تأملات في الحداثة الأدبية العربية
يظل مصطلح الحداثة من أكثر المصطلحات إشكالا وغموضا، بسبب سفره من تربته الأصلية وارتباطه بأمكنة ذات خصوصية سوسيوثقافية تختلف جذريا عن منبته الأصلي، وأيضا بسبب توزيعه وتغطيته لمجموعة هائلة من الحقول المعرفية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية، العسكرية والأدبية....إنه بهذا المعنى العام يهم تحول بنيات المجتمع بأكملها. أما في مجال استعماله الأدبي والنقدي فقد اتخذ أبعادا شعارية وتصنيفات جدالية في أدبنا العربي. ولعل الحداثة هي موقف وعقلية وطريقتي نظر وفهم على حد تعبير أدونيس، لكن كيف تمثلت في الأدب العربي شعرا ورواية؟
الحداثة كمفهوم عام
إن مفهوم الحداثة من أكثر المفاهيم غموضا والتباسا، نظرا لما ينطوي عليه هذا المصطلح من صعوبات معقدة تجعله مراوغا ومتقلبا) (، وصعوبة تحديده بدقة مردها إلى ارتباطه بتعريفات صنعتها ظروف معينة، غير أنها تكون عرضة للتغيير، و" يستخدم هذا المصطلح تاريخيا لتحديد مرحلة] …[آخذة في التلاشي، فيظهر ما يعارضها مثل:
ما قبل الحداثة، الحداثة القديمة، الحداثة الجديدة، ما بعد الحداثة")(. ولا شك أن الحداثة، كمفهوم عام، ولدت في الغرب وفق شروط ارتبطت بمرحلة هامة من تطور أوربا، وكانت مرحلة مليئة بالصراعات والتجاذبات، إذ كانت أوربا تغادر القرون الوسطى وتخلف الإقطاع وراءها، لتبدأ عصر النهضة وبداية المرحلة الرأسمالية. ويرى بعض النقاد أن الحداثة بمعناها العام "تعني فترة زمنية في تاريخ الثقافة الغربية، يعود تاريخها إلى عصر النهضة في إيطاليا مع الإصلاح الديني، أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية في القرن السابع عشر إلى الثورات السياسية في أواخر القرن الثامن عشر)(، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل هابرماس " يربط الحداثة بمؤسسها في الفكر الحديث، خصوصا "ماكس فيبر"، الذي ربطها بالمبادرة الرأسمالية الجهاز البيروقراطي، و"هيغل"، الذي يقرنها بمبدأ الذاتية وبمفهوم الحرية الذي يشكل عظمة الزمن الحديث ")(، ومن ثم نلاحظ تلك القطيعة مع الماضي كشعار حمله منظرو الحداثة من خلال مشروعها، المعبر عنه من قبل فلاسفة الأنوار ومن جاء بعدهم، وهو يتحدد من خلال العمل على تطوير علم موضوعي، واخلاق وحقوق ذات طبيعة كمونية. وتأسيسا على ما سبق، يمكن اعتبار الحداثة ذلك التصور الجديد للحياة، أو هي ذلك الوعي الجديد بمتغيراتها ومستجداتها، الذي يستجيب استجابة حضارية للقفز على الثوابت القديمة والأنماط التقليدية، فهي تعد تيارا جارفا يطال كل ميادين الحياة في نموها المتواصل، وبذلك يكون الحاصل أنها ليست " تقليعة أو فلتة، بل هي تاريخ حضاري )سياسي واجتماعي( وثقافي )فلسفي وإبداعي)")(. وانطلاقا من هذا كله، يجب أن نفهم الحداثة، وان نتعامل معها على أنها روح اكثر مما هي شكل، وإنها حالة أكثر مما هي صيغة، إنها ضمن أبسط المفاهيم، الاتساق مع العصر والضرورة والحاجة، وهي في حركة تطور وتقدم مستمرين، وعليه تكون الحداثة بمفهومها العام، هي ذلك النمط الحضاري الخاص، الذي يتعارض مع النمط السابق عليه.
إن الحداثة، إذا، تيار جارف يمتد إلى كل ميادين الحياة، نظرا لإيقاعها السريع، الذي جعل "التغيير سمة العصر الطاغية. فالمعرفة الإنسانية تتقدم وتتضاعف بسرعة هائلة، وهذا ما سيجعل هذه المجالات، ومنها الفن والأدب عرضة لرياح الحداثة، ويرى أدونيس إن جميع مستويات الحداثة المحسوبة على ميادين الحياة تدخل في شراكة، مبدئيا بينها في ".. حقيقة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة، وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج:تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد، فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر، أي التناقض والتصادر بين البنى السائدة في المجتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها).
الحداثة في الشعر العربي
من المعلوم أن الحداثة ارتبطت بالتحول العميق الذي هم أساليب التفكير الناتجة عن تطور المجتمع البرجوازي الغربي إبان القرن التاسع عشر، حيث سادت قيم وأبعاد كونية خدمت تطور الإنسان، ومن ثم أصبحت الحداثة أفقا للتغيير بعد أن تراكمت شروط وعوامل تنذر بإمكانات لتحول جذري.
إن ملامح الحداثة العربية في الأدب العربي حتما ستختلف عن شقيقتها الغربية منبتا وملامح واتجاهات، فعلى اعتبار أن الحداثة "أفقا للتفكير النظري وممارسة النقد" يغدو مشروع الحداثة العربية في الأدب أمرا ضروريا بالنسبة لنا – نحن العرب – من أجل إبراز خصوصيتنا وهويتنا "اللتين لا تستطيعان الإفلات من" منطلق العصر وقبضة الصيرورة"، ومنذ مطلع هذا القرن انبرت ثلة من الباحثين العرب لدراسة الحداثة في الإبداع الأدبي لدى العرب، ولعل أبرزهم أدونيس، الذي بحث عن ملامح الحداثة الأدبية في الموروث الشعري العربي، ولعل ما يمتاز به هذا الباحث في بحثه " الاركيولوجي "بصدد مشروع الحداثة العربي هو الجهد التنظيري المتصل بالبحث الحداثي، المتجلي في عدد من الدراسات المنشورة، إضافة إلى انخراطه في الكتابة الحداثية المنطلقة مع مجلة " شعر"تأسيسا، والممتدة مع مجلة " مواقف" فيما بعد.
يقدم يوسف الخال تعريفا للحداثة الأدبية قائلا هي "حركة إبداع تماشي الحياة في تغييرها الدائم ولا تكون وقفا على زمن دون آخر فحيثما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها فتتبدل نظرتنا إلى الأشياء، ]… [فالمضامين والأشكال تمشي جنبا إلى جنب، لا في الشعر وحده، بل في مختلف حقول النشاط الإنساني أيضا")(.وما يستفاد من هذا التعريف أن يوسف الخال يربط الحداثة بالإبداع أي بالخروج على ما سلف من تجارب شعرية، والحداثة الأدبية عنده لا ترتبط بزمن دون آخر، غير أن هناك جديدا ما يطرأ على نظرتنا للعالم من حولنا مما ينعكس ذلك معه في إيجاد طرائق تعبيرية غير مألوفة.
ويرى أدونيس أن الحداثة الأدبية "تجربة ورؤيا، والتي تفترض نشوء حقائق عن الأشياء والعالم، جديدة لم يعرفها القدم، ليست بحسب هذا التنظير نقدا للقديم الأصلي وحسب، وإنما هي خروج عليه، وفي موضع آخر يؤكد أن الحداثة لا تقتضي حرية الفكر فقط، وإنما تقتضي وتتضمن حرية الحسد أيضا، إنها انفجار المكبوت وتحرره)(إن ما يؤكد عليه أدونيس، هنا، هو كون الحداثة الأدبية رؤية إبداعية تعمل على زلزلة القيم والثوابت وتجاوزها إلى التفكير في" ما لم يفكر فيه حتى الآن و"كتابة" ما لم يكتب حتى الآن.
لقد تبلورت حداثة عربية في الأدب، باعتبارها خطابا يتجه نحو أفق جديد للتفكير، وكتابة لتاريخ المجتمع العربي من زاوية مغايرة لتاريخ أحداثه وإنجازاته المستوردة للنماذج الشكلية الغربية، وتجلت في جهود أعلام مثل " الطهطاوي، وعبدا لله النديم، وأحمد لطفي السيد، وخير الدين، وطه حسين، وشبلي شميل، وجبران خليل جبران، والشاعر عبد الرحمن شكري، والشابي، ونجيب محفوظ، وحنا مينه وغائب طعمة فرمان، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس ودرويش، وعبد الرحمن منيف وغالب هلسا.. والقائمة طويلة. وتكمن أهمية هؤلاء الأعلام في خطاباتهم ".. الملتصقة بالذات الفاعلة الواعية، التي تنطلق من الحاضر وأسئلته لتبحث عن مستقبل للمعنى" ولتشغيل التخييل والتغيير، ذلك أنهم يعيشون سؤال أو أسئلة الحداثة في مناخ يغيب " صوت المواطن وملاشاة ذاتيته لصالح بنيات كليانية سياسية كانت أم لاهوتية، لذا رفعت الحداثة في الأدب العربي شعارا مؤداه إبراز الذات الفاعلة وسط هذه البنيات " القامعة والمخصية للفكر والإبداع، إضافة إلى استحضار مسؤولية الغرب الذي غزانا بثمار حداثته الأولى عبر قنوات متعددة، مما حذا بمفكرينا إلى المناداة بإعادة النظر في فهمنا لهذا الآخر/الغرب، وإعادة ترتيب علاقاتنا وتعالقنا به عبر محاورة حداثته. يبقى، هناك، سؤالا مشروعا يتمثل في الكيفية التي تعامل بها الإبداع العربي في ظل التحولات الحداثة للمجتمع والفرد والعالم، وبالتالي ماهي ملامح هذه الحداثة؟ يجيبنا محمد برادة أن المثاقفة قد وضعتنا وجها لوجه أمام قيم وأساليب ورؤيات تفرض علينا المقارنة والتفاعل والانغمار في أسئلة العصر) (، وظهرت هذه التأثيرات على الإنسان العربي، حيث أبرزت الحداثة " دور الذات الفاعلة والرافضة لاستمرار الكبت وطمس الذاتية الفردية "، و أعيد الاعتبار للفرد كذات دخلت في صراع مع مؤسسات المجتمع الكليانية، وتزلزلت كنتيجة لذلك البنيات التقليدية، وكان الإبداع العربي هو المعبر الأمثل عن الفرد وذاتيته:
حيث انتقل "من خانة الأرقام إلى مجال الفعل والرفض وإسماع الصوت الداخلي"، وكما همت تأثيرات الفرد كذات، فقد تبدت تأثيراتها، أيضا، على المجتمع العربي، الذي تحول إلى حلبة للصراع والعنف، وتدنست قداسة السلطة المتمركزة فيه على القيم المتوارثة، فكان أن اعتمدت " الأنظمة على السلطوية و مصادرة الحوار والصراع الديمقراطي "، وكان صدى الأسئلة المستجدة والوضعيات الطارئة يطرح على صعيد جميع المجالات التعبيرية والفكرية، وبخاصة على مستوى الإبداع الأدبي، الذي بدأ " يعيش أسئلة الحداثة من خلال إعادة النظر في اللغة والشكل والأيديولوجيا من منظور انتقادي تجريبي، يسعى إلى الانفلات من الاختناق الذي تفرضه ضوضاء ثقافة التسطيح وغسل الدماغ") (، وتحددت بذلك وظيفة الإبداع في الدب العربي الحديث – بتعبير أورنو – في عدم ارتكازه" على تقديم بدائل، بل على المقاومة : أن يقاوم عن طريق الشكل ولا شيء غيره، مجرى العالم الذي يستمر في تهديد الناس وكأنه مسدس مصوب نحو صدورهم")(، وبما أن السلطة، ذات الصفات السالفة، تنهج أساليب وطرقا ملتوية تصل حد التعقيد في مقاومتها للنزوع الفردي الفاعل، فالمبدع أيضا يحاربها بنفس سمات مقاومتها، أي عن طريق تعقيد الشكل ولا شيء غيره.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن حداثة الإبداع العربي همت أجناسا أدبية كان في صدارتها الشعر، إضافة إلى الرواية التي قامت في طبعتها الحداثية على تحققات وتمثلات متباينة للحداثة، وهنا نذكر بعض الأعمال الروائية المتميزة في هذا الاتجاه مثل " نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، و"الزمن الآخر" لإدوارد الخراط.
تحياتي
عبير عيد
مشرفة
يظل مصطلح الحداثة من أكثر المصطلحات إشكالا وغموضا، بسبب سفره من تربته الأصلية وارتباطه بأمكنة ذات خصوصية سوسيوثقافية تختلف جذريا عن منبته الأصلي، وأيضا بسبب توزيعه وتغطيته لمجموعة هائلة من الحقول المعرفية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية، العسكرية والأدبية....إنه بهذا المعنى العام يهم تحول بنيات المجتمع بأكملها. أما في مجال استعماله الأدبي والنقدي فقد اتخذ أبعادا شعارية وتصنيفات جدالية في أدبنا العربي. ولعل الحداثة هي موقف وعقلية وطريقتي نظر وفهم على حد تعبير أدونيس، لكن كيف تمثلت في الأدب العربي شعرا ورواية؟
الحداثة كمفهوم عام
إن مفهوم الحداثة من أكثر المفاهيم غموضا والتباسا، نظرا لما ينطوي عليه هذا المصطلح من صعوبات معقدة تجعله مراوغا ومتقلبا) (، وصعوبة تحديده بدقة مردها إلى ارتباطه بتعريفات صنعتها ظروف معينة، غير أنها تكون عرضة للتغيير، و" يستخدم هذا المصطلح تاريخيا لتحديد مرحلة] …[آخذة في التلاشي، فيظهر ما يعارضها مثل:
ما قبل الحداثة، الحداثة القديمة، الحداثة الجديدة، ما بعد الحداثة")(. ولا شك أن الحداثة، كمفهوم عام، ولدت في الغرب وفق شروط ارتبطت بمرحلة هامة من تطور أوربا، وكانت مرحلة مليئة بالصراعات والتجاذبات، إذ كانت أوربا تغادر القرون الوسطى وتخلف الإقطاع وراءها، لتبدأ عصر النهضة وبداية المرحلة الرأسمالية. ويرى بعض النقاد أن الحداثة بمعناها العام "تعني فترة زمنية في تاريخ الثقافة الغربية، يعود تاريخها إلى عصر النهضة في إيطاليا مع الإصلاح الديني، أو من بداية تطور الظواهر العلمية والرياضية في القرن السابع عشر إلى الثورات السياسية في أواخر القرن الثامن عشر)(، ولعل هذا الأمر هو الذي جعل هابرماس " يربط الحداثة بمؤسسها في الفكر الحديث، خصوصا "ماكس فيبر"، الذي ربطها بالمبادرة الرأسمالية الجهاز البيروقراطي، و"هيغل"، الذي يقرنها بمبدأ الذاتية وبمفهوم الحرية الذي يشكل عظمة الزمن الحديث ")(، ومن ثم نلاحظ تلك القطيعة مع الماضي كشعار حمله منظرو الحداثة من خلال مشروعها، المعبر عنه من قبل فلاسفة الأنوار ومن جاء بعدهم، وهو يتحدد من خلال العمل على تطوير علم موضوعي، واخلاق وحقوق ذات طبيعة كمونية. وتأسيسا على ما سبق، يمكن اعتبار الحداثة ذلك التصور الجديد للحياة، أو هي ذلك الوعي الجديد بمتغيراتها ومستجداتها، الذي يستجيب استجابة حضارية للقفز على الثوابت القديمة والأنماط التقليدية، فهي تعد تيارا جارفا يطال كل ميادين الحياة في نموها المتواصل، وبذلك يكون الحاصل أنها ليست " تقليعة أو فلتة، بل هي تاريخ حضاري )سياسي واجتماعي( وثقافي )فلسفي وإبداعي)")(. وانطلاقا من هذا كله، يجب أن نفهم الحداثة، وان نتعامل معها على أنها روح اكثر مما هي شكل، وإنها حالة أكثر مما هي صيغة، إنها ضمن أبسط المفاهيم، الاتساق مع العصر والضرورة والحاجة، وهي في حركة تطور وتقدم مستمرين، وعليه تكون الحداثة بمفهومها العام، هي ذلك النمط الحضاري الخاص، الذي يتعارض مع النمط السابق عليه.
إن الحداثة، إذا، تيار جارف يمتد إلى كل ميادين الحياة، نظرا لإيقاعها السريع، الذي جعل "التغيير سمة العصر الطاغية. فالمعرفة الإنسانية تتقدم وتتضاعف بسرعة هائلة، وهذا ما سيجعل هذه المجالات، ومنها الفن والأدب عرضة لرياح الحداثة، ويرى أدونيس إن جميع مستويات الحداثة المحسوبة على ميادين الحياة تدخل في شراكة، مبدئيا بينها في ".. حقيقة أساسية هي أن الحداثة رؤيا جديدة، وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج:تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد، فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر، أي التناقض والتصادر بين البنى السائدة في المجتمع وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها).
الحداثة في الشعر العربي
من المعلوم أن الحداثة ارتبطت بالتحول العميق الذي هم أساليب التفكير الناتجة عن تطور المجتمع البرجوازي الغربي إبان القرن التاسع عشر، حيث سادت قيم وأبعاد كونية خدمت تطور الإنسان، ومن ثم أصبحت الحداثة أفقا للتغيير بعد أن تراكمت شروط وعوامل تنذر بإمكانات لتحول جذري.
إن ملامح الحداثة العربية في الأدب العربي حتما ستختلف عن شقيقتها الغربية منبتا وملامح واتجاهات، فعلى اعتبار أن الحداثة "أفقا للتفكير النظري وممارسة النقد" يغدو مشروع الحداثة العربية في الأدب أمرا ضروريا بالنسبة لنا – نحن العرب – من أجل إبراز خصوصيتنا وهويتنا "اللتين لا تستطيعان الإفلات من" منطلق العصر وقبضة الصيرورة"، ومنذ مطلع هذا القرن انبرت ثلة من الباحثين العرب لدراسة الحداثة في الإبداع الأدبي لدى العرب، ولعل أبرزهم أدونيس، الذي بحث عن ملامح الحداثة الأدبية في الموروث الشعري العربي، ولعل ما يمتاز به هذا الباحث في بحثه " الاركيولوجي "بصدد مشروع الحداثة العربي هو الجهد التنظيري المتصل بالبحث الحداثي، المتجلي في عدد من الدراسات المنشورة، إضافة إلى انخراطه في الكتابة الحداثية المنطلقة مع مجلة " شعر"تأسيسا، والممتدة مع مجلة " مواقف" فيما بعد.
يقدم يوسف الخال تعريفا للحداثة الأدبية قائلا هي "حركة إبداع تماشي الحياة في تغييرها الدائم ولا تكون وقفا على زمن دون آخر فحيثما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها فتتبدل نظرتنا إلى الأشياء، ]… [فالمضامين والأشكال تمشي جنبا إلى جنب، لا في الشعر وحده، بل في مختلف حقول النشاط الإنساني أيضا")(.وما يستفاد من هذا التعريف أن يوسف الخال يربط الحداثة بالإبداع أي بالخروج على ما سلف من تجارب شعرية، والحداثة الأدبية عنده لا ترتبط بزمن دون آخر، غير أن هناك جديدا ما يطرأ على نظرتنا للعالم من حولنا مما ينعكس ذلك معه في إيجاد طرائق تعبيرية غير مألوفة.
ويرى أدونيس أن الحداثة الأدبية "تجربة ورؤيا، والتي تفترض نشوء حقائق عن الأشياء والعالم، جديدة لم يعرفها القدم، ليست بحسب هذا التنظير نقدا للقديم الأصلي وحسب، وإنما هي خروج عليه، وفي موضع آخر يؤكد أن الحداثة لا تقتضي حرية الفكر فقط، وإنما تقتضي وتتضمن حرية الحسد أيضا، إنها انفجار المكبوت وتحرره)(إن ما يؤكد عليه أدونيس، هنا، هو كون الحداثة الأدبية رؤية إبداعية تعمل على زلزلة القيم والثوابت وتجاوزها إلى التفكير في" ما لم يفكر فيه حتى الآن و"كتابة" ما لم يكتب حتى الآن.
لقد تبلورت حداثة عربية في الأدب، باعتبارها خطابا يتجه نحو أفق جديد للتفكير، وكتابة لتاريخ المجتمع العربي من زاوية مغايرة لتاريخ أحداثه وإنجازاته المستوردة للنماذج الشكلية الغربية، وتجلت في جهود أعلام مثل " الطهطاوي، وعبدا لله النديم، وأحمد لطفي السيد، وخير الدين، وطه حسين، وشبلي شميل، وجبران خليل جبران، والشاعر عبد الرحمن شكري، والشابي، ونجيب محفوظ، وحنا مينه وغائب طعمة فرمان، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس ودرويش، وعبد الرحمن منيف وغالب هلسا.. والقائمة طويلة. وتكمن أهمية هؤلاء الأعلام في خطاباتهم ".. الملتصقة بالذات الفاعلة الواعية، التي تنطلق من الحاضر وأسئلته لتبحث عن مستقبل للمعنى" ولتشغيل التخييل والتغيير، ذلك أنهم يعيشون سؤال أو أسئلة الحداثة في مناخ يغيب " صوت المواطن وملاشاة ذاتيته لصالح بنيات كليانية سياسية كانت أم لاهوتية، لذا رفعت الحداثة في الأدب العربي شعارا مؤداه إبراز الذات الفاعلة وسط هذه البنيات " القامعة والمخصية للفكر والإبداع، إضافة إلى استحضار مسؤولية الغرب الذي غزانا بثمار حداثته الأولى عبر قنوات متعددة، مما حذا بمفكرينا إلى المناداة بإعادة النظر في فهمنا لهذا الآخر/الغرب، وإعادة ترتيب علاقاتنا وتعالقنا به عبر محاورة حداثته. يبقى، هناك، سؤالا مشروعا يتمثل في الكيفية التي تعامل بها الإبداع العربي في ظل التحولات الحداثة للمجتمع والفرد والعالم، وبالتالي ماهي ملامح هذه الحداثة؟ يجيبنا محمد برادة أن المثاقفة قد وضعتنا وجها لوجه أمام قيم وأساليب ورؤيات تفرض علينا المقارنة والتفاعل والانغمار في أسئلة العصر) (، وظهرت هذه التأثيرات على الإنسان العربي، حيث أبرزت الحداثة " دور الذات الفاعلة والرافضة لاستمرار الكبت وطمس الذاتية الفردية "، و أعيد الاعتبار للفرد كذات دخلت في صراع مع مؤسسات المجتمع الكليانية، وتزلزلت كنتيجة لذلك البنيات التقليدية، وكان الإبداع العربي هو المعبر الأمثل عن الفرد وذاتيته:
حيث انتقل "من خانة الأرقام إلى مجال الفعل والرفض وإسماع الصوت الداخلي"، وكما همت تأثيرات الفرد كذات، فقد تبدت تأثيراتها، أيضا، على المجتمع العربي، الذي تحول إلى حلبة للصراع والعنف، وتدنست قداسة السلطة المتمركزة فيه على القيم المتوارثة، فكان أن اعتمدت " الأنظمة على السلطوية و مصادرة الحوار والصراع الديمقراطي "، وكان صدى الأسئلة المستجدة والوضعيات الطارئة يطرح على صعيد جميع المجالات التعبيرية والفكرية، وبخاصة على مستوى الإبداع الأدبي، الذي بدأ " يعيش أسئلة الحداثة من خلال إعادة النظر في اللغة والشكل والأيديولوجيا من منظور انتقادي تجريبي، يسعى إلى الانفلات من الاختناق الذي تفرضه ضوضاء ثقافة التسطيح وغسل الدماغ") (، وتحددت بذلك وظيفة الإبداع في الدب العربي الحديث – بتعبير أورنو – في عدم ارتكازه" على تقديم بدائل، بل على المقاومة : أن يقاوم عن طريق الشكل ولا شيء غيره، مجرى العالم الذي يستمر في تهديد الناس وكأنه مسدس مصوب نحو صدورهم")(، وبما أن السلطة، ذات الصفات السالفة، تنهج أساليب وطرقا ملتوية تصل حد التعقيد في مقاومتها للنزوع الفردي الفاعل، فالمبدع أيضا يحاربها بنفس سمات مقاومتها، أي عن طريق تعقيد الشكل ولا شيء غيره.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن حداثة الإبداع العربي همت أجناسا أدبية كان في صدارتها الشعر، إضافة إلى الرواية التي قامت في طبعتها الحداثية على تحققات وتمثلات متباينة للحداثة، وهنا نذكر بعض الأعمال الروائية المتميزة في هذا الاتجاه مثل " نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، و"الزمن الآخر" لإدوارد الخراط.
تحياتي
عبير عيد
مشرفة
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني