هو حاتم بن عنوان ابن يوسف، ويقال حاتم بن يوسف، كنيته أبو عبد الرحمن، من أهل بلخ، صحب شقيق بن إبراهيم البلخي وأسند الحديث عنه وعن شداد بن حكيم البلخي. وكان أستاذ أحمد بن خضرويه. وروى عنه أناس مثل حمدان بن ذي النون ومحمد بن فارس البلخيان. توفي سنة 237 للهجرة.
وأما عن سبب تسميته الأصم فقد أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان أن امرأة جاءته لتسأله مسألة، فاتفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت فاحمر وجهها خجلًا، فصارت كلما سألته جعل يوهمها أنه أصَمُّ ويقول لها: ارفعي صوتك، فقالت في نفسها: لم يسمع الصوت، فسمي لذلك الأصَمَّ.
عُرف عنه الورع والزهد وحسن الخلق والمعاملة والتعفف عما في أيدي الناس والتوكل على الله، وأثنى عليه العلماء ثناءً كبيراً
فقد ترجم له الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" فقال: "منهم المؤثر للأدْوَم والأعم والآخذ بالألزم والأقوم أبو عبد الرحمٰن حاتم الأصم، توكل فسكن وأيقن فركن".
وقال فيه ابن خلكان: "كان أوحد من عُرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يُدَوَّن في الزهد والحِكَم".
وأما الذهبي فقد مدحه في سِيَره فقال: "الزاهد القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي الواعظ الناطق بالحكمة، الأصم، له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة".
قدم بغداد في أيام الإمام أحمد بن حنبل واجتمع به فنفعه وانتفع به. سأله الإمام أحمد قائلاً: أخبرني يا حاتم فيمَ أتخلص من الناس فقال: يا أبا عبد الله في ثلاث خصال، قال: ما هي قال أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًا، وتحمل مكروههم ولا تُكْرِهْ واحدًا منهم على شيء، فأطرق الإمام أحمد ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها شديد، فقال: وليتك تسلم، أعادها ثلاث مرات.
وسأله أهل بغداد مرة قائلين: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته لأي معنى قال لهم: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن له إذا أخطأ، وأُخفض نفسي كي لا تتجاهل عليه، بلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله من رجل.
وروى الحافظ أبو نُعَيم أن رجلاً سأله: على أي شيء بنيت أمرك في التوكل فقال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحٍ منه.
وقال له رجل مرة: بلغني أنك تجوز المفاوز (الصحارى والأماكن المهلكة) بغير زاد، فقال: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء، قال: ما هي قال: أرى الدنيا كلها ملكًا لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله، وأرى الأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء الله نافذًا في كل أرض لله، فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة.
وروى عنه ابن خلكان أنه قال: خرجت في سفر ومعي زاد نَفِدَ في وسط البرية فكان قلبي في السفر والحضر واحدًا، وقال: لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، فما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم.
وحدث مرة فقال: كنا في حرب مع التُرْك فرماني تركي بوهق (حبل) فقلبني عن فرسي وقعد على صدري وأخذ بلحيتي وأخرج سكينًا يريد أن يذبحني بها، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه إنما كان متفكرًا فيما ينزل به القضاء، فقلت في نفسي: اللهم إن قضيت علي أن يذبحني هذا الرجل فأنا لك وملكك، وبينما أنا أخاطب نفسي إذ رماه المسلمون بسهم فما أخطأ حلقه.
وفي "طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمـٰن السُّلَمي يروي عن حاتم الأصم أنه قال: "ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وما تسكن؟ فأقول: "آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر".
وروي عنه أنه قال مرة: المؤمن لا يغيب عن خمسة: عن الله والقضاء والرزق والموت والشيطان.
ويروى عنه قوله: العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب.
وروى في «طبقات الصوفية» أن حاتمًا الأصم قال: مَنْ أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة.
ومن كلامه قوله في تقسيم الجهاد: «الجهاد ثلاثة: جهاد في سِرّكَ مع الشيطان حتى تكسره، وجهاد في العلانية في أداء الفرائض حتى تؤديها، وجهاد مع أعداء الله في غزو الإسلام.
وقال: الواثق من رزقه مَنْ لا يفرح بالغنى ولا يهتم بالفقر، ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر، وقال أيضًا: الزم خدمة مولاك تأتِكَ الدنيا راغمة والجنة عاشقة، وقال أيضًا: تَعَهَّد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكنت فاذكر علم الله بك.
ومن أقواله: لكل شيء زينة وزينة العباد الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل وكثرة العمل.
وحكي أن حاتما الأصم كان فقيراً كثير العيال، فلما أراد الحج قال لأبنائه: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجاً، ويدعو لكم، فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئا، ونحن على ما ترى من الفاقة؟ وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، فإنه مناول الرزق، وليس برازق. فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا، انطلق حيث أحببت. فقام من وقته وساعته واحرم بالحج، وخرج مسافراً وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم، كيف أذنوا له بالحج، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك أنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم. فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيداً فانقطع عن عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد فاجتاز بيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فأخذت زوجة حاتم كوزاً وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال: لمن هذه الدار، فقال الوزير: هذه دار بحاتم الأصم، وسمعت أنه البارحة احرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئاً ، وباتوا البارحة جياعاً. فحلّ الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليلقِ منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم ثم انصرفوا. فرجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالا جزيلاً، واستردها منهم. فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدا فقالوا لها: ما هذا البكاء إنما يجب أن تفرحي، فإن الله وسع علينا. فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى احد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا ودبره بأحسن تدبير. وأما ما كان من أمر حاتم أبيهم فإنه لما خرج محرما، ولحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبا فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟ فدلّ على حاتم، فلما دخل عليه وكلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته، فأمر له بما يركب، وما يأكل، وما يشرب.
وروي أن أستاذه شقيق البلخي قال له: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. الأولى: نظرتُ إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه. فجعلت الحسنات محبوبي. والثانية نظرت في قول الله عز وجل (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فعلمت أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله.
والثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل (ما عندكم ينفَد وما عند الله باق) فكلما وقع لي شيء له قيمة ومقدار وجّهتـُه إلى الله ليبقى عنده محفوظاً. والرابعة: قيل أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فعملتُ في التقوى حتى أكون عند الله كريماً. والخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمتُ أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى، فتركت عداوة الخلق عني. والسادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً، فرجعت إلى قول الله عز وجل: (إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً). فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حِذري منه، لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركتُ عداوة غيره من الخلق. والسابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكِسرة، فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها ؛ فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده. والثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضهم متوكلين على بعض ؛ هذا على ضيعته وهذا على تجارته وهذا على صناعته وهذا على صحة بدنه، مخلوق متوكل على مخلوق، فرجعت إلى قوله تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي.
قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى، فإني نظرت في العلوم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه المسائل الثمانية.
ومما يروى عن حاتم أنه دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم: يا حاتم هل تحسن أن تصلي؟ فقال: نعم. فقال: كيف تصلي؟ قال حاتم: إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم أستوي في الموضع الذي أصلي فيه حتى يستقر كل عضو مني، وأرى الكعبة بين حاجبيّ، والمقامَ بحيال صدري، وأشهد أن الله يعلم ما في قلبي، وكأن قدميّ على الصراط والجنةَ عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت خلفي، وأظن أنها آخر الصلاة، ثم أكبر تكبيراً بإحسان، وأقرأ قراءة بتفكر، وأركع ركوعاً بالتواضع، وأسجد سجوداً بالتضرع، ثم أجلس على التمام، وأتشهد على الرجاء، وأسلّم على السنة ثم أسلمها للإخلاص، وأقوم بين الخوف والرجاء، ثم أتعاهد على الصبر. قال عاصم: يا حاتم أهكذا صلاتك؟ قال: كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة. فبكى عاصم وقال: ما صليتُ من صلاتي مثلَ هذا قط.
وروى ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس، أنه كان هناك في الري شيخاً جليلاً وهو الشيخ الطنافسي ولكنه كان مسرفاً على نفسه فى الملبس والمأكل والمشرب، فذهب إليه حاتم الأصم. يقول حاتم: رحمك الله، أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدأ ديني، ومفتاح صلاتي، وكيف أتوضأ؟! قال الطنافسي: نعم وكرامة، يا غلام، إناء فيه ماء، فأتى بإناء فيه ماء، فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: يا هذا، هكذا تتوضأ. قال حاتم: مكانك -رحمك الله- حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد. فقعد حاتم فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، حتى إذا غسل الذراعين، غسل أربعاً فقال له الطنافسي: يا هذا، أسرفت. قال له حاتم: فبماذا؟ قال: غسلت أربعاً. فقال حاتم: يا سبحان الله! إني في كفِّ من ماء أسرفت، وأنت في هذا الجمع كلَّه لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك.
وروى ابن الجوزي أيضاً أن حاتماً دخل المدينة المنورة، فاستقبله أهل المدينة. فقال حاتم: يا قوم أي مدينة هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حاتم: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلى فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطئ (أى بالطين). قال حاتم: فأين قصور الصحابة؟ قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كانت لهم بيوت لاطئة. قال حاتم: يا قوم، هذه مدينة فرعون وجنوده. فذهبوا به إلى السلطان، فقالوا: هذا الأعجمي يقول: هذه مدينة فرعون وجنوده. قال الوالي: ولمَ ذاك؟ قال حاتم: لا تعجل علىَّ، أنا رجل أعجمي غريب، دخلت المدينة، فقلت: مدينة من هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلى فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطئ. قلت: فلأصحابه بعده؟ قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كانت لهم بيوت لاطئة، لقد قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب: 21] فأنتم بمن تأسيتم، برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو بفرعون أوّل من بنى بالجص والآجر؟ فخلوا عنه وعرفوه.
وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل ؟ فقال: من عند الله; فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ما له إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له; فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض; وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر
تحياتي
واقبلوا الاحترام
وأما عن سبب تسميته الأصم فقد أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان أن امرأة جاءته لتسأله مسألة، فاتفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت فاحمر وجهها خجلًا، فصارت كلما سألته جعل يوهمها أنه أصَمُّ ويقول لها: ارفعي صوتك، فقالت في نفسها: لم يسمع الصوت، فسمي لذلك الأصَمَّ.
عُرف عنه الورع والزهد وحسن الخلق والمعاملة والتعفف عما في أيدي الناس والتوكل على الله، وأثنى عليه العلماء ثناءً كبيراً
فقد ترجم له الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" فقال: "منهم المؤثر للأدْوَم والأعم والآخذ بالألزم والأقوم أبو عبد الرحمٰن حاتم الأصم، توكل فسكن وأيقن فركن".
وقال فيه ابن خلكان: "كان أوحد من عُرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يُدَوَّن في الزهد والحِكَم".
وأما الذهبي فقد مدحه في سِيَره فقال: "الزاهد القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي الواعظ الناطق بالحكمة، الأصم، له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة".
قدم بغداد في أيام الإمام أحمد بن حنبل واجتمع به فنفعه وانتفع به. سأله الإمام أحمد قائلاً: أخبرني يا حاتم فيمَ أتخلص من الناس فقال: يا أبا عبد الله في ثلاث خصال، قال: ما هي قال أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًا، وتحمل مكروههم ولا تُكْرِهْ واحدًا منهم على شيء، فأطرق الإمام أحمد ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها شديد، فقال: وليتك تسلم، أعادها ثلاث مرات.
وسأله أهل بغداد مرة قائلين: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته لأي معنى قال لهم: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن له إذا أخطأ، وأُخفض نفسي كي لا تتجاهل عليه، بلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله من رجل.
وروى الحافظ أبو نُعَيم أن رجلاً سأله: على أي شيء بنيت أمرك في التوكل فقال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحٍ منه.
وقال له رجل مرة: بلغني أنك تجوز المفاوز (الصحارى والأماكن المهلكة) بغير زاد، فقال: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء، قال: ما هي قال: أرى الدنيا كلها ملكًا لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله، وأرى الأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء الله نافذًا في كل أرض لله، فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة.
وروى عنه ابن خلكان أنه قال: خرجت في سفر ومعي زاد نَفِدَ في وسط البرية فكان قلبي في السفر والحضر واحدًا، وقال: لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، فما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم.
وحدث مرة فقال: كنا في حرب مع التُرْك فرماني تركي بوهق (حبل) فقلبني عن فرسي وقعد على صدري وأخذ بلحيتي وأخرج سكينًا يريد أن يذبحني بها، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه إنما كان متفكرًا فيما ينزل به القضاء، فقلت في نفسي: اللهم إن قضيت علي أن يذبحني هذا الرجل فأنا لك وملكك، وبينما أنا أخاطب نفسي إذ رماه المسلمون بسهم فما أخطأ حلقه.
وفي "طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمـٰن السُّلَمي يروي عن حاتم الأصم أنه قال: "ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وما تسكن؟ فأقول: "آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر".
وروي عنه أنه قال مرة: المؤمن لا يغيب عن خمسة: عن الله والقضاء والرزق والموت والشيطان.
ويروى عنه قوله: العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب.
وروى في «طبقات الصوفية» أن حاتمًا الأصم قال: مَنْ أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضا الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة.
ومن كلامه قوله في تقسيم الجهاد: «الجهاد ثلاثة: جهاد في سِرّكَ مع الشيطان حتى تكسره، وجهاد في العلانية في أداء الفرائض حتى تؤديها، وجهاد مع أعداء الله في غزو الإسلام.
وقال: الواثق من رزقه مَنْ لا يفرح بالغنى ولا يهتم بالفقر، ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر، وقال أيضًا: الزم خدمة مولاك تأتِكَ الدنيا راغمة والجنة عاشقة، وقال أيضًا: تَعَهَّد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكنت فاذكر علم الله بك.
ومن أقواله: لكل شيء زينة وزينة العباد الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل وكثرة العمل.
وحكي أن حاتما الأصم كان فقيراً كثير العيال، فلما أراد الحج قال لأبنائه: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجاً، ويدعو لكم، فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئا، ونحن على ما ترى من الفاقة؟ وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، فإنه مناول الرزق، وليس برازق. فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا، انطلق حيث أحببت. فقام من وقته وساعته واحرم بالحج، وخرج مسافراً وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم، كيف أذنوا له بالحج، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك أنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم. فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيداً فانقطع عن عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد فاجتاز بيت الرجل الصالح حاتم الأصم فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فأخذت زوجة حاتم كوزاً وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال: لمن هذه الدار، فقال الوزير: هذه دار بحاتم الأصم، وسمعت أنه البارحة احرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئاً ، وباتوا البارحة جياعاً. فحلّ الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليلقِ منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم ثم انصرفوا. فرجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالا جزيلاً، واستردها منهم. فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدا فقالوا لها: ما هذا البكاء إنما يجب أن تفرحي، فإن الله وسع علينا. فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى احد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا ودبره بأحسن تدبير. وأما ما كان من أمر حاتم أبيهم فإنه لما خرج محرما، ولحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبا فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟ فدلّ على حاتم، فلما دخل عليه وكلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته، فأمر له بما يركب، وما يأكل، وما يشرب.
وروي أن أستاذه شقيق البلخي قال له: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم منذ ثلاث وثلاثين سنة. قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. الأولى: نظرتُ إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه. فجعلت الحسنات محبوبي. والثانية نظرت في قول الله عز وجل (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) فعلمت أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله.
والثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل (ما عندكم ينفَد وما عند الله باق) فكلما وقع لي شيء له قيمة ومقدار وجّهتـُه إلى الله ليبقى عنده محفوظاً. والرابعة: قيل أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فعملتُ في التقوى حتى أكون عند الله كريماً. والخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمتُ أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى، فتركت عداوة الخلق عني. والسادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً، فرجعت إلى قول الله عز وجل: (إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً). فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حِذري منه، لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركتُ عداوة غيره من الخلق. والسابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكِسرة، فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها ؛ فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده. والثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت بعضهم متوكلين على بعض ؛ هذا على ضيعته وهذا على تجارته وهذا على صناعته وهذا على صحة بدنه، مخلوق متوكل على مخلوق، فرجعت إلى قوله تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه) فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي.
قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى، فإني نظرت في العلوم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه المسائل الثمانية.
ومما يروى عن حاتم أنه دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم: يا حاتم هل تحسن أن تصلي؟ فقال: نعم. فقال: كيف تصلي؟ قال حاتم: إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم أستوي في الموضع الذي أصلي فيه حتى يستقر كل عضو مني، وأرى الكعبة بين حاجبيّ، والمقامَ بحيال صدري، وأشهد أن الله يعلم ما في قلبي، وكأن قدميّ على الصراط والجنةَ عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت خلفي، وأظن أنها آخر الصلاة، ثم أكبر تكبيراً بإحسان، وأقرأ قراءة بتفكر، وأركع ركوعاً بالتواضع، وأسجد سجوداً بالتضرع، ثم أجلس على التمام، وأتشهد على الرجاء، وأسلّم على السنة ثم أسلمها للإخلاص، وأقوم بين الخوف والرجاء، ثم أتعاهد على الصبر. قال عاصم: يا حاتم أهكذا صلاتك؟ قال: كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة. فبكى عاصم وقال: ما صليتُ من صلاتي مثلَ هذا قط.
وروى ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس، أنه كان هناك في الري شيخاً جليلاً وهو الشيخ الطنافسي ولكنه كان مسرفاً على نفسه فى الملبس والمأكل والمشرب، فذهب إليه حاتم الأصم. يقول حاتم: رحمك الله، أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني أول مبتدأ ديني، ومفتاح صلاتي، وكيف أتوضأ؟! قال الطنافسي: نعم وكرامة، يا غلام، إناء فيه ماء، فأتى بإناء فيه ماء، فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: يا هذا، هكذا تتوضأ. قال حاتم: مكانك -رحمك الله- حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد. فقعد حاتم فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، حتى إذا غسل الذراعين، غسل أربعاً فقال له الطنافسي: يا هذا، أسرفت. قال له حاتم: فبماذا؟ قال: غسلت أربعاً. فقال حاتم: يا سبحان الله! إني في كفِّ من ماء أسرفت، وأنت في هذا الجمع كلَّه لم تسرف؟ فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك.
وروى ابن الجوزي أيضاً أن حاتماً دخل المدينة المنورة، فاستقبله أهل المدينة. فقال حاتم: يا قوم أي مدينة هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حاتم: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلى فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطئ (أى بالطين). قال حاتم: فأين قصور الصحابة؟ قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كانت لهم بيوت لاطئة. قال حاتم: يا قوم، هذه مدينة فرعون وجنوده. فذهبوا به إلى السلطان، فقالوا: هذا الأعجمي يقول: هذه مدينة فرعون وجنوده. قال الوالي: ولمَ ذاك؟ قال حاتم: لا تعجل علىَّ، أنا رجل أعجمي غريب، دخلت المدينة، فقلت: مدينة من هذه؟ قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلى فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطئ. قلت: فلأصحابه بعده؟ قالوا: ما كان لهم قصور، إنما كانت لهم بيوت لاطئة، لقد قال تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب: 21] فأنتم بمن تأسيتم، برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو بفرعون أوّل من بنى بالجص والآجر؟ فخلوا عنه وعرفوه.
وقيل لحاتم الأصم: من أين تأكل ؟ فقال: من عند الله; فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأن ما له إلا السماء! يا هذا الأرض له والسماء له; فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض; وأنشد:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم وللضب في البيداء والحوت في البحر
تحياتي
واقبلوا الاحترام
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني