وكما أن دون الشهدِ إبرَ النحلِ
فإن دون العلياءِ أصنافَ البلاء
انتهى العام الدراسي العام الماضي وارتقى وسيم إلى السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية (البكالوريا) وأصبح لزاماً التهيؤ إلى السنة المصيرية في حياة الطالب بل وأسرته هذا العام 2011، ذلك لأن نتيجة (البكالوريا) هي من الأمور الفائقة الأهمية، أبواه يحلمان أ ن يحصل على العلامات المؤهلة لدراسة الطب. وهو حلم الحياة منذ بدأ وسيم يخط أول الأبجدية في الروضة، فقد استطاع أن يكتب حرف الألف ولو بشكل مائل ولا يزال والده يحتفظ بهذا التراث...
في اجتماع استثنائي سري اجتمع والدا وسيم وخالته المهندسة الموظفة بدون حضوره، وتداولوا في الترتيبات اللازمة لـتأمين دراسة مثمرة من أجل (البكالوريا)، واستعرضت خالته تجربتها مع ابنتها التي اجتازت في العام الماضي نفس الفحص بنجاح باهر، ولكنها لم تحصّل العلامة المؤهلة لدراسة الطب.
ـــ يجب تحديد المواد التي تحتاج إلى أستاذ مختص وهي: الرياضيات والعلوم والفيزياء والكيمياء واللغات العربية والإنكليزية والفرنسية... ـــ هل نسيت مادة القومية، لقد أثرت على مجموع ابنتي إذ نقصها ثلاث علامات لكي تدخل الطب، وذلك بسبب هذه المادة. ـــ أنا لم أسمع بأستاذ خاص بمادة القومية، هذه مادة حفظية لا حاجة فيها لأستاذ خصوصي إنها مثل مادة الديانة. ـــ يجب البحث عن أشهر الأساتذة في كل مادة، وليكن بعلمكم أن بعض الأساتذة تعطي الدروس المأجورة في منازلهم، وآخرون يحضرون لبيت الطالب، لأن السلطات لا تسمح بالتدريس الخصوصي إلا عبر مدارس خاصة، وهذه لا تختلف عن المدارس العامة في أنظمتها وتدريسها، بينما يتهافت أولياء الطلاب نحو الدروس الخصوصية في سباق محموم لأن القصد هو الحصول على العلامة الأعلى للوصول إلى الدراسة الأغلى! إن بلوغ العلامات المؤهلة للطب هو الهدف الأسمى لأولياء الطلاب، ذلك هو الهاجس المستحكم في عام التقدم لامتحانات البكالوريا، وفي هذا السبيل يصبح المنزل بمثابة ثكنة عسكرية، وغرفة الاجتهاد كما الزنزانة، وتعيش العائلة في ظروف استنفار، يقنن تشغيل التلفاز، يرفع الحاسوب عن الأنظار،تؤجل الزيارات ، يضطرب النظام في البيت حتى يرخي الامتحان سدوله. يفضل الصمت، النوم بمقدار والاستيقاظ بالوقت المحتوم، وألف ألف سؤال يومياً من الوالدة أين وصلت؟ ماذا قرأت؟ لماذا تأخرت؟ واتصالات يومياً بالهاتف مع الأساتذة الخصوصيين للاطمئنان على حسن سير العملية الاجتهادية.
أقول أنا الكاتب هنا:
الطب ... الطب.... الهدف القمة للأجيال منذ أن استجدت الجامعة! ولماذا كان الطب في هذه المكانة ؟ أليست التخصصات الإلكترونية والهندسية ذات شأن متعاظم؟ أليس المحامي ذا منزلة وأهمية؟ أليست اللغويات مرغوبة ومطلوبة؟ أليس العالم الفيزيائي النووي سيد العلم؟ أليس عالم الفضاء شخصية عالمية أثيرة؟ بلى ولكنها العقلية الصنمية الموروثة، إنا وجدنا آباءنا وإنا على آثارهم لمقتدون. أليس من انتفاضة فكرية تنقاد بالعقل في اعتبارالتعليم حسب الأهمية وحسب رغبة الطالب وميوله وليس بمفاهيم القدامى من القوم؟
نعود للحوار ضمن الاجتماع العتيد إذ يتساءل الأب البائس: ـــ والآن، كم يكلف إجمالي هذه الدورات؟ ـــ حسب الاتفاقات، لقد كلفتني بالنسبة لابنتي في العام الماضي حوالي مئتين وخمسين ألف ليرة، ويجب المباشرة فوراً كي يمكن استيفاء المنهاج بالكامل، والدفع مبدئياً نصف المبلغ وبعد ثلاثة أشهر الباقي. ـــ حسبي الله ونعم الوكيل، في زماننا لم يكن هناك دروس خصوصية، ولا هذه المصاريف التعجيزية. ـــ هذا هو الواقع، وأؤكد أنه يجب الإسراع في المباشرة قبل فوات الأوان، لأن الأساتذة المشهورين سيعتذرون في حال التأخير. ـــ غداً سوف أقوم بمعاملة سحب مبلغ مئتي ألف ليرة من المصرف بحجة إجراء صيانة للبيت، ـــ وأنا الوالدة سوف أبيع سواري الذهبي الذي هو الهدية الغالية لدي منذ منحتني إياه حين الخطبة، وترقرقت عبرتان..... من مقلتي الزوجة ــ أم وسيم! ـــ وأنا خالة وسيم الغالي سوف أشترك في جمعية شهرية بمبلغ عشرين ألف ليرة، وأتقدم بها هدية لابن أختي بهذه المناسبة. مالم يكن بالحسبان حصل بالنسبة لمعاملة قرض الصيانة العقارية من المصرف. هذا الأمر لم تجر رياحه كما تشتهي السفن، إذ تبين أثناء إجراء المعاملة أن في الصحيفة العقارية للبيت موضوع الطلب إشارة إلى وجود مخالفة عمرانية يجب إزالتها بالهدم أو دفع غرامة، ويتعذر على والدي إزالة المخالفة حالياً وهي (إنشاء غرفة إضافية غير مرخصة) والغرامة تعادل المبلغ المقصود سحبه من المصرف، .......همس مسيِّر المعاملات بأذن والدي: أو تدفع رشوة مقدارها خمسون ألفاً تنتهي المشكلة وتحصل على القرض المطلوب، انتفض والدي وأقسم أنه لن يدخل في لعبة الفساد مهما كلف الأمر، الوقت يمر، ولا مجال للافتكار و الاتتظار، احتار الأهل فيما هم فاعلون، هنا تدخل عم وسيم وقام بإجراء معاملة نظامية باسمه على حساب أبي وسيم مادياً. وأنقذ ما أمكن إنقاذه.
علم الأب فيما بعد أن مسيَّر المعاملات ذاك، استدعي للتحقيق إلى جانب المواطنين أصحاب العلاقة بعد أن اعترف الموظف الفاسد المختص بالتزوير في مجال المخالفات العمرانية بكل المعاملات الفاسدة ذات العلاقة مع المصرف!! قبل أن ينفض الاجتماع استدعي السيد وسيم ، وأبلغ أنه تقرر البدء في الدروس الخصوصية. وأن عليه شحذ الهمم، فوعد خيراً دون أن يسأل عن التفاصيل.
ـــ ولكن ـــ ياوالدي ـــ أجور هذه الدروس باهظة جداً، أتعهد بالدراسة دون الاستعانة بالأساتذة الخصوصيين، وأحصل على العلامات المطلوبة. ـــ لا لا يا عين والدك، سنقوم بواجبنا الأبوي، وأنت عليك المثابرة، وتقدير الحال!
مضت شهور وأيام سنة بكاملها، ولا يعلم إلا الله كم عانت العائلة بسبب مصير منتظر هو في غياهب القدر، ووسيم بطل الحدث يتأرجح بين المدرسة كيلا يفصل عنها إذا تغيب وبين أساتذة الدورات في بيوتهم أو في منزل آل وسيم، وعليه أن يوفق بين المواعيد ليلاً و نهاراً مطراً أوصحواً، وقد تشتت بين وسائل النقل وهو يحمل (كشكوله) كساع إلى الهيجا بدون سلاح . وأزف اليوم الموعود....
ليلة السادس من حزيران عام 2011 تاريخ الامتحان لأول مادة، لم تنم أم وسيم مطلقاً، تلك الليلة، لاحظ وسيم الشحوب البادي على وجه أمه، وهاهي تتلو آيات الله والأدعية آناء الليل وأطراف النهار، سمحت له أمه أن ينام ساعة عند باكورة الصباح، وأيقظته وأمرته أن يغتسل، وحين انتهى ألبسته كما ثياب العيد، وكان أمامه على المكتب فنجان القهوة لكي يبقى صاحياً، وكأس من الحليب لتنشيط فكره، ترجوه أن ينظر في الكتاب لآخر مرة، إن الثواني في هذه الظروف لها وحي خاص, أما وسيم الذي بدا مضطرباً في الساعة الأخيرة قبل أن يغادر البيت، فقد استشعر كأنه نسي كل شيء، كأن حاسوب فكره أصابه العطب ولم يعد يتجاوب، يا ألله أين ذهبت المعلومات؟ أين الجهود؟ أين الدورة الخصوصية؟ كيف سأدخل قاعة الامتحان وأفكاري صفر؟ ها هي والدتي أمامي أينما تحركت، لا تنس القلم! بل خذ قلمين احتياطاً، لا تنس البسملة قبل أن تكتب حرفاً، لا تنس الدعاء لأن الله يستجيب لعباده في ساعة العسرة،
ـــ أجل الدعاء أذكره جيداً، لكن محفوظاتي أين تبخرت؟ اضطربت حركاته وشعر كأن توازنه قد اختل، أما الوالد فكان جالساً غير بعيد، يحتسي قهوته، وهو أيضاً متوترالأعصاب ويرقب المشهد عن كثب. ومن عادته في حال القلق أن رجله اليمنى ترجف بحركة دؤوبة ظاهرة. ــ أراك مضطرباً يا بنيّ؟ ــ لست أدري ما أفعل، أشعر كأنني لا أتذكر شيئاً من المادة. ــ لا بأس يا بني، هذه حالة نفسية عارضة، تزول بمجرد اطلاعك على ورقة الامتحان. توكل على الله، إني ذاهب معك إلى مكان الامتحان، وسنترك والدتك هنا تتابع صلواتها وأدعيتها وتمتماتها.
خرج موكب وسيم مع والده قبل ساعة من موعد الفحص، بعد أن شيعته أمه بقبلاتها ونفثات أدعيتها ونظراتها المؤثرة. وفي الطريق إلى مركز الامتحان كان الوالد يوصي ابنه: لاتنس كتابة اسمك، لا تستعجل في الجواب قبل أن تراجع نفسك، راجع ما كتبت قبل أن تخرج، وتأكد أنك أجبت عن كل الأسئلة، لا تهتم بمن حولك ربما يكون جواب غيرك هو الخطأ.... وجرى الامتحان، وحين خرج كان السرور بادياً على وجهه، لم يجد والده فقـد ذهب لعمله، لكن وسيماً وهو خارج من قاعة الامتحان، وجد والدته التي اكتفت بالبسمة على محياه، فكأنما ملكت الدنيا وما فيها. وهكذا ــ بلا طول سيرة ـ قد أنجز آخر الامتحان يوم الأربعاء في التاسع والعشرين من تموز.
في نفس اليوم، انعقد الاجتماع العائلي الثلاثي الاستثنائي الذي سبق الإشارة إليه. ـــ انتهى فحص البكالوريا، ولكنه لما ينته بعد، هناك الدورة الثانية (منحة السيد الرئيس) كل الطلاب سيتقدمون إليها، لعلهم يكسبون علامات إضافية. ـــ لاشك أن وسيماً سيحذو حذو زملائه. ـــ لقد علمت منه أنه متخوف من فحص مادة اللغة العربية، وغير واثق من إجاباته، خاصة سؤال التعبير الذي لا يمكن تقدير مدى صحة الإجابة عنه. ـــ ماذا تقصدين يا خالة وسيم؟ ـــ هناك دورات تخصصية سريعة مكثفة من أجل الدورة الثانية، أرى أن يتبعها، من الغد، إنها فرصة العمر، يا جماعة. ـــ وكم تكلف الدورة؟ ـــ إن أستاذ أية مادة يتقاضى ألف ليرة عن كل درس (مع المراعاة الشخصية)، والدفع مقدماً عن كل مادة خمسة آلاف ليرة كسلفة مبدئية. ـــ أقول: إن أجور التعليم لا تخضع لمراقبة أو مساومة، وطالما استمر الماراتون السنوي نحو فروع الجامعة، فإن الأجور هي ضمن حلبة السباق أيضاً. ـــ وأقول: يا لسعادة الطالب الذي يحظى بالأساتذة الخصوصيين في ظروف لا ترحم ولاتقدر الأحوال! ـــ حسبي الله ونعم الوكيل. نزعت أم وسيم قرطها من أذنيها، وخلعت أيضاً خاتم زواجها، ودفعت بهذ المصوغات الذهبية إلى زوجها ملفوفة في منديلها، أضاف أبو وسيم إليها خاتم زواجه ومسبحة كهرمان غالية الثمن ورثها عن أبيه وأبي أبيه، ونزل إلى السوق. لوحظت عبرتان تترقرقان... لكن هذه المرة من مقلتي أبي وسيم.....
للأستاذ محمد زعيتر
مع كل شكري
ماهر بشناق
فإن دون العلياءِ أصنافَ البلاء
انتهى العام الدراسي العام الماضي وارتقى وسيم إلى السنة الأخيرة من الدراسة الثانوية (البكالوريا) وأصبح لزاماً التهيؤ إلى السنة المصيرية في حياة الطالب بل وأسرته هذا العام 2011، ذلك لأن نتيجة (البكالوريا) هي من الأمور الفائقة الأهمية، أبواه يحلمان أ ن يحصل على العلامات المؤهلة لدراسة الطب. وهو حلم الحياة منذ بدأ وسيم يخط أول الأبجدية في الروضة، فقد استطاع أن يكتب حرف الألف ولو بشكل مائل ولا يزال والده يحتفظ بهذا التراث...
في اجتماع استثنائي سري اجتمع والدا وسيم وخالته المهندسة الموظفة بدون حضوره، وتداولوا في الترتيبات اللازمة لـتأمين دراسة مثمرة من أجل (البكالوريا)، واستعرضت خالته تجربتها مع ابنتها التي اجتازت في العام الماضي نفس الفحص بنجاح باهر، ولكنها لم تحصّل العلامة المؤهلة لدراسة الطب.
ـــ يجب تحديد المواد التي تحتاج إلى أستاذ مختص وهي: الرياضيات والعلوم والفيزياء والكيمياء واللغات العربية والإنكليزية والفرنسية... ـــ هل نسيت مادة القومية، لقد أثرت على مجموع ابنتي إذ نقصها ثلاث علامات لكي تدخل الطب، وذلك بسبب هذه المادة. ـــ أنا لم أسمع بأستاذ خاص بمادة القومية، هذه مادة حفظية لا حاجة فيها لأستاذ خصوصي إنها مثل مادة الديانة. ـــ يجب البحث عن أشهر الأساتذة في كل مادة، وليكن بعلمكم أن بعض الأساتذة تعطي الدروس المأجورة في منازلهم، وآخرون يحضرون لبيت الطالب، لأن السلطات لا تسمح بالتدريس الخصوصي إلا عبر مدارس خاصة، وهذه لا تختلف عن المدارس العامة في أنظمتها وتدريسها، بينما يتهافت أولياء الطلاب نحو الدروس الخصوصية في سباق محموم لأن القصد هو الحصول على العلامة الأعلى للوصول إلى الدراسة الأغلى! إن بلوغ العلامات المؤهلة للطب هو الهدف الأسمى لأولياء الطلاب، ذلك هو الهاجس المستحكم في عام التقدم لامتحانات البكالوريا، وفي هذا السبيل يصبح المنزل بمثابة ثكنة عسكرية، وغرفة الاجتهاد كما الزنزانة، وتعيش العائلة في ظروف استنفار، يقنن تشغيل التلفاز، يرفع الحاسوب عن الأنظار،تؤجل الزيارات ، يضطرب النظام في البيت حتى يرخي الامتحان سدوله. يفضل الصمت، النوم بمقدار والاستيقاظ بالوقت المحتوم، وألف ألف سؤال يومياً من الوالدة أين وصلت؟ ماذا قرأت؟ لماذا تأخرت؟ واتصالات يومياً بالهاتف مع الأساتذة الخصوصيين للاطمئنان على حسن سير العملية الاجتهادية.
أقول أنا الكاتب هنا:
الطب ... الطب.... الهدف القمة للأجيال منذ أن استجدت الجامعة! ولماذا كان الطب في هذه المكانة ؟ أليست التخصصات الإلكترونية والهندسية ذات شأن متعاظم؟ أليس المحامي ذا منزلة وأهمية؟ أليست اللغويات مرغوبة ومطلوبة؟ أليس العالم الفيزيائي النووي سيد العلم؟ أليس عالم الفضاء شخصية عالمية أثيرة؟ بلى ولكنها العقلية الصنمية الموروثة، إنا وجدنا آباءنا وإنا على آثارهم لمقتدون. أليس من انتفاضة فكرية تنقاد بالعقل في اعتبارالتعليم حسب الأهمية وحسب رغبة الطالب وميوله وليس بمفاهيم القدامى من القوم؟
نعود للحوار ضمن الاجتماع العتيد إذ يتساءل الأب البائس: ـــ والآن، كم يكلف إجمالي هذه الدورات؟ ـــ حسب الاتفاقات، لقد كلفتني بالنسبة لابنتي في العام الماضي حوالي مئتين وخمسين ألف ليرة، ويجب المباشرة فوراً كي يمكن استيفاء المنهاج بالكامل، والدفع مبدئياً نصف المبلغ وبعد ثلاثة أشهر الباقي. ـــ حسبي الله ونعم الوكيل، في زماننا لم يكن هناك دروس خصوصية، ولا هذه المصاريف التعجيزية. ـــ هذا هو الواقع، وأؤكد أنه يجب الإسراع في المباشرة قبل فوات الأوان، لأن الأساتذة المشهورين سيعتذرون في حال التأخير. ـــ غداً سوف أقوم بمعاملة سحب مبلغ مئتي ألف ليرة من المصرف بحجة إجراء صيانة للبيت، ـــ وأنا الوالدة سوف أبيع سواري الذهبي الذي هو الهدية الغالية لدي منذ منحتني إياه حين الخطبة، وترقرقت عبرتان..... من مقلتي الزوجة ــ أم وسيم! ـــ وأنا خالة وسيم الغالي سوف أشترك في جمعية شهرية بمبلغ عشرين ألف ليرة، وأتقدم بها هدية لابن أختي بهذه المناسبة. مالم يكن بالحسبان حصل بالنسبة لمعاملة قرض الصيانة العقارية من المصرف. هذا الأمر لم تجر رياحه كما تشتهي السفن، إذ تبين أثناء إجراء المعاملة أن في الصحيفة العقارية للبيت موضوع الطلب إشارة إلى وجود مخالفة عمرانية يجب إزالتها بالهدم أو دفع غرامة، ويتعذر على والدي إزالة المخالفة حالياً وهي (إنشاء غرفة إضافية غير مرخصة) والغرامة تعادل المبلغ المقصود سحبه من المصرف، .......همس مسيِّر المعاملات بأذن والدي: أو تدفع رشوة مقدارها خمسون ألفاً تنتهي المشكلة وتحصل على القرض المطلوب، انتفض والدي وأقسم أنه لن يدخل في لعبة الفساد مهما كلف الأمر، الوقت يمر، ولا مجال للافتكار و الاتتظار، احتار الأهل فيما هم فاعلون، هنا تدخل عم وسيم وقام بإجراء معاملة نظامية باسمه على حساب أبي وسيم مادياً. وأنقذ ما أمكن إنقاذه.
علم الأب فيما بعد أن مسيَّر المعاملات ذاك، استدعي للتحقيق إلى جانب المواطنين أصحاب العلاقة بعد أن اعترف الموظف الفاسد المختص بالتزوير في مجال المخالفات العمرانية بكل المعاملات الفاسدة ذات العلاقة مع المصرف!! قبل أن ينفض الاجتماع استدعي السيد وسيم ، وأبلغ أنه تقرر البدء في الدروس الخصوصية. وأن عليه شحذ الهمم، فوعد خيراً دون أن يسأل عن التفاصيل.
ـــ ولكن ـــ ياوالدي ـــ أجور هذه الدروس باهظة جداً، أتعهد بالدراسة دون الاستعانة بالأساتذة الخصوصيين، وأحصل على العلامات المطلوبة. ـــ لا لا يا عين والدك، سنقوم بواجبنا الأبوي، وأنت عليك المثابرة، وتقدير الحال!
مضت شهور وأيام سنة بكاملها، ولا يعلم إلا الله كم عانت العائلة بسبب مصير منتظر هو في غياهب القدر، ووسيم بطل الحدث يتأرجح بين المدرسة كيلا يفصل عنها إذا تغيب وبين أساتذة الدورات في بيوتهم أو في منزل آل وسيم، وعليه أن يوفق بين المواعيد ليلاً و نهاراً مطراً أوصحواً، وقد تشتت بين وسائل النقل وهو يحمل (كشكوله) كساع إلى الهيجا بدون سلاح . وأزف اليوم الموعود....
ليلة السادس من حزيران عام 2011 تاريخ الامتحان لأول مادة، لم تنم أم وسيم مطلقاً، تلك الليلة، لاحظ وسيم الشحوب البادي على وجه أمه، وهاهي تتلو آيات الله والأدعية آناء الليل وأطراف النهار، سمحت له أمه أن ينام ساعة عند باكورة الصباح، وأيقظته وأمرته أن يغتسل، وحين انتهى ألبسته كما ثياب العيد، وكان أمامه على المكتب فنجان القهوة لكي يبقى صاحياً، وكأس من الحليب لتنشيط فكره، ترجوه أن ينظر في الكتاب لآخر مرة، إن الثواني في هذه الظروف لها وحي خاص, أما وسيم الذي بدا مضطرباً في الساعة الأخيرة قبل أن يغادر البيت، فقد استشعر كأنه نسي كل شيء، كأن حاسوب فكره أصابه العطب ولم يعد يتجاوب، يا ألله أين ذهبت المعلومات؟ أين الجهود؟ أين الدورة الخصوصية؟ كيف سأدخل قاعة الامتحان وأفكاري صفر؟ ها هي والدتي أمامي أينما تحركت، لا تنس القلم! بل خذ قلمين احتياطاً، لا تنس البسملة قبل أن تكتب حرفاً، لا تنس الدعاء لأن الله يستجيب لعباده في ساعة العسرة،
ـــ أجل الدعاء أذكره جيداً، لكن محفوظاتي أين تبخرت؟ اضطربت حركاته وشعر كأن توازنه قد اختل، أما الوالد فكان جالساً غير بعيد، يحتسي قهوته، وهو أيضاً متوترالأعصاب ويرقب المشهد عن كثب. ومن عادته في حال القلق أن رجله اليمنى ترجف بحركة دؤوبة ظاهرة. ــ أراك مضطرباً يا بنيّ؟ ــ لست أدري ما أفعل، أشعر كأنني لا أتذكر شيئاً من المادة. ــ لا بأس يا بني، هذه حالة نفسية عارضة، تزول بمجرد اطلاعك على ورقة الامتحان. توكل على الله، إني ذاهب معك إلى مكان الامتحان، وسنترك والدتك هنا تتابع صلواتها وأدعيتها وتمتماتها.
خرج موكب وسيم مع والده قبل ساعة من موعد الفحص، بعد أن شيعته أمه بقبلاتها ونفثات أدعيتها ونظراتها المؤثرة. وفي الطريق إلى مركز الامتحان كان الوالد يوصي ابنه: لاتنس كتابة اسمك، لا تستعجل في الجواب قبل أن تراجع نفسك، راجع ما كتبت قبل أن تخرج، وتأكد أنك أجبت عن كل الأسئلة، لا تهتم بمن حولك ربما يكون جواب غيرك هو الخطأ.... وجرى الامتحان، وحين خرج كان السرور بادياً على وجهه، لم يجد والده فقـد ذهب لعمله، لكن وسيماً وهو خارج من قاعة الامتحان، وجد والدته التي اكتفت بالبسمة على محياه، فكأنما ملكت الدنيا وما فيها. وهكذا ــ بلا طول سيرة ـ قد أنجز آخر الامتحان يوم الأربعاء في التاسع والعشرين من تموز.
في نفس اليوم، انعقد الاجتماع العائلي الثلاثي الاستثنائي الذي سبق الإشارة إليه. ـــ انتهى فحص البكالوريا، ولكنه لما ينته بعد، هناك الدورة الثانية (منحة السيد الرئيس) كل الطلاب سيتقدمون إليها، لعلهم يكسبون علامات إضافية. ـــ لاشك أن وسيماً سيحذو حذو زملائه. ـــ لقد علمت منه أنه متخوف من فحص مادة اللغة العربية، وغير واثق من إجاباته، خاصة سؤال التعبير الذي لا يمكن تقدير مدى صحة الإجابة عنه. ـــ ماذا تقصدين يا خالة وسيم؟ ـــ هناك دورات تخصصية سريعة مكثفة من أجل الدورة الثانية، أرى أن يتبعها، من الغد، إنها فرصة العمر، يا جماعة. ـــ وكم تكلف الدورة؟ ـــ إن أستاذ أية مادة يتقاضى ألف ليرة عن كل درس (مع المراعاة الشخصية)، والدفع مقدماً عن كل مادة خمسة آلاف ليرة كسلفة مبدئية. ـــ أقول: إن أجور التعليم لا تخضع لمراقبة أو مساومة، وطالما استمر الماراتون السنوي نحو فروع الجامعة، فإن الأجور هي ضمن حلبة السباق أيضاً. ـــ وأقول: يا لسعادة الطالب الذي يحظى بالأساتذة الخصوصيين في ظروف لا ترحم ولاتقدر الأحوال! ـــ حسبي الله ونعم الوكيل. نزعت أم وسيم قرطها من أذنيها، وخلعت أيضاً خاتم زواجها، ودفعت بهذ المصوغات الذهبية إلى زوجها ملفوفة في منديلها، أضاف أبو وسيم إليها خاتم زواجه ومسبحة كهرمان غالية الثمن ورثها عن أبيه وأبي أبيه، ونزل إلى السوق. لوحظت عبرتان تترقرقان... لكن هذه المرة من مقلتي أبي وسيم.....
للأستاذ محمد زعيتر
مع كل شكري
ماهر بشناق
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني