية طويلة وكبيرة !!
استراحوا قليلاً ، ثم قادتهم والدتهم إلى المسجد الاقصى ، ثم إلى المسجد المرواني ، ثم إلى المتحف الإسلامي ، فمكتبة المسجد الاقصى ، وعندما نادى المنادي لصلاة الظهر، ذهبوا إلى قبة الصخرة حيث تُصلي النساء ، وأدّوا الصلاة جماعة ، ثم خرجوا تحت إلحاح الأم ، واستقلوا سيارة عائدين إلى البيت .
وعندما عاد الأب مساء من عمله ، تسابق الأبناء كل منهم يريد أن يحدثه عمّا شاهدوه في المدينة المقدسة ، وأسهب فراس ورباب في وصف قبة الصخرة والمسجد الاقصى ، والمُصلى المرواني فاستمع إليهم بهدوء لم يقطعه إلا سؤال فراس له :
لماذا لا يذهب جدي وجدتي لأمّي للصلاة في المسجد الاقصى يا أبي ؟؟
- لأنهم لا يحملون هوية القدس .
ولماذا لا يحملون هوية القدس ؟!
- لأنهم يسكنون في السواحرة الشرقية .
لكن السواحرة الشرقية ليست ببعيدة عن القدس ، بإمكانهم أن يَصِلوا إلى المسجد الاقصى مشياً على الأقدام بدون عناء .
- نعم يا ولدي ولدي بإمكانهم أن يفعلوا ذلك ، لكن الجنود لا يسمحون لهم بالدخول .
لماذا ؟
- قلت لك لأنهم لا يحملون هوية القدس .
وكيف يسمحون للسياح الأجانب ولليهود بدخول المسجد الاقصى مع أنهم يأتون من بلدان أخرى ؟!
- هذه قوانين الاحتلال يا بني .
وهل يعلم الملوك والرؤساء العرب والمسلمون ذلك ؟
- نعم يعلمون .
وماذا يفعلون ؟
- لا شيء !
لماذا ؟
- لا ادري اسألهم ؟!
وكيف أسألهم ؟!
- هذه قضية صعبة يا بني ، عندما تكبر ستعرفها !!
إذن كيف سنتخلص من قوانين الاحتلال ؟!
- عندما ينتهي الاحتلال !!
ومتى ينتهي الاحتلال ؟؟
- لا أعلم .
لماذا لا تعلم ؟! سألت رباب ...
فتضايق الأب من أسئلتهم وصاح بهم: ماذا تريدون من الاحتلال ؟؟ وما شأنكم وشأن صلاة أجدادكم إن صلوا في المسجد الاقصى أو غيره ؟!
قال فراس : لأنني سمعت الشيخ يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصلاة في المسجد الاقصى بخمسمائة صلاة " وأريد أن يكون ثواب أجدادي عظيماً ليدخلوا الجنة .
فقال الأب : ربكم غفور رحيم ، وهو العالم بأحوالنا وأحوال غيرنا ، اذهبوا لمشاهدة برنامج الأطفال في التلفاز ، اذهبوا إلى أسرتكم وناموا ..
- لا نريد مشاهدة التلفاز ، ولا نريد النوم، نريد الحديث معك ، فقال أنا تعب ومرهق يا أحبائي، وأريد أن أنام ، تصبحون على خير .
*********
في صباح اليوم التالي نهضت رباب مبكرة، غسلت يديها ووجهها بالماء والصابون ، وارتدت أجمل ثيابها ، بعد أن رتبت سريرها ، وصفّفت شعرها ، وعندما استيقظ والداها طرحت عليهما تحية الصباح ، واقتربت من والدها وقالت : أبي أريد أن اذهب معك اليوم ... إلى أين ؟ سألها الأب !!
- إلى حيث أنت ذاهب .
أنا ذاهب إلى العمل .
- وأنا ذاهبة معك .
لماذا ؟؟
- لا لشيء فقط أريد أن اذهب معك .
حاضر يا رباب ، أجابها الأب ، كيفما تشائين.
ضحكت رباب ، وشعرت بالرضا .
وفي مكان العمل كانت رباب تسأل الموظفين والموظفات كل واحد على حدة :
هل يسمحون لك بالصلاة في المسجد الاقصى، فكانت الإجابة في غالبيتها .. نعم . إلا واحد منهم أجاب : لا .. لا يسمحون لي .
- هل تحمل هوية القدس ؟!
نعم .
- ولماذا لا يسمحون لك ؟؟
لأن عمري تحت سن الأربعين .
- لكن أبي قال إنهم يسمحون لمن يحمل هوية القدس بالصلاة في المسجد الاقصى !!
نعم هذا صحيح ، ولكن في بعض الحالات لا يسمحون لمن هم دون سن الأربعين .
- لماذا ؟!
هذه قوانين الاحتلال .
- أف .. قوانين الاحتلال .. قوانين الاحتلال .. هل للاحتلال قوانين خاصة ؟!
نعم للاحتلال قوانين خاصة ، لا تشبه أي قانون في العالم .
- لقد رأيت بالأمس سياحا ويهوداً دون سن الأربعين في ساحات المسجد الاقصى .. فكيف سمحوا لهم بالدخول ؟!
لأنهم غير مسلمين ، وغير فلسطينيين .
- ولكن المسجد الأقصى مسجد إسلامي .
هذا صحيح .
- وكيف الخلاص ؟!
عندما يشاء الله .
- ومتى يشاء الله ؟!
عندما نعود إليه .
- ومتى نعود إليه ؟!
هذه قضية ستعرفينها عندما تكبرين.
عادت وجلست بجانب والدها وهي تفكر حائرة ... فلم تجد أجوبة تقنعها .
وعندما انتهى الدوام ، أمسك والدها بيدها وخرجا. وفي شارع صلاح الدين ، توقفت رباب فجأة أمام محل لبيع الأحذية . وسألت والدها ... هل هذه الأحذية للبيع يا أبي ؟؟!
- نعم إنها معروضة للبيع .
وهل يبيعونها لأي شخص ؟
- نعم .
إذن لما لا تشتري لي حذاءاً جديداً ؟!
ابتسم الأب وقال : حاضر سأشتري لك حذاءاً جديداً .. دخلا إلى المحل واختارت رباب زوجاً من الأحذية ، دفع الأب ثمنه بعد أن انتعلته رباب ، ووضع صاحب المحل الحذاء القديم في علبة من الكرتون داخل كيس بلاستيكي ، حمله الأب في يده ، وأمسك يد رباب باليد الأخرى ، وسارا باتجاه محطة الباص ، وفجأة اعترضهم جنديان من حرس الحدود ، طلبا هوية الأب ودققا بها ، ثم فتش أحدهم الحذاء ، فسألت رباب أباها :
لماذا يفتشون الأحذية يا أبي ؟
- إجراءات أمنية ، إنهم يفتشون كل شيء .
وهل الحذاء يشكل خطراً يا أبي ؟
- لا أعلم .. ربما !
وهل يريدوننا أن نمشي حفاة يا أبي ؟!
- لا أعلم اسكتي يا بنية .
سكتت على مضض ، حتى وصلا محطة الباصات، واستقلا الباص ، وعادا إلى البيت الكائن في سفوح جبل المكبر .
وعندما وصلا القرية ونزلا من الباص ، شرعت رباب تركض فرحة بحذائها الجديد ، وصلت إلى البيت قبل والدها ، تبخترت في البيت وقالت لأخويها فراس ويزيد: انظرا .. أبي اشترى لي حذاءاً جديداً ولم يشتر لكما، غضبا كلاهما ، وشرع فراس يبكي ويصرخ طالبا حذاءاً جديداً كحذاء رباب وعندما وصل الأب ، وعرف سبب بكائهما ، وعدهما بأن يشتري لهما أحذية في صباح اليوم التالي ، لكنهما لم يقتنعا .
خلعت رباب حذاءها الجديد ، ووضعته بجانبها ، فاختطفه فراس وولى هارباً ، لحقت به وهي تصرخ ، لكنها لم تستطع الإمساك به ، وعندما ابتعد عن البيت ، ادخل قدميه في الحذاء عنوة بعد أن ثنى أصابعه ، وشرع يركض في الطرقات رغم الآلام في أصابع قدميه ، وعاد بعد ان تعب وبعد أن أمضى أكثر من ساعة ، أعاد الحذاء لرباب ، وكان الدم ينزف من إصبع قدمه اليمنى الكبير ، انسلّ إلى فراشه ولم يخبر أحداً بما جرى لإصبعه .
وفي صباح اليوم التالي ، نهض يعرج من قدمه اليمنى ، فقد تورم إصبعه ، ولم يعد قادراً على المشي إلا على كعب قدمه ، ولما شاهدته والدته غسلت قدمه ، ووضعت مادة مطهرة على الجرح ، لم يستطع انتعال حذائه القديم ، وأمضى يومه يمشي حافياً ، وعندما عاد الأب من العمل أخذه إلى الطبيب الذي كتب له مضاداً حيوياً ، وأعطاه مرهماً يدهن به الجرح ، ومكث على هذه الحالة أسبوعين كاملين لم ينتعل فيها حذاء سوى الفردة اليسرى من " صندل " منها أسبوع في المدرسة بعد أن انتهت عطلة الربيع .
بين المقاثي
وفي العطلة الصيفية ، بنت الأسرة خيمة في منطقة الديارة في حي الشيخ سعد ، وسط مقاثي " الفقوس ، والكوسا ، والبامياء واللوبياء والبندورة " في مرج تربته حمراء ، ومزروعاته تسر الناظرين ، وكان ما يثير دهشة الأطفال هو النمو السريع للفقوس ، فما أن تنعقد الزهرة ، وتتحول إلى ثمرة حتى يبدأ نموها بشكل سريع ، تنعقد في الليل ، وفي ساعات الصباح تكون الثمرة بطول إصبع ، وعند المساء تصبح شبراً أو فتراً فهي تنمو بسرعة .
تعلم الأطفال من جدتهم انه إذا ما دفنت "الفقوس" تحت التربة بعد انعقاده مباشرة ، فإنه يفور بطريقة جنونية ، يتضاعف نموّه مرات ومرات في نفس اليوم ، استغرب الأطفال الطريقة، وشرعوا يستعملونها ، كانوا في بعض الأحيان ينسون الثمار التي دفنوها ، فتنمو بشكل سريع بحيث تصبح غير صالحة للأكل، فيتركها الأهل لتبقى " بذورا ً " لزارعتها في العام القادم ، كانت لذة قطف الفقوس لا يعرفها إلا من مارس الزراعة ، تقطفها بيدك ، تفركها بين راحتي يديك ، وتأكلها بدون غسيل أنها حقاً لذيذة .
كان الوالدان والجدة يمشون بين النباتات ، يقطفون الثمار ، ويضعون كل صنف في سلة ، يأخذون حاجة ليلتهم فقط ، ثم يوزعون الباقي على الأقارب وعلى الأصدقاء والجيران .
كانت متعة فراس ورباب ويزيد أن يدعوا اقرانهم من أبناء جيلهم ، يتجولون وسط المقاثي ويأكلون ما يشتهون دون رقيب أو حسيب ، وكان الأهل سعيدين بذلك .
الصغير يزيد كان يحب الفقوس بشكل كبير، ولا يقبله إلا إذا قطفه بيده ، أما رباب فإن فاكهتها المفضلة هي البندورة ، تقطف حبة البندورة الحمراء ، تمسحها بيديها ، تحضر قليلاً من الملح ، تخدشها بطرف قوارضها ، وترش الملح عليها ، وتأكلها بشهية ، تحب الآخرين أن يشاركوها في أكل فاكهتها المفضلة ، وتشرح لهم أنها فاكهة لذيذة ومغذية . قالت لها أمّها : البندورة من الخضار وليست فاكهة ، فردت عليها رباب بثقة العارف : بل إنها فاكهة .
سألتها الوالدة : من أين تعرفين ذلك ؟
أجابت : شاهدت ذلك في برنامج تلفزيوني ، حين قال الخبير الزراعي أن البندورة فاكهة ، وليست من صنف الخضار .
سكتت الوالدة على مضض ، في حين ابتسم الوالد وهو يؤكد صحة ما قالته رباب .
أمّا فراس فكانت هوايته المفضلة أن يأكل قرون اللوبياء نيئة بدون طبيخ ، في حين كان يستخرج بذور البامياء ويأكلها أيضا نيئة ، ولم يكن يستمع لنصيحة والدته أن ينتظر حتى تطبخها مع البندورة وقليل من اللحم ، كان يصف السائل اللزج الذي يخرج من البامياء المطبوخة أوصافاً تدعو إلى التقزز .
طلبت الجدة من ابنها أن يجمع المحاصيل الزائدة ، وان يقوم ببيعها في السوق ، إلا أنه رفض ذلك بشدة قائلاً : يا والدتي : هذه الأرض الطيبة إذا أكرمتها أكرمتك ، وإذا حافظت عليها حافظت عليك، ثم تساءل : كيف أبيع هذه الثمار ، وأخواتي وعماتي وجيراني وخالاتي وأبناؤهن بحاجة إليها؟ هل سأتاجر عليهن ؟!
- لا يا ولدي ، أجابت والدته : صلة الرحم تطيل العمر ، وتكثر في الرزق ، أعطِ الأرحام حاجتهن وبع الباقي . الله يرضى عليك ، ويعطيك الصحة والعافية .
فقال وللجيران حق علينا يا والدتي ، ألم تسمعي بالحديث الشريف الذي يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه ".
- فقالت : هؤلاء جيران للأرض ، وليسوا جيراناً لنا ، لماذا لا يزرعون أرضهم بدلاً من العمل في المستوطنات ؟!
فرد مازن : هذا شأنهم يا والدتي ، فلا دخل لهم إلا من العمل في المستوطنات ، وغالبيتهم ليسوا متعلمين ولم ولن يحصلوا على وظائف تؤمن لهم دخلاً يكفيهم ، وربما لا يعرفون الزراعة .
وهنا تدخلت زوجته صفية قائلة : كيف لا يعرفون الزراعة وآباؤهم وأجدادهم كانوا يزرعون كل شبر في هذه الأرض ؟! ولم يكن لهم أية مداخيل إلا من ريعها .
- فقالت الجدة : يا أبنائي ، عندما كان الناس يعتاشون على الزراعة ، كانوا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم ، أما الآن فإن المستوطنات تملأ المنطقة ، وغالبية الأرض الزراعية مغلقة بأوامر عسكرية بحيث لا يستطيع مالكوها الوصول إليها ، وأنا أسأل عن عدم زراعتهم للأراضي الواقعة بجانب بيوتهم ، بدلاً من أن يتركوها للأعشاب والأشواك الضارة ، لماذا لا يزرعون ويحصلون على حاجة بيوتهم على الأقل ؟ انظروا كيف يمرح أطفالهم في مقاثينا ؟ لماذا لا يوفرون الفرحة لأطفالهم على الأقل ؟!
فرد عليها ابنها مازن : فاقد الشيء لا يعطيه يا أمي ، إنني عندما أرى الفرحة على وجوه أطفالهم- وهم يتراكضون مع أولادي في المقاثي- اشعر بفرحة غامرة ، وأنا أتذكر ما قاله المرحوم توفيق زياد : " وأعطي نصف عمري لمن يجعل طفلاً باكياً يضحك " فلماذا نحرم هؤلاء الأطفال من الضحك والسعادة ؟ ولماذا نحرم أنفسنا هذا الفرح أيضاً ؟!
-فقالت الجدة : الله يرضى عليك يا ابني ، اعمل ما يرضيك وأسأل الله التوفيق ، ثم أضافت : في سنوات الخير يا ولدي : رحمة الله على أبيك ، ذات مرة حرث أرضنا في البقيعة وبذر كيس قمح " أبو خطّين " كان يتسع إلى حوالي خمسين رطلاً ، وربك إذا أعطى لا يبخل يا ولدي ، هل تعلم يا ولدي أننا جمعنا في موسم الحصاد خمسة وثلاثين شوالاً من القمح ، وبذر خمسة أرطال عدس فجمعنا اثني عشر شوالاً ، في زمن والدك الله يرحمه – لم نشتر الطحين ولو مرة واحدة ، لم يطعمكم إلا خبز القمح البلدي ، إذا أمحلت عاماً أو أكثر كان المخزن دائماً مليئاً بالحبوب التي تكفينا لأكثر من خمس سنوات ، لم نعمل في " الورشات " ولم يستخدمنا احد ، كنا أرباب أنفسنا ، نزرع الأرض، ونربي الأغنام ، نشرب حليبها ولبنها ، ونأكل من جبنها وزبدتها وسمنها ، وفي سنوات المحل التي يقل مطرها ولا يتحول الزرع إلى سنابل ،كانت الأغنام ترعى النباتات فلا نخسر شيئاً ، بالعكس كنا نوفر ثمن العلف ،كنا نبيع الخراف والجبن والزبدة واللبن ، ونشتري حاجياتنا الأخرى ، ثم تساءلت :
- من أين تعلمت أنت وإخوتك وأخواتك ؟!
وأجابته : من خير الأرض يا ابني ، فقاطعها : لكن البقيعة الآن مغلقة بأوامر عسكرية يا أمّي ، وغالبية أراضيها إمّا مصادرة أو مغلقة .
*********
كان مازن وزوجته صفية يتسامرون والجدة عائشة تحدثهم عن أيام الخير ، في حين كان الأولاد يلعبون في طرف المقاثي البعيد .
كان هناك عش للدبابير ، كل ولد يحمل قطعة تنك مربعة أو مستطيلة ، ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ضارباً الدبور الذي يقترب منه ، وعندما يسقط الدبور طريحاً على الأرض غير قادر على الطيران ، يدوسه بقدمه أو يقترب منه ، ينزع زبانته التي يلدغ بها ، ويحتفظ به في علبة ، وعندما تهدأ الدبابير ، يرجمون عشها بالحجارة فتثور من جديد .
كان أكثرهم حنكة ودراية في محاربة الدبابير فراس، فهو أكبرهم سناً ، هو الآن في العاشرة من عمره ، واثنان من أبناء الجيران من جيله ، فهم أبناء صف واحد ، فدبّر لهم خطة حسب رأيه سيقضي بها على جميع الدبابير ، وقد اكتسب هذه الخبرة بعد مراقبة الدبابير لعدة أيام ، قال لهم : انظروا إن الدبابير تطير من جحرها إلى أعلى ، سأتقدم أنا وصديقي إسماعيل إلى الجحر نحرك الدبابير داخل الجحر بالعصا ، وعندما تطير ، ننبطح أرضاً ، وتطير هي إلى أعلى ، ونقوم بمحاربتها ، انتم وقوفاً ونحن منبطحان على ظهورنا .
اقترب فراس وإسماعيل من الجحر ، مدّا عصاتيهما إلى الجحر وحركاهما بسرعة فائقة، ثم رمى كل واحد منهم جسده على الأرض بجانب بعضهما البعض ، واحد على يمين جحر الدبابير والآخر على يساره ، فخرجت الدبابير مذعورة وأشبعتهم لسعاً ، عشرات اللسعات في وجوههم وأيديهم وصدورهم ، صراخهم ملأ المنطقة ، اقترب الآخرون منهم لحمايتهم، فكان نصيب كل واحد منهم لسعة أو لسعتين ، إلا يزيد فقد هرب باتجاه الخيمة يصيح بأعلى صوته .
هرع مازن وزوجته صفية باتجاه يزيد يستطلعون الأمر ، في حين كانت تتبعهم الجدة عائشة تتوكأ على عصاها وهي تردد : خير ، اللهم اجعله خير .
وعندما وصل مازن وصفية إلى الأولاد ، جرّا فراس وإسماعيل ولم يتبينا وجهيهما من شدة الورم الناتج عن لسعات الدبابير .
حملوهما إلى المستشفى ، كما استعانا بالجيران لحمل بقية الأطفال ، وفي مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزيتون ، رقد فراس وإسماعيل على سريرين متجاورين ، بعد أن قدم لهما الأطباء العلاج اللازم ، رقدا تحت المراقبة في غرفة الإنعاش المكثف ، في حين تلقى الأطفال الآخرون العلاج في غرفة الطوارئ ، كل و
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني