في بلاد العمّ سام
المرّة الأولى التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية كانت في 16-7 1985، بدعوة من أخي احمد، الذي درس الصيدلة في احدى جامعات هيوستن في ولاية تكساس، سافرت على متن طائرةT.w.A. من مطار تل أبيب مباشرة الى مطار كنيدي في نيوورك، وهو مطار ضخم جدا، له عدة مدرجات، كنت قد سافرت من قبل من مطار ماركا في عمان ومطار بيروت ومطار القاهرة ومطار نيقوسيا في قبرص ومطار موسكو، لكنها تبدو مجتمعة أصغر من هذا المطار، بضع طائرات تنزل في وقت واحد، وبضع طائرات أخرى تصعد مغادرة، قبل نزولنا من الطائرة لاستبدالها بأخرى الى هيوستن لفت انتباهي طائرة صاروخية تسير في المدرج المجاور بسرعة البرق وضجيج مرعب، وفي مؤخرتها مظلة ضخمة لتخفيف سرعتها، انها طائرة الكونكورد التي أراها للمرة الأولى.
ستريب تيز:
وفي مطار تل أبيب، تم تفتيش أغراضي يدويا قطعة قطعة، وبدقة متناهية، بعد فحصها ألكترونيا ، وخضعت لأسئلة كثيرة، منها: لماذا أنت مسافر للولايات المتحدة؟ ومن رتب لك حقيبتك، وهل أنت مسؤول عمّا فيها؟ وهل تحمل أغراضا الآخرين؟ وهل تحمل أسلحة؟ ثم اقتادوني الى غرفة تفتيش شخصي خضعت فيه لعملية تعرية كاملة إلا من سروالي الداخلي، وأخذوا حذائي للتفتيش الألكتروني مرة أخرى...واصطحبني رجل أمن الى صالة المغادرين...وهذا ما يحصل دائما مع جميع العرب الذين يستقلون طائرة من هذا المطار.
سُنّي أم شيعي:
وعند ختم جوازات السفر، وفحص تأشيرة الدخول سألني رجل الأمن:Are you soony or sheeay فلم أفهم عليه ماذا يريد، فطلب مني أن أنتظر قليلا، بعد أن سألني عن لغتي الأمّ، فاتصل بالهاتف طالبا أن يرسلوا شخصا يعرف العربية، وفي لحظات حضرت فتاة حسناء هيفاء، وسألتني: هل أنت سُنيّ أم شيعي؟ ولما أجبتها بأنني سني، قالت: نتمنى لك اقامة سعيدة في الولايات المتحدة، وجاء سؤالهم على خلفية اختطاف منظمة أمل الشيعية اللبنانية طائرةT.W.A.
في مطار بيروت.
أخي أحمد ينتظرني:
وفي مطار هيوستن وجدت أخي أحمد في انتظاري، وهذه هي المرة الأولى التي نتقابل فيها منذ سفره في صيف العام 1965 الى البرازيل بعد أن انهى الثانوية العامة- التوجيهي- ليلتحق بأخينا الأكبر محمد الذي سافر الى البرازيل في 8-8-1960 تاركا زوجته(حليمة) وابنه البكر كمال المولود في 27-4-1957، وأخونا محمد مولود في العام 1936، لم تكن الأسرة أو أيّ من أصدقائها يعرفون شيئا عن البرازيل، سوى أنها(أمريكا) ولم يكونوا على علم بأن هناك أمريكا شمالية وأخرى جنوبية، وأن هناك دولا في أمريكا لا دولة واحدة، أو أن أمريكا تشكل قارة تقسمها قناة بنما الى نصفين، فقط يعلمون أن أمريكا بلد ثري جدا، وأن من يهاجر اليها سيعود بملايين الدولارات في بضع سنوات، وأخونا محمد انسان طموح، ويحظى بمحبة خاصة من أبينا كونه الابن البكر، أو لأسباب أخرى لا أعرفها، سافر الى بلاد ملايين الدولارات بالباخرة من ميناء بيروت، وفي جيبه خمسون دولارا فقط لا غير، فلم يكن الوضع الاقتصادي للأسرة يسمح له بأكثر من ذلك، وحتى لو كان الوضع الاقتصادي مختلفا لما أعطاه الوالد أكثر من هذا المبلغ، لأنه مسافر الى بلد ترابها ذهب، والدولارات على قارعة الطريق لمن يريد جمعها، هكذا كانت قناعة كبار الأسرة، وأخونا محمد الذي كان يحب الفروسية، ويعتني بهندامه ونظافته كثيرا، في وقت كانت المياه فيه شحيحة، كان يهوى الترحال والسفر للخارج، وربما يعود ذلك الى محاولة هروبه من رعي الأغنام، حيث كان الوالد يمتلك قطيعا كبيرا من الغنم الحلوب، هي المصدر الرئيس لدخل الأسرة، المكونة من الأب وزوجتين، انتهى بها المطاف باثني عشر ابنا ذكرا وتسع بنات اناث، ورعي الغنم وحراثة الأرض وزراعتها لم تكن في حسابات محمد، الذي سبق وأن سلم نفسه للجيش ليلتحق بالحرس الوطني في العام 1957، عندما أعلن العاهل الأردني الملك حسين- رحمه الله- التعبئة العامة بعد العدوان الثلاثي على مصر في 29 اكتوبر 1956، لا حبا في الحياة العسكرية وانما هروب من حياة البؤس والشقاء، وعندما تم تسريحه من الحرس الوطني بعد أقل من عامين سافر الى تبوك في المملكة العربية السعودية ليعمل في أحد بيوت الأثرياء الفلسطينيين الذي كان يشغل منصبا رفيعا في شركة أرامكو، ولم يمكث في السعودية أكثر من اسبوع، لأن ربّ العمل رفضه عندما رآه شابا يافعا وسيما، فهو يريد طفلا ليكون في خدمة ربة البيت، فأعاده على ظهر شاحنة أردنية متجهة الى بيروت لتعود به بعد ذلك الى عمان، عاد محمد غاضبا يجرجر ذيول فشل لم يكن له فيه خيار، حاول السفر بعدها الى الكويت، لكنه لم يستطع، ومع ذلك بقي مصرا على السفر للعمل في الخارج، وكانت أمريكا هي الهدف المأمول في ذهن جيل الوالد، الذي كان معجبا بشخصية المرحوم عبد الحميد شومان الذي سافر الى أمريكا وعاد ليؤسس البنك العربي، والسفر الى الولايات المتحدة يحتاج الى تأشيرة دخول-فيزا- لم يكن الحصول عليها سهلا، فتم اقرار السفر الى البرازيل، يشجعهم على ذلك سفر اثنين من ابناء الحامولة قبل ذلك بأربع سنوات.
الأخ محمد في البرازيل:
عندما سافر الأخ محمد الى البرازيل -كنت في الحادية عشرة من عمري، أنا المولود في حزيران 1949-، توالت سنوات القحط لأكثر من اربع سنوات، ونفذت المياه من الآبار، وكنا نجلب المياه على ظهور الدواب- البغال والحمير- من بئر أيوب في قرية سلوان المجاورة، في قِرَبٍ من جلود الماعز....قبل سفر الأخ محمد بيوم واحد فقط سقطتُ من على ظهر البغل، وكسرت يدي اليسرى من المرفق-الكوع- علقوها بمنديل في رقبتي، بعد تعنيف قاس، لأنني خرقت التعليمات بعدم امتطاء البغل، واكتفوا بـ(فحص) جارتنا العجوز المرحومة صبحة العبد، وهي امرأة فاضلة، فأكدت أن يدي سليمة من الكسور، ومصابة برضوض بسيطة تسببت بالورم والانتفاخ، وأنها ستشفى باذن الله، بدلالة أن جارتنا العجوز كانت تتثاءب وهي تدلك يدي بيديها برفق وحنان أمومي، والتثاؤب يعني طرد العيون الحاسدة والشريرة، وبقيت يدي معلقة في رقبتي لبضعة شهور، حتى خفت آلامها واستطعت تحريكها ببطء، لكن العظم الصغير الذي يغطي عظم الساعد عند المرفق بقي بارزا حتى أيامنا هذه.
حضر الأقارب والأصدقاء لتوديع أخي محمد، كنت منزويا تحت سرير معدني، تعلوه الفرشات والبسط الصوفية، ويدي المكسورة ممدودة بجانبي، لا أستطيع تحريكها... أبكي بصمت مرغما، أبكي من الألم، وخوفا من الوالد الذي غضب غضبا شديدا، عندما رأى يدي، لم يتعاطف معي أحد، أو بالأحرى لم أسمع كلمة عطف، كل ما سمعته هو(لا ردّه الله...ولد غضيب) والنساء المودعات يملأن الغرفة، في حين يجلس المودعون الرجال على البرندة المكشوفة، ودعني محمد بأن قبلني بهدوء، بكى وبكى معه جميع الحضور وبكيت أنا ايضا....فهذا أول المسافرين الى بلاد الغربة من أبناء العائلة، والسفر الى بلاد أخرى كان غريبا ومستهجنا في البلدة بشكل عام، بضعة أشخاص فقط سافروا للدراسة في جامعات بعض الدول العربية، أمّا السفر الى بلاد أجنبية فهذا أمر غريب ومستهجن، والسفر بالطائرة كان يثير الرعب في قلوب أناس كانت الدواب هي وسيلة النقل الوحيدة التي يستعملونها، أمّا السفر في السفن فهو أمر مرعب حقا، كان كبار السن يجتمعون ويتحدثون في الموضوع، ومنهم المرحوم عمّي محمد الذي كان يملك خيالا خصبا وقدرة عجيبة على حفظ ما يسمعه، كان يحفظ السيرة الهلالية، وسيرة عنترة عن ظاهر قلب بعدما سمعهما في شبابه من حكواتي في مقهى زعترة في باب العمود في القدس القديمة، يحكيهما لنا بطريقة تمثيلية...صوته هادئ ناعم ذو ايحاء في المواقف العادية والمفرحة، ويعلو ويصخب في الانتصارات، ويحزن ويبكي في المواقف الصعبة، كان معجبا بشخصية أبي زيد الهلالي وبشخصية عنترة، تحدث عمّي عما كان يسمعه عن حيتان ضخمة جدا تعيش في البحار، وتستطيع ابتلاع السفن، لكنه طمأن الجميع بأن محمد سيصل الى البرازيل سالما معافى، ولن تستطيع الحيتان ابتلاع السفينة التي تقله، لأن السفن في البحار محمية بمناشير ضخمة مثبتة في أسفلها، وما أن ينقض الحوت الضخم عليها بقوة هائلة ليبتلعها، حتى تشقه الى نصفين، وتأتي الأسماك الأخرى لتفترسه، وينزل بعض السباحين من السفينة ليحملوا أجزاء منه طعاما للمسافرين على ظهر السفينة، فنقطة ضعف هذا الحوت العملاق هي في قوته الهائلة، ولو أنه كان يتقدم الى السفن بهدوء لاستطاع ابتلاعها من مقدمتها أو مؤخرتها، فيتغذى على ما فيها من بشر ثم يلفظها كومة من حديد في قاع البحر، لأنها اعتدت على مملكته البحرية، ولما سألته عما ستفعله المناشير في بطنه بعد أن يبتلعها قال لي:
أنت كثير غلبه يا ولد....عند ما يبلعها تصطدم بأسنانه الحادة فتتكسر مثلما تقصف عود تين يابس...تتفتت وتغرق في البحر...استمعنا الى القدرات العجيبة للحيتان ونحن نرتجف خوفا..ونحمد الله أننا نعيش على اليابسة بعيدا عن حياة البحار المرعبة، وعندما سأل أحدهم عمن سيتغلب الضبع أم الحوت اذا ما التقيا؟ أجاب العم محمد:
كيف بدهم يلتقوا يا فصيح وهذا في البرّ وهذاك في البحر؟ فضحك الجميع ...
وأضاف العمّ بأنه سمع من أحد معارفه من ابناء قرية بيت حنينا الذي سافر الى امريكا بالباخرة، أنه شاهد في عرض البحر سمكا يقفز في الهواء ثم يعود الى البحر، حجمه أكبر من حجم كبش الغنم....فسبّح الحضور بقدرة الخالق. وأضاف العم محمد بأن البحر كبير جدا، وحجمه يزيد على مساحة فلسطين كاملة.
وأخي محمد درس حتى الصف الخامس الابتدائي في كلية النهضة في حيّ البقعة الذي يشكل امتداد جبل المكبر الى الجهة الغربية، وقد وقع الحيّ تحت سيطرة اسرائيل عام 1948 عام النكبة، وهو يعرف بضع كلمات انجليزية تعلمها في المدرسة، كانت موضع فخر لأبي الذي يرى أن ابنه "معه لسان انجليزي" لكن التساؤل كان حول اللغة التي يتكلمها شعب البرازيل؟ وهل يوجد في العالم غير اللغتين العربية والانجليزية؟ فأكد لهم عمّي محمد أنه توجد لغة أخرى للسود، فقد كان السنغاليون الذين يخدمون في جيش الانتداب البريطاني يتكلمون لغة غير الانجليزية.
ما علينا سافر الأخ محمد الى البرازيل، والرسالة الأولى التي وصلت منه كانت بعد ثلاثة شهور،
وكانت مقدمتها تبدأ بـ"سلام سليم أرق من النسيم، تغدو وتروح من فؤاد مجروح، الى منية القلب وعزيز الروح والدي العزيز حفظه الله" ويختتمها بـ" وان جاز حسن سؤالكم عنا فأنا بخير والحمد لله، ولا ينقصني سوى مشاهدتكم، والتحدث اليكم، وسلامي الى كل من يسأل عني بطرفكم".
رسالته الأولى كانت أكثر من ثلاثين صفحة، شرح فيها بالتفصيل الممل منذ خروجة بسيارة تاكسي الى بيروت حتى وصوله الى البرازيل، وتحدث انه يعمل بائع حقيبة متجول، وأن البرازيل بلد ثري وخصب، لكن عملة هذه البلاد رخيصة عند تحويلها الى الدولار.
الرسالة قُرئت عشرات المرات وسط دموع الشوق والحزن على الفراق، وعمّي المرحوم موسى ألزمني بقراءتها له عشرات المرات، بحيث استطيع ان أزعم بأنني لا أزال أحفظها عن ظاهر قلب حتى أيامنا هذه-بعد خمسين عاما-، ويبدو أن عمّي موسى –رحمه الله- كان يريد معرفة الأحوال في البرازيل كي يرسل ابنه المرحوم اسماعيل اليها، وهذا ما حصل، فقد سافر اسماعيل الى البرازيل في بداية كانون الثاني-يناير 1961، تاركا خلفه ابنه محمد وابنته محمدية طفلين أكبرهما في الرابعة من عمره، وافتتح محمد واسماعيل محلي نوفوتيه بعد عامين من سفرهما.
وعندما سافر الأخ أحمد الى البرازيل في صيف 1965، عمل مع الأخ محمد الذي افتتح له محلا آخر، لم يرغب محمد واسماعيل البقاء في البرازيل، وخططا للعودة الى البلاد في صيف العام 1967، لكن حرب حزيران 1967وما تمخضت عنه من احتلال حال دون ذلك، وعاد ابن العم اسماعيل في صيف العام 1970 ضمن نطاق ما يسمى قانون جمع شمل العائلات، وبقي في البلدة الى أن توفاه الله في ربيع العام 2008، أما الأخ محمد فقد عاد في صيف العام 1972 على أمل السفر الى الولايات المتحدة، وقد تحقق له ذلك في اكتوبر 1977، أما الأخ أحمد فقد سافر من البرازيل الى هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية، بعد أن حصل له ابن العم محمد موسى شقيق اسماعيل على قبول في جامعة هيوستن، وابن العم محمد موسى اندلعت حرب حزيران 1967 وهو يعمل مدرسا في المملكة السعودية منذ العام 1961، فسافر الى أمريكا ودرس هندسة الكهرباء في جامعة هيوستن، وتزوج من أمريكية ولا يزال يعيش هناك، وهو رجل اعمال ناجح جدا.
لكم كل الشكر
د. صالح رجائي
المرّة الأولى التي دخلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية كانت في 16-7 1985، بدعوة من أخي احمد، الذي درس الصيدلة في احدى جامعات هيوستن في ولاية تكساس، سافرت على متن طائرةT.w.A. من مطار تل أبيب مباشرة الى مطار كنيدي في نيوورك، وهو مطار ضخم جدا، له عدة مدرجات، كنت قد سافرت من قبل من مطار ماركا في عمان ومطار بيروت ومطار القاهرة ومطار نيقوسيا في قبرص ومطار موسكو، لكنها تبدو مجتمعة أصغر من هذا المطار، بضع طائرات تنزل في وقت واحد، وبضع طائرات أخرى تصعد مغادرة، قبل نزولنا من الطائرة لاستبدالها بأخرى الى هيوستن لفت انتباهي طائرة صاروخية تسير في المدرج المجاور بسرعة البرق وضجيج مرعب، وفي مؤخرتها مظلة ضخمة لتخفيف سرعتها، انها طائرة الكونكورد التي أراها للمرة الأولى.
ستريب تيز:
وفي مطار تل أبيب، تم تفتيش أغراضي يدويا قطعة قطعة، وبدقة متناهية، بعد فحصها ألكترونيا ، وخضعت لأسئلة كثيرة، منها: لماذا أنت مسافر للولايات المتحدة؟ ومن رتب لك حقيبتك، وهل أنت مسؤول عمّا فيها؟ وهل تحمل أغراضا الآخرين؟ وهل تحمل أسلحة؟ ثم اقتادوني الى غرفة تفتيش شخصي خضعت فيه لعملية تعرية كاملة إلا من سروالي الداخلي، وأخذوا حذائي للتفتيش الألكتروني مرة أخرى...واصطحبني رجل أمن الى صالة المغادرين...وهذا ما يحصل دائما مع جميع العرب الذين يستقلون طائرة من هذا المطار.
سُنّي أم شيعي:
وعند ختم جوازات السفر، وفحص تأشيرة الدخول سألني رجل الأمن:Are you soony or sheeay فلم أفهم عليه ماذا يريد، فطلب مني أن أنتظر قليلا، بعد أن سألني عن لغتي الأمّ، فاتصل بالهاتف طالبا أن يرسلوا شخصا يعرف العربية، وفي لحظات حضرت فتاة حسناء هيفاء، وسألتني: هل أنت سُنيّ أم شيعي؟ ولما أجبتها بأنني سني، قالت: نتمنى لك اقامة سعيدة في الولايات المتحدة، وجاء سؤالهم على خلفية اختطاف منظمة أمل الشيعية اللبنانية طائرةT.W.A.
في مطار بيروت.
أخي أحمد ينتظرني:
وفي مطار هيوستن وجدت أخي أحمد في انتظاري، وهذه هي المرة الأولى التي نتقابل فيها منذ سفره في صيف العام 1965 الى البرازيل بعد أن انهى الثانوية العامة- التوجيهي- ليلتحق بأخينا الأكبر محمد الذي سافر الى البرازيل في 8-8-1960 تاركا زوجته(حليمة) وابنه البكر كمال المولود في 27-4-1957، وأخونا محمد مولود في العام 1936، لم تكن الأسرة أو أيّ من أصدقائها يعرفون شيئا عن البرازيل، سوى أنها(أمريكا) ولم يكونوا على علم بأن هناك أمريكا شمالية وأخرى جنوبية، وأن هناك دولا في أمريكا لا دولة واحدة، أو أن أمريكا تشكل قارة تقسمها قناة بنما الى نصفين، فقط يعلمون أن أمريكا بلد ثري جدا، وأن من يهاجر اليها سيعود بملايين الدولارات في بضع سنوات، وأخونا محمد انسان طموح، ويحظى بمحبة خاصة من أبينا كونه الابن البكر، أو لأسباب أخرى لا أعرفها، سافر الى بلاد ملايين الدولارات بالباخرة من ميناء بيروت، وفي جيبه خمسون دولارا فقط لا غير، فلم يكن الوضع الاقتصادي للأسرة يسمح له بأكثر من ذلك، وحتى لو كان الوضع الاقتصادي مختلفا لما أعطاه الوالد أكثر من هذا المبلغ، لأنه مسافر الى بلد ترابها ذهب، والدولارات على قارعة الطريق لمن يريد جمعها، هكذا كانت قناعة كبار الأسرة، وأخونا محمد الذي كان يحب الفروسية، ويعتني بهندامه ونظافته كثيرا، في وقت كانت المياه فيه شحيحة، كان يهوى الترحال والسفر للخارج، وربما يعود ذلك الى محاولة هروبه من رعي الأغنام، حيث كان الوالد يمتلك قطيعا كبيرا من الغنم الحلوب، هي المصدر الرئيس لدخل الأسرة، المكونة من الأب وزوجتين، انتهى بها المطاف باثني عشر ابنا ذكرا وتسع بنات اناث، ورعي الغنم وحراثة الأرض وزراعتها لم تكن في حسابات محمد، الذي سبق وأن سلم نفسه للجيش ليلتحق بالحرس الوطني في العام 1957، عندما أعلن العاهل الأردني الملك حسين- رحمه الله- التعبئة العامة بعد العدوان الثلاثي على مصر في 29 اكتوبر 1956، لا حبا في الحياة العسكرية وانما هروب من حياة البؤس والشقاء، وعندما تم تسريحه من الحرس الوطني بعد أقل من عامين سافر الى تبوك في المملكة العربية السعودية ليعمل في أحد بيوت الأثرياء الفلسطينيين الذي كان يشغل منصبا رفيعا في شركة أرامكو، ولم يمكث في السعودية أكثر من اسبوع، لأن ربّ العمل رفضه عندما رآه شابا يافعا وسيما، فهو يريد طفلا ليكون في خدمة ربة البيت، فأعاده على ظهر شاحنة أردنية متجهة الى بيروت لتعود به بعد ذلك الى عمان، عاد محمد غاضبا يجرجر ذيول فشل لم يكن له فيه خيار، حاول السفر بعدها الى الكويت، لكنه لم يستطع، ومع ذلك بقي مصرا على السفر للعمل في الخارج، وكانت أمريكا هي الهدف المأمول في ذهن جيل الوالد، الذي كان معجبا بشخصية المرحوم عبد الحميد شومان الذي سافر الى أمريكا وعاد ليؤسس البنك العربي، والسفر الى الولايات المتحدة يحتاج الى تأشيرة دخول-فيزا- لم يكن الحصول عليها سهلا، فتم اقرار السفر الى البرازيل، يشجعهم على ذلك سفر اثنين من ابناء الحامولة قبل ذلك بأربع سنوات.
الأخ محمد في البرازيل:
عندما سافر الأخ محمد الى البرازيل -كنت في الحادية عشرة من عمري، أنا المولود في حزيران 1949-، توالت سنوات القحط لأكثر من اربع سنوات، ونفذت المياه من الآبار، وكنا نجلب المياه على ظهور الدواب- البغال والحمير- من بئر أيوب في قرية سلوان المجاورة، في قِرَبٍ من جلود الماعز....قبل سفر الأخ محمد بيوم واحد فقط سقطتُ من على ظهر البغل، وكسرت يدي اليسرى من المرفق-الكوع- علقوها بمنديل في رقبتي، بعد تعنيف قاس، لأنني خرقت التعليمات بعدم امتطاء البغل، واكتفوا بـ(فحص) جارتنا العجوز المرحومة صبحة العبد، وهي امرأة فاضلة، فأكدت أن يدي سليمة من الكسور، ومصابة برضوض بسيطة تسببت بالورم والانتفاخ، وأنها ستشفى باذن الله، بدلالة أن جارتنا العجوز كانت تتثاءب وهي تدلك يدي بيديها برفق وحنان أمومي، والتثاؤب يعني طرد العيون الحاسدة والشريرة، وبقيت يدي معلقة في رقبتي لبضعة شهور، حتى خفت آلامها واستطعت تحريكها ببطء، لكن العظم الصغير الذي يغطي عظم الساعد عند المرفق بقي بارزا حتى أيامنا هذه.
حضر الأقارب والأصدقاء لتوديع أخي محمد، كنت منزويا تحت سرير معدني، تعلوه الفرشات والبسط الصوفية، ويدي المكسورة ممدودة بجانبي، لا أستطيع تحريكها... أبكي بصمت مرغما، أبكي من الألم، وخوفا من الوالد الذي غضب غضبا شديدا، عندما رأى يدي، لم يتعاطف معي أحد، أو بالأحرى لم أسمع كلمة عطف، كل ما سمعته هو(لا ردّه الله...ولد غضيب) والنساء المودعات يملأن الغرفة، في حين يجلس المودعون الرجال على البرندة المكشوفة، ودعني محمد بأن قبلني بهدوء، بكى وبكى معه جميع الحضور وبكيت أنا ايضا....فهذا أول المسافرين الى بلاد الغربة من أبناء العائلة، والسفر الى بلاد أخرى كان غريبا ومستهجنا في البلدة بشكل عام، بضعة أشخاص فقط سافروا للدراسة في جامعات بعض الدول العربية، أمّا السفر الى بلاد أجنبية فهذا أمر غريب ومستهجن، والسفر بالطائرة كان يثير الرعب في قلوب أناس كانت الدواب هي وسيلة النقل الوحيدة التي يستعملونها، أمّا السفر في السفن فهو أمر مرعب حقا، كان كبار السن يجتمعون ويتحدثون في الموضوع، ومنهم المرحوم عمّي محمد الذي كان يملك خيالا خصبا وقدرة عجيبة على حفظ ما يسمعه، كان يحفظ السيرة الهلالية، وسيرة عنترة عن ظاهر قلب بعدما سمعهما في شبابه من حكواتي في مقهى زعترة في باب العمود في القدس القديمة، يحكيهما لنا بطريقة تمثيلية...صوته هادئ ناعم ذو ايحاء في المواقف العادية والمفرحة، ويعلو ويصخب في الانتصارات، ويحزن ويبكي في المواقف الصعبة، كان معجبا بشخصية أبي زيد الهلالي وبشخصية عنترة، تحدث عمّي عما كان يسمعه عن حيتان ضخمة جدا تعيش في البحار، وتستطيع ابتلاع السفن، لكنه طمأن الجميع بأن محمد سيصل الى البرازيل سالما معافى، ولن تستطيع الحيتان ابتلاع السفينة التي تقله، لأن السفن في البحار محمية بمناشير ضخمة مثبتة في أسفلها، وما أن ينقض الحوت الضخم عليها بقوة هائلة ليبتلعها، حتى تشقه الى نصفين، وتأتي الأسماك الأخرى لتفترسه، وينزل بعض السباحين من السفينة ليحملوا أجزاء منه طعاما للمسافرين على ظهر السفينة، فنقطة ضعف هذا الحوت العملاق هي في قوته الهائلة، ولو أنه كان يتقدم الى السفن بهدوء لاستطاع ابتلاعها من مقدمتها أو مؤخرتها، فيتغذى على ما فيها من بشر ثم يلفظها كومة من حديد في قاع البحر، لأنها اعتدت على مملكته البحرية، ولما سألته عما ستفعله المناشير في بطنه بعد أن يبتلعها قال لي:
أنت كثير غلبه يا ولد....عند ما يبلعها تصطدم بأسنانه الحادة فتتكسر مثلما تقصف عود تين يابس...تتفتت وتغرق في البحر...استمعنا الى القدرات العجيبة للحيتان ونحن نرتجف خوفا..ونحمد الله أننا نعيش على اليابسة بعيدا عن حياة البحار المرعبة، وعندما سأل أحدهم عمن سيتغلب الضبع أم الحوت اذا ما التقيا؟ أجاب العم محمد:
كيف بدهم يلتقوا يا فصيح وهذا في البرّ وهذاك في البحر؟ فضحك الجميع ...
وأضاف العمّ بأنه سمع من أحد معارفه من ابناء قرية بيت حنينا الذي سافر الى امريكا بالباخرة، أنه شاهد في عرض البحر سمكا يقفز في الهواء ثم يعود الى البحر، حجمه أكبر من حجم كبش الغنم....فسبّح الحضور بقدرة الخالق. وأضاف العم محمد بأن البحر كبير جدا، وحجمه يزيد على مساحة فلسطين كاملة.
وأخي محمد درس حتى الصف الخامس الابتدائي في كلية النهضة في حيّ البقعة الذي يشكل امتداد جبل المكبر الى الجهة الغربية، وقد وقع الحيّ تحت سيطرة اسرائيل عام 1948 عام النكبة، وهو يعرف بضع كلمات انجليزية تعلمها في المدرسة، كانت موضع فخر لأبي الذي يرى أن ابنه "معه لسان انجليزي" لكن التساؤل كان حول اللغة التي يتكلمها شعب البرازيل؟ وهل يوجد في العالم غير اللغتين العربية والانجليزية؟ فأكد لهم عمّي محمد أنه توجد لغة أخرى للسود، فقد كان السنغاليون الذين يخدمون في جيش الانتداب البريطاني يتكلمون لغة غير الانجليزية.
ما علينا سافر الأخ محمد الى البرازيل، والرسالة الأولى التي وصلت منه كانت بعد ثلاثة شهور،
وكانت مقدمتها تبدأ بـ"سلام سليم أرق من النسيم، تغدو وتروح من فؤاد مجروح، الى منية القلب وعزيز الروح والدي العزيز حفظه الله" ويختتمها بـ" وان جاز حسن سؤالكم عنا فأنا بخير والحمد لله، ولا ينقصني سوى مشاهدتكم، والتحدث اليكم، وسلامي الى كل من يسأل عني بطرفكم".
رسالته الأولى كانت أكثر من ثلاثين صفحة، شرح فيها بالتفصيل الممل منذ خروجة بسيارة تاكسي الى بيروت حتى وصوله الى البرازيل، وتحدث انه يعمل بائع حقيبة متجول، وأن البرازيل بلد ثري وخصب، لكن عملة هذه البلاد رخيصة عند تحويلها الى الدولار.
الرسالة قُرئت عشرات المرات وسط دموع الشوق والحزن على الفراق، وعمّي المرحوم موسى ألزمني بقراءتها له عشرات المرات، بحيث استطيع ان أزعم بأنني لا أزال أحفظها عن ظاهر قلب حتى أيامنا هذه-بعد خمسين عاما-، ويبدو أن عمّي موسى –رحمه الله- كان يريد معرفة الأحوال في البرازيل كي يرسل ابنه المرحوم اسماعيل اليها، وهذا ما حصل، فقد سافر اسماعيل الى البرازيل في بداية كانون الثاني-يناير 1961، تاركا خلفه ابنه محمد وابنته محمدية طفلين أكبرهما في الرابعة من عمره، وافتتح محمد واسماعيل محلي نوفوتيه بعد عامين من سفرهما.
وعندما سافر الأخ أحمد الى البرازيل في صيف 1965، عمل مع الأخ محمد الذي افتتح له محلا آخر، لم يرغب محمد واسماعيل البقاء في البرازيل، وخططا للعودة الى البلاد في صيف العام 1967، لكن حرب حزيران 1967وما تمخضت عنه من احتلال حال دون ذلك، وعاد ابن العم اسماعيل في صيف العام 1970 ضمن نطاق ما يسمى قانون جمع شمل العائلات، وبقي في البلدة الى أن توفاه الله في ربيع العام 2008، أما الأخ محمد فقد عاد في صيف العام 1972 على أمل السفر الى الولايات المتحدة، وقد تحقق له ذلك في اكتوبر 1977، أما الأخ أحمد فقد سافر من البرازيل الى هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية، بعد أن حصل له ابن العم محمد موسى شقيق اسماعيل على قبول في جامعة هيوستن، وابن العم محمد موسى اندلعت حرب حزيران 1967 وهو يعمل مدرسا في المملكة السعودية منذ العام 1961، فسافر الى أمريكا ودرس هندسة الكهرباء في جامعة هيوستن، وتزوج من أمريكية ولا يزال يعيش هناك، وهو رجل اعمال ناجح جدا.
لكم كل الشكر
د. صالح رجائي
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني