قراءة في قصيدة "عتاب" لمحمد الخضور
عتاب
لأنّ الحُلمَ كان طويلًا
لم يتّسع الجدارُ لكل الصورْ
ولمْ يتوزع العمرُ
على كلّ الفصولْ
سقطتْ زهرةُ اللوزِ
قبلَ أنْ يشبعَ النحلُ
وقبلَ أنْ تسكُنَ تحتها
نملة خائفة
من عيونِ الطيورْ
كبرتُ
قبلَ بلوغِ القرنفلِ
سنّ التفتحِ
وجاء الغيابُ
قبيلَ وصولي
إلى نشوةِ الحُلمِ
يُعلنُ أني خَرجتُ - احتجاجًا -
ولمّا أعودْ
أرأيتِ يا أمي ؟
كيفَ لمْ تُمهل الريحُ
صغارَالحمامْ
كي يكتبوا على فوهة العشّ
وَصيّتَهُم للبيوضِ التي
لم تنكسرْ
لو انكِ
تَرَكْتِ البردَ يوقظني
قبلَ أنْ يسرِقَ الحُلمُ
كل الحقيقةِ
لأدركتُ من قبلُ
حجمَ الهزيمةِ
وهيأتُ نفسي لِرَدْمِ المسافةِ
بين انكساري وطعمِ الترابْ
لو انكِ
لم تمنعيني من اللعبِ
بِعودِ الثقابْ
لاعتادَ قلبي على الخوفِ
واعتادتْ أصابعي
على الاحتراقْ
لو انكِ لم تُقنعيني
بأني سأصبحُ - يومًا - وسيمًا
أثير انتباهَ الصبايا
لطوّعْتُ نفسي على الانشغالِ
بحجْم الفراغِ
وطعم التوحّدْ
لو انك أبقيتِ حُلمي قصيرًا
بِعمرِ الرحيقْ
بوقتِ انتهاءِ صلاحيةِ الفجرِ
بَعدَ الصلاة
بِقِصَرِ المسافةِ بيني وبينكِ
لما ضاقت الأرضُ هذا المساءْ
ولا عايشَ الطفلُ
حزنَ الحضورِ
بهذا الغيابْ
لو اني فهمتُ
ما قالت الأرضُ للثلجِ
لتوقفتُ عن اللهوِ
بنحتِ التماثيلِ والأمنياتْ
وجئتُ بالشمسِ قبل َالغروبِ
كي لا أنام وحيدًا
على لسعة البرد
والمستحيلْ
يتميز شعر محمد الخضور بخاصية بارزة ترتبط بتيمة الألم والوجع والصراع والقلق الذاتي, فقد تعددت أوجه هذا الموضوع ترجمتها عناوين قصائده (كابوس ـ حتى اللحظة الأخيرة ـ غريب ـ طوباس ـ صراع ...)
لقد تمرس شعره في أهم تجلياته على المعاناة والوجع والاستسلام. وها هو في قصيدة "عتاب" يستمر في التعبير عن هذه التجربة المريرة, ولكنه يطل علينا بأسلوب مختلف, حيث تحضر الأم في قصيدته وتتربع وسط كلماته الحزينة لتسمع عن طريق العتاب أنين الابن وانكساره وضيق صدره...
إن ما استوقفني في قصيدة "عتاب" إضافة إلى حضور موضوع الألم, هو ذكر الأم حيث ترى الشاعر في هذه القصيدة يضع رأسه على صدرها أو على ركبتيها, مستشعرا دفئها, باثا إليها شكواه, مستنجدا بها وبحنانها في أصعب اللحظات. ما جعل هذه الصورة مرآة تنعكس عليها آلام الشاعر الكبيرة ووجعه الداخلي.
أبدأ دخول عالم القصيدة من عتبة العنوان, إذا تأملت عناوين قصائد محمد الخضور تجده يختارها بعناية كبيرة, حيث يسلك طريقة اختزال دلالات النص في كلمة واحدة تحيل القارئ إلى التيمة المركزية في القصيدة, وتكون بمثابة إعلان صريح عن الموضوع, وغالبا ما تتمحور حول ذلك الهم والقلق الذي لا يبرح مكانه في نفسية الشاعر.
فكلمة "عتاب" تحيلنا إلى موضوع القصيدة, وتدل على أن في نفس المعاتِبِ الكثير من المآخذ عن المعاتَب, وإذا استحضرنا التيمة الأساسية التي تسيطر على نفسية الشاعر أمكننا تحديد دلالة العتاب هنا, على أنها تحمل معنى البوح واستبطان أعماق النفس والصبر على ما ألم بالشاعر من أحزان وتخفف من جراحه..
وتبدأ المعاناة والشكوى والتعبير عن الانكسار مع بداية القصيدة, حيث الإحساس بهروب الزمن يحدث حزنا وأسى عميقين في نفسية الشاعر, فالحلم شريط طويل من الصور والمشاهد, لم يمهله الزمن تحقيقها, كما لم يمهل العمر حتى يكتمل, بل يتوقف مبكرا جدا وتضيع بذلك باقي فصول الحياة, يقول الشاعر:
لأن الحلم كان طويلا
لم يتسع الجدار لكل الصور
ولم يتوزع العمر
على كل الفصول
ولا يتوقف الشاعر عند هذا الحد, بل يؤكد على معنى الضياع والخوف حيث يضيف قائلا بعاطفة مليئة بالحزن:
سقطت زهرة اللوز
قبل أن يشبع النحل
وقبل أن تسكن تحتها
نملة خائفة
من عيون الطيور
يقف الشاعر قليل الحيلة أمام قدر/ زمن أبى إلا أن يوقف كل شيء, زهرة العمر لم تتفتح بعد, وفصول العمر تضيع , ويقفز به القدر إلى المراحل الأخيرة يقول:
كبرت
قبل بلوغ القرنفل
سن التفتح
وتتصاعد وتيرة الإعلان عن هول الفاجعة التي ألمت به, والتي باغتته وهو ما يزال بعمر الزهور, حيث يستمر في عرض تفاصيل هذه الأحداث المؤلمة التي تصل إلى ذروتها حين يحس بالغياب والتلاشي النهائي قبل الأوان (قبيل وصوله إلى نشوة الحلم) وما يحدثه ذلك في النفس من رعب, يقول:
وجاء الغياب
قبيل وصولي
إلى نشوة الحلم
يعلن أني خرجت ـ احتجاجا ـ
ولما أعود
وأمام هذا الانكسار واليأس, يتوجه الشاعر بأحزانه العميقة إلى الأم, يشكو إليها قلقه وهمه, فتراه بكل رقة يخاطبها ويذكرها بحالة الانهيار والسقوط التي يعيشها اليوم, داعيا إياها أن تنظر إلى ما حل به, إلى الريح التي عصفت بالحياة في بداياتها يقول:
أرأيت يا أمي؟
كيف لم تمهل الريح
صغار الحمام
كي يكتبوا على فوهة العش
وصيتهم للبيوض التي
لم تنكسر
ومهد بهذه الشكوى لعتاب أم أغدقت عليه من الحب والحنان والرعاية ما لا حد له, والمفارقة هو أنه في خضم هذه المحنة يعاتبها على كل هذا الحب والحنان والرعاية التي شملته بها, لأنه يجد نفسه اليوم بكل ذلك طريا, حساسا جدا, لا يقوى على تحمل هول المأساة وحدتها, ليقول لأمه بكثير من اللطف والرقة والحياء: إنك مذنبة يا أمي بكل هذا الحب لأنك لم تجعلي مني إنسانا صلبا قويا مستعدا لهذا المصير الذي يتربص بي.
فعلاقة الشاعر بأمه قوية ومتينة حتى أن هذا العتاب يعكس حبا كبيرا بينهما, فهو يلومها ويعاتبها بلغة لطيفة فيها من الاستحياء والحب ما يشحن كلمة "عتاب" بدلالة الصبر والبوح والاسترحام نتيجة إحساسه بالخوف والضياع .
ويتأرجح المعنى في هذه المقاطع بين ما كان وما يجب أن يكون, الشاعر يحتاج اليوم أن يكون شخصية أخرى غير شخصيته الرقيقة. على ذلك يلوم أمه كونها لم تعده لهذه الرياح الهوجاء التي جاءت لتعصف بكل شيء, وتسرق منه أجمل اللحظات, فقد كبر قبل الأوان, وأحس حينها بالهزيمة والانكسار. واستعمل كلمة (لو) على وجه الجزع من الحاضر والحزن على الماضي, فلو لم تحطه بكل هذا الدفء لتمكن اليوم من مواجهة ذلك بقلب صامد وصلب, لو أنها تركت البرد يوقظه قبل هذه اللحظة المريرة التي ضاع فيها كل شيء, لتمكن من الصمود والاستعداد لها, يقول:
لو أنكِ
تَرَكْتِ البردَ يوقظني
قبلَ أنْ يسرِقَ الحُلمُ
كل الحقيقةِ
لأدركتُ من قبلُ
حجمَ الهزيمةِ
وهيأتُ نفسي لِرَدْمِ المسافةِ
بين انكساري وطعمِ الترابْ
ويستمر في عتابها قائلا:
لو أنكِ
لم تمنعيني من اللعبِ
بِعودِ الثقابْ
لاعتادَ قلبي على الخوفِ
واعتادتْ أصابعي
على الاحتراقْ
الشاعر لا يستحضر الطفولة وشقاوتها (اللعب بعود الثقاب....) ليتذكر أيام صباه الجميلة, بل ليعبر عن ما تركه ذلك من حسرة في قلبه, وليقول لأمه, إن المخاطر التي يتعرض لها الأطفال بطيشهم, تقوي شخصيتهم, فلو أنها لم تحمه من نفسه في الصغر, وتركته يتعود على الألم منذ صباه, لوجد اليوم نفسه أكثر استعدادا على تحمل الاحتراق الحقيقي الذي يواجهه والصبر عليه.
ليس هذا فحسب فهو يلومها ويعاتبها على أنها رأت فيه شابا وسيما حساسا وأقنعته بأنه سيثير انتباه الفتيات, ولو لم تفعل لانشغل بغير وسامته وأحلامه, وأصبح يستعد لهذا المصير وهذه الغربة القاتلة, يقول:
لو انكِ لم تُقنعيني
بأني سأصبحُ - يومًا - وسيمًا
أثيرانتباهَ الصبايا
لطوّعْتُ نفسي على الانشغالِ
بحجْم الفراغِ
وطعم التوحّدْ
وبنفس اللغة الهادئة, يعلو سقف عتاب الشاعر لأمه ويتوجه إليها بما وجب أن يكون, فلو أنها تحكمت في حلمه وأجهضته منذ صغره لتمكن اليوم من تحمل مأساته, ولا عاش حاضره حزينا بسبب إحساسه بالغياب المبكر, يقول:
لو انك أبقيتِ حُلمي قصيرًا
بِعمرِ الرحيقْ
بوقتِ انتهاءِ صلاحيةِ الفجرِ
بَعدَ الصلاة
بِقِصَرِ المسافةِ بيني وبينكِ
لما ضاقت الأرضُ هذاالمساءْ
ولا عايشَ الطفلُ
حزنَ الحضورِ
بهذا الغياب
وتستمر الحسرة والمعاناة فبعد معاتبة الأم, انتقل إلى معاتبة النفس على عدم إدراكها الحقيقة قبل هذا الوقت وفهم إشارات كثيرة من الطبيعة حوله تنذر بحتمية النهاية والتلاشي كما يتلاشى الثلج على الأرض, فالموت حقيقة لا يرقى إليها الشك. لو فهم هذه الإشارات منذ الطفولة لترك اللهو وانصرف عن الأحلام وراح يستعد لهذا المصير المحتوم, يقول:
لو اني فهمتُ
ما قالت الأرضُ للثلجِ
لتوقفتُ عن اللهوِ
بنحتِ التماثيلِ والأمنياتْ
وجئتُ بالشمسِ قبل َالغروبِ
كي لا أنا موحيدًا
على لسعة البرد
والمستحيلْ
إن القصيدة تكشف عن حجم الألم الذي يعيشه الشاعر, والذي حوله بلغة شعرية شفافة هادئة إلى عتاب في أوج المأساة والألم. وقد جاء عتاب الأم في القصيدة علامة على الاستسلام والانهزام, كما كان هذا العتاب إدانة صارخة للزمن الذي لم يمهله حتى تكتمل فصول الحياة.
وإذا انتقلنا من الدلالات والمعاني إلى بنية النص وخصائصه الفنية, فإننا نجد أثر التجربة الذاتية واضحا على بناء القصيدة, إذ انعكس على اللغة والصورة الشعرية.
فعلى مستوى اللغة, فقد هيمن معجم القلق واليأس على القصيدة, فنجد كلمات مسكونة بالمعاناة: (سقطت ـ خائفة ـ الغياب ـ البرد ـ الهزيمة ـ انكساري ـ الخوف ـ الاحتراق ـ الفراغ ـ حزن الحضور ـ لسعة البرد ..)
بالإضافة إلى معجم الطبيعة والتأمل, الذي يميز التجربة الشعرية عند محمد الخضور.
أما على مستوى الصورة الشعرية, فقد توسل الشاعر بهذه اللغة الحزينة لتشكيل الصورة الانهزامية والصراع. فالقصيدة فيض مشاعر حزينة ملأت نفسه. فجاءت الصورة قريبة من وجدانه: (لم يتوزع العمر على كل الفصول ـ وتسقط زهرة اللوز قبل أن يشبع النحل ـ ولم يمهل الريح صغار الحمام ليكتبوا وصيتهم على فوهة العش ـ والحلم يسرق كل الحقيقة...).
وسما الشاعر بلغته حد الإيحاء, إذ اكتسبت الكلمات والعبارات دلالات ومعاني جديدة حولتها إلى رموز وانزياحات دلالية, معبرة عن تيمة المعاناة الذاتية:
(طعم التوحد ـ لو أنك أبقيت حلمي قصيرا بعمر الرحيق ـ ضاقت الأرض هذا المساء....). كما تتحول الريح في القصيدة من ظاهرة طبيعية إلى قدر منزل جاء ليكشف عن الحقيقة التي غابت عن الشاعر وليعصف بكل الحياة: (أرأيت يا أمي؟ ـ كيف لم تمهل الريح صغار الحمام...)
إضافة إلى حضور الدراما في شعر محمد الخضور حيث الصراع والحوار والشخصيات جزء من بنية قصيدته.
أبدع الشاعر في استحضار الأم في قصيدته, وأبدع في عتابها, وهو عتاب ينطوي على كثير من الحب والعرفان, ولكنه ممتزج بحرقة ومرارة لا تفارق كلماته في كل قصائده.
لقد استطاع هذا الشاعر الهادئ بهذه الصور والعاطفة المليئة بالحزن أن ينفذ إلى أعماقنا يوجعها بآلامه ويؤثر فيها بأسلوبه الفني المتميز.
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني