يمتلك الإنسان أربع ملكات (قدرات):
- الكلام
- الذاكرة
- العقل
- الخيال
هذه الملكات الأربع تميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحية. ولقد ولّدت عبر التاريخ ثقافات مختلفة تتعلّق بكل واحدة من هذه الملكات. وهي كثيرا ما تتواجد جميعها بدرجات مختلفة في نفس الفرد وفي نفس المجتمع.
إن الإنسانية قد مرت فعلا بمراحل مختلفة من النموّ يمكن أن نلخصها باقتضاب فيما يلي.
في البدء، كانت الكلمة منطلق الرسائل السماوية (ثقافة الكلام) ثم تبعتها الكتابة لحفظ الكلام. كان الناس يحفظون الأخبار والشعر والقرآن عن ظهر قلب (ثقافة الذاكرة). وبعدها دخلت الإنسانية في مجتمع الزراعة ثم في مجتمع الآلة الذي تبعه إنتاج صناعي مكثّف (استعمال العقل الذي ولّد ثقافة التجربة والإنتاج).
إن ثقافة الإنتاج أو الصنع هي بحاجة إلى ترويج منتوجاتها ولذلك فهي قد ابتكرت الإشهار والاتصالات للتعريف بمزايا هذه المنتوجات (ثقافة نقل الخبر أو المعلومة).
وإن تطوّر المعلوماتية كان سببا رئيسيا في تغذية جميع قطاعات الصناعة والإعلام. فمن مكننة الأشغال اليدوية انتقلنا تدريجيا إلى أتمتة النشاطات الفكرية باستعمال الحاسوب والإنسان الآلي (ثقافة الإبداع).
وبعد ثورة المعلومات والاتصالات، دخلنا في عصر التكنولوجيا الحيوية والوراثة (جينة: قطعة من "الآي دي أن" التي تُنقل بالتوارث والتي تتوافق مع خاصية معينة) ونحن الآن في بداية النانوتكنولوجيا (مستوى الذرة) التي ستعلّمنا كيفية اشتغال المخ وأعضاء الإنسان على المستوى النانوسكوبي (نانو يساوي مم على مليار).
ولقد سرّعت العولمة مفهوم ثقافة الإعلام وتوسيع شبكة الإنترنت. ومن هنا، نجد التعدد اللغوي قد بدأ يتزلّج على الموجة ويحاول أن يتموضع على الشبكة التي طغت عليها اللغة الإنكليزية. ولا يمثّل محتوى المخزونات باللغة العربية إلا نسبة 1% فيما تبلغ نسبة اعتماد الإنكليزية 69%. وسيكون القرن الحادي والعشرون قرنَ الكتابة: أنترنت، إرساليات قصيرة، نشريات إلكترونية، بريد إلكتروني... مع تقارب بين الكتابة والكلام. إنها فرصة سانحة للدول العربية للاهتمام بلغتهم وتيسير العربية المكتوبة لبناء لغة عربية موحّدة يتواصل بها الجميع وتستعمل في البيت والشارع والمصنع والمدرسة.
إن وسائل الإعلام (تلفزيون، صحف، أنترنت، نقّال...) تلعب دورا أساسيا في الصورة التي تعطيها للغة. فهي قادرة على أن تلعب سلبا أو إيجابا في إبراز هذه الصورة بحسب المعلومات التي يمكن أن تبثّها. فإذا كان النص واضحا ويحترم قواعد اللغة من إملاء ونحو وصرف فهو بالتالي يولّد لدى المتلقّي شعورا بالراحة والوثوقية والفهم وتتكوّن روابطَ جديدةً في المخ بين الخلايا العصبيّة. أما إذا كان هذا النص غير دقيق ويتضمن أخطاءَ فهو سيولّد لديه شعورا بنقص في الدقة وبالتالي فهو إنْ قَبِله على المستوى السطحي فهو سيرفضه على المستوى العميق. والروابط التي تتولّد في المخ ليست ثابتةً وهي غير مرتَّبة لأنها ليست منطقية. فالمخ لا يستبقي إلا ما يُبنى على المنطق من الروابط.
بدأ استعمال مصطلح "مجتمع المعرفة" في آخر التسعينات بقدوم مجتمع ما بعد عهد التصنيع. وبالفعل، لقد مرت الإنسانية بمراحل نمو مختلفة لا يمكننا تلخيصها بعجالة. وأخيرا، يأتي التسويق بعد مجتمع المعلومات ليخلق مفهوما جديدا: إنّه مجتمع المعرفة. لقد تطلّب هذا التطور آلاف السنين. واحتاجت بعض البلدان إلى قرون للانتقال من مختلف المراحل لبلوغ اقتصاد المعرفة الذي هو في طور الإنجاز في البلدان المتقدمة.
الوضع الراهن في الدول العربية
هل يمكن الحديث عن المعرفة في البلدان العربية التي لم تشهد جميع أطوار التنمية الكاملة خاصة في المراحل المتعاقبة للزراعة المُمَكْنَنة، والصناعة المأتْمَتَة، والبحث العلمي والبحث التطبيقيّ والتنمية داخليّة المنشأ (endogenous)؟
إن معظم البلدان العربية لم تبلغ حد الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فهي تستورد 50 مليون طن من القمح في العام.
ويوضح آخر تصنيف للجامعات العالمية في دراسة قامت بها جامعة شانغاي، النتائجَ الضعيفة للجامعات العربية في مجال البحث والتنمية والمنشورات العلمية. فلا نجد من بين الخمسمئة جامعة الأولى المصنفة إلا جامعةً عربية واحدة وهي جامعة الملك سعود التي تأتي في الرتبة 247.
والآن، لا يكاد الاهتمام في البلدان العربية يبدأ بالبحث التطبيقي حيث الإنتاج المعرفي فيها متدنّ جدا. فضلا عن ذلك، فإن الشباب فيها لا يقرؤون الكتب كثيرا ويتناقص اهتمامهم بها تدريجياً. وفيما يتراجع الإقبال على القراءة يتزايد الاهتمام بالاتصالات، ولا أدل على ذلك من النجاح الذي حققته "ستار أكاديمي"(Star Academy) وكرة القدم في البلدان العربية وإقبال الجموع عليها إقبالا جنونياً (مقابلات مصر والجزائر). فهذه الظاهرة هي من الخطورة بحيث أن وسائل الإعلام صارت تتحدث عن الأكاديميين، والجميع يعلم أن ستار أكاديمي لا صلة لها بتاتا بالحقل العلمي.
إننا ننسخ برامج ستار أكاديمي وتيلي رياليتي (Tele-Reality)ولكننا لا ننسخ البرامج التلفزية العلمية ولا ننظم مهرجانات علمية للإيقاظ. وللأسف، ليس ثمة في العالم العربي قناةٌ فضائيةٌ واحدةٌ تهتمّ بتعميم العلم ونشره وتبسيطه للعموم.
فضلا عن ذلك، تكاد تكون ترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية منعدمة. ففي الدول العربية يُترجَم كتاب واحد في العام لكل مليون نسمة في حال أن أسبانيا تترجم وحدها 820 كتابا في العام لكل مليون نسمة. ونلاحظ أن الإنتاج العلمي، الاقتصادي، التكنولوجي والثقافي ضعيف في البلدان العربية. فالعرب لا ينتجون إلا نسبة 1% من الكتب في العالم و3% من الإنتاج العالمي مع أنهم يمثلون 5% من سكان العالم. في عام 2000، تم تخصيص نسبة 0,2% فقط من الإنتاج الداخلي الخام للبحث والتنمية.
بعد عشرات السنين من الاستقلال، لا يزال في البلدان العربية حوالي 70 مليون من الأميين، 30% من الفقراء، و25,7% من العاطلين عن العمل (8% من العاطلين في أوربا).
أما تحويل المعرفة من مراكز البحث والحاضنات إلى براءات اختراع فهو يكاد يقارب الصفر 0,01%.
والحالة هذه، ما هو السبيل لبناء مجتمع المعرفة؟ هذا ما سنتناوله بالبحث في ما يلي مع بعض الاقتراحات.
مجتمع الكلام
في البدء كانت الكلمة. كان الكلام مقدَّسا واحترامه من صفات الشخصيات المرموقة. حتى أنهم كانوا يقولون هو رجل له كلمته وإن لفلان كلمةً لا رجوع فيها. لقد سمحت ثقافة الكلام بنشر الشعر، وفنّ الخطابة والفصاحة. كما أنها ساهمت في إثراء النحو ومن ثَمَّ ابتكارُ علم البيان والبديع والبلاغة.
على أن علم البلاغة قد تم الخوض فيه إلى حدٍّ لم يعد فيه تأثير للمخاطِب حتى قيل: إن ذلك من الكلام المنمّق لا طائل من ورائه، تسمع جعجعة ولا ترى طحناً. ويذهب الاعتقاد لدى البعض أن الشيءَ قد تم إنجازه بمجرّد الحديث فيه. نكثر من الكلام الذي يولّد مزيدا من الكلام حول موضوع ما (مصطلح، ترجمة، تعريب...).
ونورد مثال هارون الرشيد الذي عرفت في عهده الحضارة العربية الإسلامية أَوْجَها حيث يقول عنه القاضي الفاضل حول الكلام: "كان الرشيد يبغض الجدال والكلام".
أما عن العقل فيقول السيوطي: "كان يحب العلم وأهله ويعظّم حرمات الإسلام".
ويقول الجاحظ عن ذاكراته: "لم يكن أحد أحظى بالشعر منه". وخيالُه أبعدُ من أن نقدّره فترجمة الأصول اليونانية القديمة وقصة ألف ليلة وليلة أشهر من أن تذكر.
فهل نطمع أن نرى اسم هارون الرشيد يلوح على واجهة جامعات ومراكز بحوث علمية عربية.
ولقد زاد اختراع التلفون والراديو في انتشار ثقافة الكلام. ومنذ اختراع السينما والتلفزيون قامت الحرب سِجَالا بين ثقافة الكلام وثقافة الصورة.
والآن ها هي الصورة تسيطر على كل محتوى ذاكرة الإنسان.
مجتمع المعرفة
المعرفة في اللاتينية تعني الحكمة ودراسة أشياء الطبيعة أما عند الرومان فهي إدراك منطقي للواقع.
ولا تزال كلمة المعرفة إلى اليوم تحتفظ بهذا المعنى أي فهم الواقع، وهو ما كان يعمل على استيعابه كل من نيوتن وأنشتاين وغيرهما من العلماء. فهْم الواقع والفعل متأثران بالكلمات اللاتينية "scire" "scientia" التي تأتي من جذر هندي أوربي يعني قَطَع، قَسَّم (سنسكريتية)
فالمعرفة هي إذن مقترنة بقدرة القطع والتقسيم والقرار والحكمة.
المعرفة في اليونانية (gnosis, gignosko تأتي من جذر هندي أوروبي gen أو ken) وهو ما يعطي بالألمانية كلمة können أي المعرفة والقدرة وبالإنكليزية can, know.
وفي اليابانية يعني فعل عرف "shiru" امتلكَ المعارف وتعلَّم بالتجربة.
وتعبّر الصينية عن فعل عرف بِ "zhi dào" أي بمعنى امتلكَ المعارف وأنجزَ.
أما فعل عرف في العربية حسب ما يعرّفه المنجد فهو أدرك بحاسّة من الحواسّ أو استخرج من ذاكرته صورة شخص أو شيء رآه أو سمعه ثانية.
والمعرفة هي ما يتكوّن في الذهن من مفهوم لشيء وهي إدراك حدسي لأمر ما وتمييز بين ما هو ضارّ وما هو نافع "معرفة الخير والشرّ" وهي قوة الفهم والتمييز وهي أيضا الاطلاع والعلم بالشيء "حصل الأمر بمعرفته".
ويعرّف ابن سينا الإدراك بقوله: "إدراك الشيء هو أن تكون حقيقتُه متمثلةً عند المدرِك".
يُظهر هذا التحليل الاشتقاقي والدلالي:
في الغرب تعني المعرفة التحليل، القطع، القرار (فهو مفهوم مادي يخاطب العقل)
في آسيا تقترن المعرفة بالتجربة والإنجاز (فهو مفهوم مادي يخاطب التجربة)
أما عند العرب فالمعرفة تعني الإدراك والاطّلاع (فهي مفهوم معنوي يخاطب الذاكرة)
يؤكد منظّرو "مجتمع المعرفة" أن ثراءَ مجتمعٍ مَا هو أكثر ارتباطا بقدرة الإنتاج، والتبادل، والخلق والابتكار ونقل المعرفة من المختبرات إلى المؤسسات منه بثرواته الطبيعية. وهو ما يتطابق مع المثل الشعبي "الفائدة في الرجال وليس في المال".
إن مجتمع المعرفة لا يقتصر دوره على مجتمع الاتصالات: فالمعرفة لا يمكن أن تُعَدّ بضاعة. إذ لا يمكن نقلُها من نقطة أ إلى نقطة ب ولا من شخص س إلى شخص ع. المعرفة لا تُباع ولا تُشترى ولكنها تُكتسب بالتجربة والعمل الدؤوب.
إن تراكم معدات المعلوماتية لا يولّد بالضرورة تراكم المعرفة لأن الذكاء لا يَكْمَنُ في الآلة. الحاسوب هو فقط أداة سريعة مجهزة بذاكرة تحتاج إلى أن نُلقّنها كيفية التنفيذ. الإنسان وحده هو الذي يصمِّم ويطوِّر البرنامج لتسيير عمل الحاسوب.
ولا بدّ من التنبيه إلى أهميّة المصطلح فعدم استعمال المصطلح الدقيق يؤدي إلى كارثة. فمثلا تحتوي النصوص في مجال المعرفة والتكنولوجيا على ألفاظ معقّدة يجب التعامل معها بدقة وكفاءة لأنها هامة من ناحية التطبيق والإنتاج.
كتب الفيلسوف لايبنتز: إن معظم الخلافات العلمية ترجع إلى خلاف في معنى الألفاظ ودلالاتها لأننا لا نرجع الى المعاني المتداولة بين المرسل والمتلقي. وكلما كان المصطلح أدقّ وأضبط كان أقرب إلى المتداول عند العلماء.
لنبدأ بتعريف هذه المفاهيم الغامضة، العامة والتي كثيرا ما نستعملها في غير مواضعها أي المعلومات، المعرفة، العلم، والتكنولوجيا. نجد في أساس كل شيء الأحداث، البيانات والقياسات الإجمالية (كلها أرقام). فإذا كان للبيانات معنى فإنها تصبح معلومات (رقم تسجيل سيارة يبدو لنا لأول وهلة كأنه سلسلة من الأرقام والحروف ولكنه في الحقيقة رقم تعريف في مجموعة محددة…).
إذا كانت هذه المعلومات مخزونة في ملف أو في كتاب ويمكن إعادة استعمالها في برنامج أو في مكتبة فإنها تصبح معارفَ (تحديد سيارة بمجرد قراءة رقم تسجيلها، إدارة بطاقات السيارات…).
المعرفة هي ما نعرفه بطريقة عملية وبعد خبرة طويلة. إنها معرفة قائمة على الحيثيّات والوقائع. وحينما تكون المعارف (مجموعة الخبرات) مستعملة من جديد بهدف محدّد فإنها تصبح كفاءات خاصة بمجال معين.
إن أسس المعارف (مجموع الخبرات) المستعملة من قبل الخبراء للحصول على تقييم أو استشارة في مجال معين (طب، صيد بحري، ميكانيك…) هي خير مثال. وحينما تكون هذه المعارف قابلة للتطبيق في مجال محدد (بصريات، طب العيون، مال، ميكانيك السيارات…)، تصبح إذن معرفة مكتسبة.
إن المعرفة هي مجموعة المعارف المنظمة إلى حد ما والمكتسبة عن طربق نشاط فكري وتجريبي متواصل. إنه فهم عميق وعملي وعلم.
وهذه المعارف المتطورة عبر العصور نتيجة عوامل داخلية وخارجية تتلقّى تحسينات وفقا للاستعمال (الصيانة) ولما يمليه الواقع (تحسينات متواصلة) والمتابعة/اليقظة التكنولوجية (بهدف التجديد). تصبح هذه المعارف إذن علماً واختصاصاً (فيزياء، كيمياء، علوم الطبيعة والأرض…). التكنولوجيا هي تحويل المعارف إلى تطبيقات قائمة على مبادئ علمية وتجريبية لصنع معدات ومكنات ومواد وإيجاد طرائق صنع.
وفي عصرنا هذا، نجد وسائل الإعلام تحتكر قطاعات المعرفة. فإذا أخذنا في الاعتبار سرعة تداول المعلومات وجدنا أن كل هذا يتم على حساب المعرفة.
فمن المغرب حتى العراق، نلاحظ أن وسائل الإعلام (التلفزيون والصحف) تستعمل كلمة المعرفة خَبْطَ عَشْوَاء. ففي البلدان الصغيرة تستعمل عبارة "واحة المعرفة"، بينما تستعمل البلدان المتوسطة "قرية المعرفة" أما في البلدان الصاعدة فيفضل استعمال "عالم المعرفة". إلا أن العبارة الأكثر استعمالا في الصحف وفي مجال الإشهار هي "مجتمع المعرفة" وهو الهدف المقصود. كيف إذن نبني مجتمع المعرفة؟
من الأفضل أن تُراجع وسائل الإعلام العربية بعض المصطلحات حتى يتم الانسجام بين الشكل والمحتوى. فهو مشكل دلالي لإعطاء الكلمة المستعملة معناها الحقيقي أو كما يقال حتى يحصل "تطابق الاسم على المسمى". فمن الأفضل استعمال اقتصاد المعرفة بدلا من مجتمع المعرفة بل وأحسن من ذلك مجتمع التجربة.
إن كلمة اقتصاد هي في متناول الجميع وتوحي بالفعل وتتطلّب تطبيق التكنولوجيات الجديدة للإنتاج/التبادل والبحث/التجديد. ويقوم اقتصاد المعرفة على تحويل المعارف إلى تكنولوجيات في التطبيقات الصناعية والثقافية والبيئية.
وحاليا، نجد أن الصدع الرقمي على مستوى البنية الأساسية للاتصالات (شبكة هاتفية وطرق سيَّارة للمعلومات مثل خط حنّبعل الجديد بين تونس وأوروبا، معدات وبرامج…) ينضاف إليه صدع معرفي بين بلدان الجنوب وبلدان الشمال.
الصدع الرقمي والمعرفيّ (متعلق بالمعرفة) يفصل البلدان التي تعتمد نظما موثوقة لها نتائج جيدة في مجال التربية والبحث والتجديد بدول أخرى ترزح تحت نظم تربوية قائمة على الحفظ عن ظهر قلب والتلقين والتقليد نسب نجاحها ضعيفة وحتى أصحاب الشهادات عند نجاحهم لا يملكون التجربة المطلوبة من المهنيّين لأن معظمهم يقومون بأبحاث علمية للحصول على شهادة الدكتوراه.
لقد دخلت الدول العربية بعد الاستقلال في سراب الصناعة البحتة وأهملت الزراعة والثقافة. واليوم، لا يمكن الدخول في سراب مجتمع المعرفة والتوهم بأن مجتمع المعرفة سيغير كل شيء.
إنها فرصة لا يمكن أن ننتهزَها باستعمال تقنيات الاتصال والمعلومات الجديدة لتحقيق التنمية المستدامة والانفتاح الإنساني.
إن تقنيات الاتصال والمعلومات هي فقط وسائل لتشغيل أفضلَ لما هو مستخدم وإنتاج أوفر (مضاعفة المردود في الزراعة والصيد البحري…) وتحسين نوعية المنتجات المصنَّعة. فهي تعمل كمحرّك لتغيير طريقة العمل والإنتاج وسرعة إجراء التجارب وتطوير العقليات. ينبغي الكف عن أخذ "سيليكون فاليي" التي تمثل قطب الصناعات المتقدمة كمثال وحيد.
إننا لا نعيش في صحراء خالية من التكنولوجيا ولكننا نملك مخزون ثقافي و مهارات ورثناها عن أجدادنا: (ابن خلدون (علم اجتماع)، ابن سينا (طب)، ابن رشد (فلسفة)، ابن الهيثم (بصريات)، ابن منعم (رياضيات)، البيروني (فيزياء)، الخليل بن أحمد (ألسنية)، الخوارزمي (جبر) ولدينا مهارات حديثة: نجيب محفوظ (جائزة نوبل في الأدب 1988)، أ. زويل (جائزة نوبل في الكيمياء 1999…))، ولا بد من الأخذ في الاعتبار التكنولوجيات المحلية، وتطويرها باستعمال أدوات اليوم (تقنيات الاتصال والمعلومات الجديدة) المترجمة إلى اللغة الأم. إن صناعات اللغة هي محركات التنمية الإنسانية والثقافية.
تمثل الترجمة رافدا مهمّا للغة وتسمح بتوطين العلوم وترسيخها في البلدان العربية وتعميم الثقافة العلمية في المجتمع العربي. ويتم إنجاز عملية التجذير والتوطين هذه على أربع مراحل:
- المحافظة على المعرفة التقليدية وفهمها على المستوى العلمي، الثقافي (صناعة تقليدية، تطبيب بالحشائش…)؛
- إقامة جسر بين الحداثة والأصالة لإبراز المفهوم الشامل (تطبيب بالحشائش: عزل الجزيئات النشطة في النباتات وتحديد الجرع…)؛
- توطين العلم الحديث والمعرفة العامة وفقا للظروف الثقافية والبيئية (صنع الأدوية حسب المعايير الدولية وشروط التسويق)؛
- ترجمة العلوم والتكنولوجيات إلى العربية والتعميم العلمي وتيسيره لجميع وسائل الإعلام (تلفزيون، صحافة، إذاعة…).
لا بد من دراسة البيئة المحلية في إطار عام، والحث على البحث في قطاع الزراعة والصيد البحري وصناعات اللغة والثقافة… والتجديد بدراسة البيئة والواقع المعاش (الطاقة الشمسية، الطاقة الهوائية، تحلية مياه البحر…) باستعمال التقنيات المتقدمة. هذا الجهد المبذول في الصيانة، والتوطين والتحسين سيقودنا خطوة خطوة إلى التجديد وإلى ظهور علماء جدد لضمان التواصل والمساهمة المتواضعة في المعرفة الإنسانية.
نقل المعرفة
ينتمي مفهوم نقل المعرفة إلى مفهوم أكثر شمولا من نقل المعلومات القريبة من الاتصالات، كلمة نقل المعرفة متعددة المعاني وكثيرة التداول.
كلمة "transmission" تعني في اللاتينية مسافة، عبور، وهي واردة من الفعل "transmitto" ومعناه عبر، تجاوز.
وعبارة "mitto" تعني أرسل، أبلغ و"trans" تفيد ما وراء، خلال.
وفي الألمانية تعني كلمة "übertragung" من الفعل "tragen" نقل و"über" ما وراء.
ففي اللاتينية والفرنسية والألمانية ليس لهذه الكلمات معنى مادي. لا يتعلّق الأمر بنقل أشياء مادية وإنما بنقل معلومات. إننا ننقل رسالة، خبرا، سلطة، طاقة ولكننا لا ننقل أشياء.
نجد ثانية معنى فعل "عرف". المعرفة هي نقل المعلومات من المرسل إلى المتلقّي.
كلمة معلومات غامضة. وهناك نوعان من إرسال المعلومات:
إن نظرية شانون التي هي رياضية فيزيائية لا تتعلق بمعنى الرسالة. فهي ترتبط بقدرة خطوط الاتصالات والآلات على معالجة الإشارات الكهربائية.
مصدر مشفِّر إشارة كهربائية حلّ الشفرة المتلقِّي
وذلك في سياق مشوَّش
هذا المخطط ملائم لوصف الاتصالات بين الآلات ولكنه يصوّر الاتصال الإنساني بشكل منقوص. فبمجرد اهتمامنا بمعنى الرسالة وبفهمها علينا أن نتساءل كيف تم التعامل معها من قبل المتلقّي الإنسان الذي يحللها بعقله وبواسطة أعضائه الحسية والبيولوجية. وهذا ما يتعلّق بالسير الإدراكي الذي يحصل في البنيات المعقّدة لقشرة الدماغ. ويتعلق الإدراك بالظواهر الفيزيولوجية والبسيكولوجية لإدراك الرسالات وفهمها واستذكارها وحفظها وإدراجها في حصيلة المعارف.
إن نقل المعرفة يرتبط من جهة بالوسائل التقليدية للاتصالات من كلام وكتابة وأيضا بالتقنيات الحديثة للاتصالات من صورة وفيديو وأنترنت ومن جهة ثانية بالطرق والوسائل التي يستعملها المتلقي والمرسل البشري حتى يستذكر ويستوعب المعلومات التي تصله. وينقل الأستاذ الجامعي المعرفة أما الباحث فينتج المعرفة والمقاول يطبّقها.
إن الثلاثية المتركبة من الأستاذ الجامعي والباحث والمقاول ليست ثلاثيةً اصطناعية بالمرّة بالرغم من الاختيارات المشروعة. فهي توافق ثلاثية الذاكرة والخيال والعقل. الأستاذ الجامعي هو عضو في التعليم العالي ويجب أن يكون ويبقى باحثا. أما الباحث فيجب أن يكون أستاذا من الدرجة العالية أو مقاولا. والابتكار يمكن أن يدفع بالباحث إلى الانتقال إلى حقل الصناعة لبعث شركته وتطبيق أفكاره.
أما المقاول بامكانه تقديم خبراته وتدريسها في الجامعة و تقديم مشاريع بحث مشتركة.
هذه الحركية بين قمم الثلاثية من ذهاب وإياب هي علامة الديناميكية في النسيج الفكري والاجتماعي لتشكّل تحالفا جديدا بين الثقافة العلمية والثقافة العملية في جميع الحقول.
مجتمع التجربة
يقول الجاحظ: "لولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى".
فالتجربة إذن هي مصدر المعرفة. ويقودنا مفهوم التجربة إلى شيئين:
- مواجهة الحقيقة التي يصعب معرفتها لأنها متقلّبة ومتعددة. فيجب إذن البحث بأنفسنا عن جزء من الحقيقة وفهم أنه لا يمكن أن نفهم كل شيء ولا بد من البحث المتواصل عنها "قل وما أوتيت من العلم إلا قليلا".
- ممارسة طويلة للأشياء. فعلا لا بد من التجربة بالممارسة الطويلة ليحصل الفهم والإدراك. فإذا عشنا الأشياء، والكائنات والأوضاع يمكننا معرفة حقيقتها. وكذلك العلم يحصل بالممارسة ويفتح ذراعيه لمن يُقبل عليه من الباطن. فلا مقابل بدون بذل. « إن العلم أوله مرُّ المذاق ولكنَّ آخرَه أحلى من العسل”.
من الخطأ أن نجعل الممارسة مقابل النظرية والخبرة مقابل الفكرة. فوراء الممارسة هناك عادة فكرة فريدة. تحتاج الفكرة إلى خبرة لتفرض نفسها كنظرية، والاثنان يتكاملان معاً.
ولا تتواجد هنا الخبرة والفكرة إلا للمساهمة في تقدم المعرفة وإسداء الخدمة للإنسان.
العلم في خدمة المجتمع. والخبرة وكذلك الفكرة إذا لم يفيدا بشيء فهما عديمتا القيمة. "علم لا ينفع كدواء لا ينجع."
التجربة تولِّد التجربة وتحثّ على مزيد التعلّم والعمل والتجديد وليس العكس. إن مفهومي التجربة والتجريب يجب أن يدخلا في جميع المجالات العلمية وغير العلمية (فلسفة، لغة…) في جميع مستويات المجتمع (منظمة، اجتماع، اقتصاد، ثقافة…).
التجربة الميدانية هي أكبر مدرسة بل أفضلها لبناء مجتمع التجربة القائمة على معرفة الأشياء والتجربة العلمية. ففي الدانمارك مثلا، يحظى البناؤون بنفس المكانة التي يحظى بها المحامون في المجتمع.
ويقول المثل العربي: "اسأل مجرباً ولا تسأل حكيماً". ونحن نقول: "اسأل مجرباً أوّلا ثم اسأل حكيماً". إن تقنيات الاتصال والمعلومات تساعد على إجراء تجارب بأقل تكلفة وبسرعة فائقة وبالقيام بمحاكاة بواسطة الحاسوب. وكما تم بناء المجتمع الأمريكي على كلمة "اخترع" يمكن بناء المجتمع العربي على كلمة "جرّب" في جميع الميادين.
وتجربة "اليد في العجين، أو التشمير على الساعد والنزول إلى الواقع" هي تجربة تقوم أساسا على تعريف الطفل بقوانين الطبيعة عبر المشاهدة والتفكيك والتركيب وعلى تعليمٍ يجمع بين التعلّم والمتعة تصديقا للمقولة "علّم الأطفال وهم يلعبون". ولقد تم إجراء هذه التجربة اليابانية بنجاح في المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة وفرنسا في مجال العلوم التطبيقية. وحسب معلوماتنا، هناك تجربة مماثلة في بعض المدارس الابتدائية في الجنوب التونسي نأمل أن تعمّم.
وقادت هذه التجارب إلى بلورة مفهوم مدرسة الفعل: الفعل بهدف الفهم والتعلّم. ويمكن تلخيص أهداف هذه المدرسة في سبعة محاور:
1- إدخال أنشطة الإيقاظ العلمي
2- تنمية روح الابتكار
3- تنمية الذاكرة والتفكير
4- إعطاء أوفر الحظوظ إلى التواصل
5- تنمية فكرة الجهد الفردي ومكافأته
6- تنمية فكرة المتابعة
7- تربية حسّ المواطنة
مجتمع الخيال
يقول أنشتاين "الخيال أهمّ من المعرفة". هذه المقولة تصدم إلى حدّ ما التفكير السائد. فأنشتاين يعطيها معنى خاصا: الخلق والإبداع لهما أثر بالغ في استعمال المعرفة.
إلا أن فرويد وبياجيه قد أنقصوا من دور الخيال بربطه بالمرحلة الأولى من النموّ. أما هاريس، الباحث النفساني في هارفارد، فهو يختلف عنهما. وأمّا دومينيك تادي وابنه فرنسوا من جامعة باريس 5 فهما من المناصرين الحقيقيّين لضرورة التركيز على الإبداع وغرسه في التعليم والمدارس.
ومن أعمالهما الدراسة التي قدّماها لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعنوان "تكوين منتجين للمعرفة مبدعين ومتعاونين".
وفي الرأي العربي القديم، كان الابتكار عادة خاصّا بالمجال الأدبي. فالإبداع يكاد يكون حِكْرا للشاعر أو الفنان. هكذا نجد القصيدة دائما في المقام الأول.
في اللغة علم البديع هو أحد العلوم الثلاثة: علم المعاني، علم البيان، علم البديع.
أما في أوربا، فالمبدع هو الفنان أي الرسام، الموسيقي والممثل. فالتركيز هو قبل كل شيء على الفعل.
إن مفهوم الإبداع والابتكار هو أمريكي المنشأ فقد بُني المجتمع الأمريكي على شعار الحث على الإبداع بفعل أمر "اخترع". وظهر هذا المفهوم في الأربعينات. وكان مرتبطا بكبار المبدعين في مجال العلوم الصحيحة (ميكانبك، طيران، بترول، طاقة ذرية...).
وفي فرنسا، تم فرنسة هذا المفهوم في الخمسينات من قبل علماء النفس. وصادقت على استعماله الأكادمية الفرنسية في حدود 1971 بعد محادثات ساخنة.
هذا القصور التاريخي مع تقصير مجال الاستعمال جعلا هذا المفهوم منسيّا لدى نظام التعليم عندنا إلى هذا اليوم.
لا نجد بحوثا تقدَّم على مستوى الماستر في تقنيات الابتكار كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة باريس 5 علما أن الأمر أصبح ملحّا.
الأمر أيضا ملحّ في تكوين جيل جديد خلاّق. لا لأنّ اقتصاد المعرفة بحاجة إلى ذلك فحسب ولكن لأننا لا يمكننا أن نعيش في هذا القرن بعقليةِ الماضي ولأن التحديات التي يواجهها كوكبنا (ارتفاع مستوى مياه البحر) وبلداننا تستوجب حلولا مبتكرة.
إلا أن الابتكار هو أن نكون قادرين على أن نجد سبلا جديدة ونخرج من تصوراتنا الكلاسيكية لمواجهة التحديات الجديدة. إنه سير فكري يتطلب من الجيل الجديد أفكارا أو مفاهيمَ جديدةً أو ربطا جديداً بين أفكار ومفاهيمَ قديمةٍ ولكن يبدو أن هذا الربط لا يحصل بكيفية جيدة. لا شيء يمكن أن يقيّد الباحث. ينبغي أن تكون الطريقة حرّة في التعامل مع المعارف بمحو الفصل الكلاسيكي بين المواد التعليمية أدب وعلوم كي نفهم العالم المعقد الذي يحيط بنا. هذا العالم المعقّد يحدث تشابكات لا تصمد أمام الفصل بين المواد.
فالرياضيات على سبيل المثال ثمينة في البيولوجيا. والنظم المعلوماتية تستعمل في الألسنية إلى حدّ أنها أفضت إلى خلق اختصاص جديد وهو الترجمة الآلية واللسانيات الحاسوبية والمصطلحية.
ويساهم الإبداع حتى في تعريف الإنسانِ وبالتحديد إنسانِ اليوم. ليس لدينا الخيار إذن في إرساء الابتكار على جميع مستويات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي. ينبغي تطوير الاستقلال الفردي وروح المبادرة لإيقاظ حبّ الاطلاع وشحذ الابتكار. فلا بد من إيصال المعارف بربطها عضويا بنمو الإبداع.
هناك ثلاث صعوبات في إدراج مفهوم الابتكار في المدرسة:
- صعوبة ربط الأهداف الكلاسيكية (قراءة، كتابة، حساب) مع الأهداف الجديدة (استقلالية، مبادرة، إبداع).
- رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة التي أنشئت بالأساس لتدريس المبادئ الأساسية لكل مادة وخلق ترابطات إبداعية.
- رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة حفاظا على الطابع الإنساني علما أن الإبداع هو مطلوب اليوم للتكيف مع سوق الشغل.
تصور المرء لأشياء هو رؤية أشياء غير موجودة في ما هو موجود (في الو اقع)، إبداء رغباته، توقعاته مخاوفه. نفهم إذن أن الخيال هو محل تشكيك كما يلاحظه بسكال في "جنون البيت" و"سيد الأخطاء والزيْف". ومن ناحية أخرى يصرّح باسكل بأنه لا وجود لعالم بدون خيال.
بناء المستقبل لا يتم إلا بتصور هذا المستقبل.
لا بد من التمييز بين الحلم أي الخيال الخادع الذي لا طائل من ورائه والخيال الحكيم الضروري الذي يؤسس للمستقبل.
الحلم الخادع يحاول ابتكار واقع لا وجود له وتصديقه بلا نقاش وهو ضرب من الوهم ومن ثَمّ يقابل بالرفض.
الخيال الحكيم الضروري لا يرفض الواقع ولا يقبل الوهم. إنه امتداد لازم للواقع. إنه ملكة اكتشاف ما هو مخبّأ في الواقع وليس في الخيال. إننا لا نرى إلا ما نحن قادرون على تصوره بتصورنا أننا نعيشه. إنه افتقاد الخيال الذي يجعلنا نتِيه. عدم قدرتنا على التصور يعني عدم قدرتنا على الرؤية.
الإنسان الذي يفكّر هو إنسان عاقل. والإنسان الذي يتخيّل هو "ما وراء العاقل" كما يقول هولدرلين.
الخلاصة
وخلاصة الكلام كما يقول كنفيسيوس:
"أُصغِي وأَنْسى (وهو ما يقابل ثقافة الكلام)
أَرى وأَتذكّر (وهو ما يقابل ثقافة الذاكرة)
أَفْعل وأَفْهم (وهو ما يقابل ثقافة العقل والتجربة)
وحتى نستغل قدرات الإنسان الأربع التي ذكرناها في بداية المقال، نكمّل هذه المقولة:
أَتخيل وأَبْتكر (وهو ما يقابل ثقافة الابتكار)
صباحكم جميل
وبارك الله بكم
- الكلام
- الذاكرة
- العقل
- الخيال
هذه الملكات الأربع تميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحية. ولقد ولّدت عبر التاريخ ثقافات مختلفة تتعلّق بكل واحدة من هذه الملكات. وهي كثيرا ما تتواجد جميعها بدرجات مختلفة في نفس الفرد وفي نفس المجتمع.
إن الإنسانية قد مرت فعلا بمراحل مختلفة من النموّ يمكن أن نلخصها باقتضاب فيما يلي.
في البدء، كانت الكلمة منطلق الرسائل السماوية (ثقافة الكلام) ثم تبعتها الكتابة لحفظ الكلام. كان الناس يحفظون الأخبار والشعر والقرآن عن ظهر قلب (ثقافة الذاكرة). وبعدها دخلت الإنسانية في مجتمع الزراعة ثم في مجتمع الآلة الذي تبعه إنتاج صناعي مكثّف (استعمال العقل الذي ولّد ثقافة التجربة والإنتاج).
إن ثقافة الإنتاج أو الصنع هي بحاجة إلى ترويج منتوجاتها ولذلك فهي قد ابتكرت الإشهار والاتصالات للتعريف بمزايا هذه المنتوجات (ثقافة نقل الخبر أو المعلومة).
وإن تطوّر المعلوماتية كان سببا رئيسيا في تغذية جميع قطاعات الصناعة والإعلام. فمن مكننة الأشغال اليدوية انتقلنا تدريجيا إلى أتمتة النشاطات الفكرية باستعمال الحاسوب والإنسان الآلي (ثقافة الإبداع).
وبعد ثورة المعلومات والاتصالات، دخلنا في عصر التكنولوجيا الحيوية والوراثة (جينة: قطعة من "الآي دي أن" التي تُنقل بالتوارث والتي تتوافق مع خاصية معينة) ونحن الآن في بداية النانوتكنولوجيا (مستوى الذرة) التي ستعلّمنا كيفية اشتغال المخ وأعضاء الإنسان على المستوى النانوسكوبي (نانو يساوي مم على مليار).
ولقد سرّعت العولمة مفهوم ثقافة الإعلام وتوسيع شبكة الإنترنت. ومن هنا، نجد التعدد اللغوي قد بدأ يتزلّج على الموجة ويحاول أن يتموضع على الشبكة التي طغت عليها اللغة الإنكليزية. ولا يمثّل محتوى المخزونات باللغة العربية إلا نسبة 1% فيما تبلغ نسبة اعتماد الإنكليزية 69%. وسيكون القرن الحادي والعشرون قرنَ الكتابة: أنترنت، إرساليات قصيرة، نشريات إلكترونية، بريد إلكتروني... مع تقارب بين الكتابة والكلام. إنها فرصة سانحة للدول العربية للاهتمام بلغتهم وتيسير العربية المكتوبة لبناء لغة عربية موحّدة يتواصل بها الجميع وتستعمل في البيت والشارع والمصنع والمدرسة.
إن وسائل الإعلام (تلفزيون، صحف، أنترنت، نقّال...) تلعب دورا أساسيا في الصورة التي تعطيها للغة. فهي قادرة على أن تلعب سلبا أو إيجابا في إبراز هذه الصورة بحسب المعلومات التي يمكن أن تبثّها. فإذا كان النص واضحا ويحترم قواعد اللغة من إملاء ونحو وصرف فهو بالتالي يولّد لدى المتلقّي شعورا بالراحة والوثوقية والفهم وتتكوّن روابطَ جديدةً في المخ بين الخلايا العصبيّة. أما إذا كان هذا النص غير دقيق ويتضمن أخطاءَ فهو سيولّد لديه شعورا بنقص في الدقة وبالتالي فهو إنْ قَبِله على المستوى السطحي فهو سيرفضه على المستوى العميق. والروابط التي تتولّد في المخ ليست ثابتةً وهي غير مرتَّبة لأنها ليست منطقية. فالمخ لا يستبقي إلا ما يُبنى على المنطق من الروابط.
بدأ استعمال مصطلح "مجتمع المعرفة" في آخر التسعينات بقدوم مجتمع ما بعد عهد التصنيع. وبالفعل، لقد مرت الإنسانية بمراحل نمو مختلفة لا يمكننا تلخيصها بعجالة. وأخيرا، يأتي التسويق بعد مجتمع المعلومات ليخلق مفهوما جديدا: إنّه مجتمع المعرفة. لقد تطلّب هذا التطور آلاف السنين. واحتاجت بعض البلدان إلى قرون للانتقال من مختلف المراحل لبلوغ اقتصاد المعرفة الذي هو في طور الإنجاز في البلدان المتقدمة.
الوضع الراهن في الدول العربية
هل يمكن الحديث عن المعرفة في البلدان العربية التي لم تشهد جميع أطوار التنمية الكاملة خاصة في المراحل المتعاقبة للزراعة المُمَكْنَنة، والصناعة المأتْمَتَة، والبحث العلمي والبحث التطبيقيّ والتنمية داخليّة المنشأ (endogenous)؟
إن معظم البلدان العربية لم تبلغ حد الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فهي تستورد 50 مليون طن من القمح في العام.
ويوضح آخر تصنيف للجامعات العالمية في دراسة قامت بها جامعة شانغاي، النتائجَ الضعيفة للجامعات العربية في مجال البحث والتنمية والمنشورات العلمية. فلا نجد من بين الخمسمئة جامعة الأولى المصنفة إلا جامعةً عربية واحدة وهي جامعة الملك سعود التي تأتي في الرتبة 247.
والآن، لا يكاد الاهتمام في البلدان العربية يبدأ بالبحث التطبيقي حيث الإنتاج المعرفي فيها متدنّ جدا. فضلا عن ذلك، فإن الشباب فيها لا يقرؤون الكتب كثيرا ويتناقص اهتمامهم بها تدريجياً. وفيما يتراجع الإقبال على القراءة يتزايد الاهتمام بالاتصالات، ولا أدل على ذلك من النجاح الذي حققته "ستار أكاديمي"(Star Academy) وكرة القدم في البلدان العربية وإقبال الجموع عليها إقبالا جنونياً (مقابلات مصر والجزائر). فهذه الظاهرة هي من الخطورة بحيث أن وسائل الإعلام صارت تتحدث عن الأكاديميين، والجميع يعلم أن ستار أكاديمي لا صلة لها بتاتا بالحقل العلمي.
إننا ننسخ برامج ستار أكاديمي وتيلي رياليتي (Tele-Reality)ولكننا لا ننسخ البرامج التلفزية العلمية ولا ننظم مهرجانات علمية للإيقاظ. وللأسف، ليس ثمة في العالم العربي قناةٌ فضائيةٌ واحدةٌ تهتمّ بتعميم العلم ونشره وتبسيطه للعموم.
فضلا عن ذلك، تكاد تكون ترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية منعدمة. ففي الدول العربية يُترجَم كتاب واحد في العام لكل مليون نسمة في حال أن أسبانيا تترجم وحدها 820 كتابا في العام لكل مليون نسمة. ونلاحظ أن الإنتاج العلمي، الاقتصادي، التكنولوجي والثقافي ضعيف في البلدان العربية. فالعرب لا ينتجون إلا نسبة 1% من الكتب في العالم و3% من الإنتاج العالمي مع أنهم يمثلون 5% من سكان العالم. في عام 2000، تم تخصيص نسبة 0,2% فقط من الإنتاج الداخلي الخام للبحث والتنمية.
بعد عشرات السنين من الاستقلال، لا يزال في البلدان العربية حوالي 70 مليون من الأميين، 30% من الفقراء، و25,7% من العاطلين عن العمل (8% من العاطلين في أوربا).
أما تحويل المعرفة من مراكز البحث والحاضنات إلى براءات اختراع فهو يكاد يقارب الصفر 0,01%.
والحالة هذه، ما هو السبيل لبناء مجتمع المعرفة؟ هذا ما سنتناوله بالبحث في ما يلي مع بعض الاقتراحات.
مجتمع الكلام
في البدء كانت الكلمة. كان الكلام مقدَّسا واحترامه من صفات الشخصيات المرموقة. حتى أنهم كانوا يقولون هو رجل له كلمته وإن لفلان كلمةً لا رجوع فيها. لقد سمحت ثقافة الكلام بنشر الشعر، وفنّ الخطابة والفصاحة. كما أنها ساهمت في إثراء النحو ومن ثَمَّ ابتكارُ علم البيان والبديع والبلاغة.
على أن علم البلاغة قد تم الخوض فيه إلى حدٍّ لم يعد فيه تأثير للمخاطِب حتى قيل: إن ذلك من الكلام المنمّق لا طائل من ورائه، تسمع جعجعة ولا ترى طحناً. ويذهب الاعتقاد لدى البعض أن الشيءَ قد تم إنجازه بمجرّد الحديث فيه. نكثر من الكلام الذي يولّد مزيدا من الكلام حول موضوع ما (مصطلح، ترجمة، تعريب...).
ونورد مثال هارون الرشيد الذي عرفت في عهده الحضارة العربية الإسلامية أَوْجَها حيث يقول عنه القاضي الفاضل حول الكلام: "كان الرشيد يبغض الجدال والكلام".
أما عن العقل فيقول السيوطي: "كان يحب العلم وأهله ويعظّم حرمات الإسلام".
ويقول الجاحظ عن ذاكراته: "لم يكن أحد أحظى بالشعر منه". وخيالُه أبعدُ من أن نقدّره فترجمة الأصول اليونانية القديمة وقصة ألف ليلة وليلة أشهر من أن تذكر.
فهل نطمع أن نرى اسم هارون الرشيد يلوح على واجهة جامعات ومراكز بحوث علمية عربية.
ولقد زاد اختراع التلفون والراديو في انتشار ثقافة الكلام. ومنذ اختراع السينما والتلفزيون قامت الحرب سِجَالا بين ثقافة الكلام وثقافة الصورة.
والآن ها هي الصورة تسيطر على كل محتوى ذاكرة الإنسان.
مجتمع المعرفة
المعرفة في اللاتينية تعني الحكمة ودراسة أشياء الطبيعة أما عند الرومان فهي إدراك منطقي للواقع.
ولا تزال كلمة المعرفة إلى اليوم تحتفظ بهذا المعنى أي فهم الواقع، وهو ما كان يعمل على استيعابه كل من نيوتن وأنشتاين وغيرهما من العلماء. فهْم الواقع والفعل متأثران بالكلمات اللاتينية "scire" "scientia" التي تأتي من جذر هندي أوربي يعني قَطَع، قَسَّم (سنسكريتية)
فالمعرفة هي إذن مقترنة بقدرة القطع والتقسيم والقرار والحكمة.
المعرفة في اليونانية (gnosis, gignosko تأتي من جذر هندي أوروبي gen أو ken) وهو ما يعطي بالألمانية كلمة können أي المعرفة والقدرة وبالإنكليزية can, know.
وفي اليابانية يعني فعل عرف "shiru" امتلكَ المعارف وتعلَّم بالتجربة.
وتعبّر الصينية عن فعل عرف بِ "zhi dào" أي بمعنى امتلكَ المعارف وأنجزَ.
أما فعل عرف في العربية حسب ما يعرّفه المنجد فهو أدرك بحاسّة من الحواسّ أو استخرج من ذاكرته صورة شخص أو شيء رآه أو سمعه ثانية.
والمعرفة هي ما يتكوّن في الذهن من مفهوم لشيء وهي إدراك حدسي لأمر ما وتمييز بين ما هو ضارّ وما هو نافع "معرفة الخير والشرّ" وهي قوة الفهم والتمييز وهي أيضا الاطلاع والعلم بالشيء "حصل الأمر بمعرفته".
ويعرّف ابن سينا الإدراك بقوله: "إدراك الشيء هو أن تكون حقيقتُه متمثلةً عند المدرِك".
يُظهر هذا التحليل الاشتقاقي والدلالي:
في الغرب تعني المعرفة التحليل، القطع، القرار (فهو مفهوم مادي يخاطب العقل)
في آسيا تقترن المعرفة بالتجربة والإنجاز (فهو مفهوم مادي يخاطب التجربة)
أما عند العرب فالمعرفة تعني الإدراك والاطّلاع (فهي مفهوم معنوي يخاطب الذاكرة)
يؤكد منظّرو "مجتمع المعرفة" أن ثراءَ مجتمعٍ مَا هو أكثر ارتباطا بقدرة الإنتاج، والتبادل، والخلق والابتكار ونقل المعرفة من المختبرات إلى المؤسسات منه بثرواته الطبيعية. وهو ما يتطابق مع المثل الشعبي "الفائدة في الرجال وليس في المال".
إن مجتمع المعرفة لا يقتصر دوره على مجتمع الاتصالات: فالمعرفة لا يمكن أن تُعَدّ بضاعة. إذ لا يمكن نقلُها من نقطة أ إلى نقطة ب ولا من شخص س إلى شخص ع. المعرفة لا تُباع ولا تُشترى ولكنها تُكتسب بالتجربة والعمل الدؤوب.
إن تراكم معدات المعلوماتية لا يولّد بالضرورة تراكم المعرفة لأن الذكاء لا يَكْمَنُ في الآلة. الحاسوب هو فقط أداة سريعة مجهزة بذاكرة تحتاج إلى أن نُلقّنها كيفية التنفيذ. الإنسان وحده هو الذي يصمِّم ويطوِّر البرنامج لتسيير عمل الحاسوب.
ولا بدّ من التنبيه إلى أهميّة المصطلح فعدم استعمال المصطلح الدقيق يؤدي إلى كارثة. فمثلا تحتوي النصوص في مجال المعرفة والتكنولوجيا على ألفاظ معقّدة يجب التعامل معها بدقة وكفاءة لأنها هامة من ناحية التطبيق والإنتاج.
كتب الفيلسوف لايبنتز: إن معظم الخلافات العلمية ترجع إلى خلاف في معنى الألفاظ ودلالاتها لأننا لا نرجع الى المعاني المتداولة بين المرسل والمتلقي. وكلما كان المصطلح أدقّ وأضبط كان أقرب إلى المتداول عند العلماء.
لنبدأ بتعريف هذه المفاهيم الغامضة، العامة والتي كثيرا ما نستعملها في غير مواضعها أي المعلومات، المعرفة، العلم، والتكنولوجيا. نجد في أساس كل شيء الأحداث، البيانات والقياسات الإجمالية (كلها أرقام). فإذا كان للبيانات معنى فإنها تصبح معلومات (رقم تسجيل سيارة يبدو لنا لأول وهلة كأنه سلسلة من الأرقام والحروف ولكنه في الحقيقة رقم تعريف في مجموعة محددة…).
إذا كانت هذه المعلومات مخزونة في ملف أو في كتاب ويمكن إعادة استعمالها في برنامج أو في مكتبة فإنها تصبح معارفَ (تحديد سيارة بمجرد قراءة رقم تسجيلها، إدارة بطاقات السيارات…).
المعرفة هي ما نعرفه بطريقة عملية وبعد خبرة طويلة. إنها معرفة قائمة على الحيثيّات والوقائع. وحينما تكون المعارف (مجموعة الخبرات) مستعملة من جديد بهدف محدّد فإنها تصبح كفاءات خاصة بمجال معين.
إن أسس المعارف (مجموع الخبرات) المستعملة من قبل الخبراء للحصول على تقييم أو استشارة في مجال معين (طب، صيد بحري، ميكانيك…) هي خير مثال. وحينما تكون هذه المعارف قابلة للتطبيق في مجال محدد (بصريات، طب العيون، مال، ميكانيك السيارات…)، تصبح إذن معرفة مكتسبة.
إن المعرفة هي مجموعة المعارف المنظمة إلى حد ما والمكتسبة عن طربق نشاط فكري وتجريبي متواصل. إنه فهم عميق وعملي وعلم.
وهذه المعارف المتطورة عبر العصور نتيجة عوامل داخلية وخارجية تتلقّى تحسينات وفقا للاستعمال (الصيانة) ولما يمليه الواقع (تحسينات متواصلة) والمتابعة/اليقظة التكنولوجية (بهدف التجديد). تصبح هذه المعارف إذن علماً واختصاصاً (فيزياء، كيمياء، علوم الطبيعة والأرض…). التكنولوجيا هي تحويل المعارف إلى تطبيقات قائمة على مبادئ علمية وتجريبية لصنع معدات ومكنات ومواد وإيجاد طرائق صنع.
وفي عصرنا هذا، نجد وسائل الإعلام تحتكر قطاعات المعرفة. فإذا أخذنا في الاعتبار سرعة تداول المعلومات وجدنا أن كل هذا يتم على حساب المعرفة.
فمن المغرب حتى العراق، نلاحظ أن وسائل الإعلام (التلفزيون والصحف) تستعمل كلمة المعرفة خَبْطَ عَشْوَاء. ففي البلدان الصغيرة تستعمل عبارة "واحة المعرفة"، بينما تستعمل البلدان المتوسطة "قرية المعرفة" أما في البلدان الصاعدة فيفضل استعمال "عالم المعرفة". إلا أن العبارة الأكثر استعمالا في الصحف وفي مجال الإشهار هي "مجتمع المعرفة" وهو الهدف المقصود. كيف إذن نبني مجتمع المعرفة؟
من الأفضل أن تُراجع وسائل الإعلام العربية بعض المصطلحات حتى يتم الانسجام بين الشكل والمحتوى. فهو مشكل دلالي لإعطاء الكلمة المستعملة معناها الحقيقي أو كما يقال حتى يحصل "تطابق الاسم على المسمى". فمن الأفضل استعمال اقتصاد المعرفة بدلا من مجتمع المعرفة بل وأحسن من ذلك مجتمع التجربة.
إن كلمة اقتصاد هي في متناول الجميع وتوحي بالفعل وتتطلّب تطبيق التكنولوجيات الجديدة للإنتاج/التبادل والبحث/التجديد. ويقوم اقتصاد المعرفة على تحويل المعارف إلى تكنولوجيات في التطبيقات الصناعية والثقافية والبيئية.
وحاليا، نجد أن الصدع الرقمي على مستوى البنية الأساسية للاتصالات (شبكة هاتفية وطرق سيَّارة للمعلومات مثل خط حنّبعل الجديد بين تونس وأوروبا، معدات وبرامج…) ينضاف إليه صدع معرفي بين بلدان الجنوب وبلدان الشمال.
الصدع الرقمي والمعرفيّ (متعلق بالمعرفة) يفصل البلدان التي تعتمد نظما موثوقة لها نتائج جيدة في مجال التربية والبحث والتجديد بدول أخرى ترزح تحت نظم تربوية قائمة على الحفظ عن ظهر قلب والتلقين والتقليد نسب نجاحها ضعيفة وحتى أصحاب الشهادات عند نجاحهم لا يملكون التجربة المطلوبة من المهنيّين لأن معظمهم يقومون بأبحاث علمية للحصول على شهادة الدكتوراه.
لقد دخلت الدول العربية بعد الاستقلال في سراب الصناعة البحتة وأهملت الزراعة والثقافة. واليوم، لا يمكن الدخول في سراب مجتمع المعرفة والتوهم بأن مجتمع المعرفة سيغير كل شيء.
إنها فرصة لا يمكن أن ننتهزَها باستعمال تقنيات الاتصال والمعلومات الجديدة لتحقيق التنمية المستدامة والانفتاح الإنساني.
إن تقنيات الاتصال والمعلومات هي فقط وسائل لتشغيل أفضلَ لما هو مستخدم وإنتاج أوفر (مضاعفة المردود في الزراعة والصيد البحري…) وتحسين نوعية المنتجات المصنَّعة. فهي تعمل كمحرّك لتغيير طريقة العمل والإنتاج وسرعة إجراء التجارب وتطوير العقليات. ينبغي الكف عن أخذ "سيليكون فاليي" التي تمثل قطب الصناعات المتقدمة كمثال وحيد.
إننا لا نعيش في صحراء خالية من التكنولوجيا ولكننا نملك مخزون ثقافي و مهارات ورثناها عن أجدادنا: (ابن خلدون (علم اجتماع)، ابن سينا (طب)، ابن رشد (فلسفة)، ابن الهيثم (بصريات)، ابن منعم (رياضيات)، البيروني (فيزياء)، الخليل بن أحمد (ألسنية)، الخوارزمي (جبر) ولدينا مهارات حديثة: نجيب محفوظ (جائزة نوبل في الأدب 1988)، أ. زويل (جائزة نوبل في الكيمياء 1999…))، ولا بد من الأخذ في الاعتبار التكنولوجيات المحلية، وتطويرها باستعمال أدوات اليوم (تقنيات الاتصال والمعلومات الجديدة) المترجمة إلى اللغة الأم. إن صناعات اللغة هي محركات التنمية الإنسانية والثقافية.
تمثل الترجمة رافدا مهمّا للغة وتسمح بتوطين العلوم وترسيخها في البلدان العربية وتعميم الثقافة العلمية في المجتمع العربي. ويتم إنجاز عملية التجذير والتوطين هذه على أربع مراحل:
- المحافظة على المعرفة التقليدية وفهمها على المستوى العلمي، الثقافي (صناعة تقليدية، تطبيب بالحشائش…)؛
- إقامة جسر بين الحداثة والأصالة لإبراز المفهوم الشامل (تطبيب بالحشائش: عزل الجزيئات النشطة في النباتات وتحديد الجرع…)؛
- توطين العلم الحديث والمعرفة العامة وفقا للظروف الثقافية والبيئية (صنع الأدوية حسب المعايير الدولية وشروط التسويق)؛
- ترجمة العلوم والتكنولوجيات إلى العربية والتعميم العلمي وتيسيره لجميع وسائل الإعلام (تلفزيون، صحافة، إذاعة…).
لا بد من دراسة البيئة المحلية في إطار عام، والحث على البحث في قطاع الزراعة والصيد البحري وصناعات اللغة والثقافة… والتجديد بدراسة البيئة والواقع المعاش (الطاقة الشمسية، الطاقة الهوائية، تحلية مياه البحر…) باستعمال التقنيات المتقدمة. هذا الجهد المبذول في الصيانة، والتوطين والتحسين سيقودنا خطوة خطوة إلى التجديد وإلى ظهور علماء جدد لضمان التواصل والمساهمة المتواضعة في المعرفة الإنسانية.
نقل المعرفة
ينتمي مفهوم نقل المعرفة إلى مفهوم أكثر شمولا من نقل المعلومات القريبة من الاتصالات، كلمة نقل المعرفة متعددة المعاني وكثيرة التداول.
كلمة "transmission" تعني في اللاتينية مسافة، عبور، وهي واردة من الفعل "transmitto" ومعناه عبر، تجاوز.
وعبارة "mitto" تعني أرسل، أبلغ و"trans" تفيد ما وراء، خلال.
وفي الألمانية تعني كلمة "übertragung" من الفعل "tragen" نقل و"über" ما وراء.
ففي اللاتينية والفرنسية والألمانية ليس لهذه الكلمات معنى مادي. لا يتعلّق الأمر بنقل أشياء مادية وإنما بنقل معلومات. إننا ننقل رسالة، خبرا، سلطة، طاقة ولكننا لا ننقل أشياء.
نجد ثانية معنى فعل "عرف". المعرفة هي نقل المعلومات من المرسل إلى المتلقّي.
كلمة معلومات غامضة. وهناك نوعان من إرسال المعلومات:
إن نظرية شانون التي هي رياضية فيزيائية لا تتعلق بمعنى الرسالة. فهي ترتبط بقدرة خطوط الاتصالات والآلات على معالجة الإشارات الكهربائية.
مصدر مشفِّر إشارة كهربائية حلّ الشفرة المتلقِّي
وذلك في سياق مشوَّش
هذا المخطط ملائم لوصف الاتصالات بين الآلات ولكنه يصوّر الاتصال الإنساني بشكل منقوص. فبمجرد اهتمامنا بمعنى الرسالة وبفهمها علينا أن نتساءل كيف تم التعامل معها من قبل المتلقّي الإنسان الذي يحللها بعقله وبواسطة أعضائه الحسية والبيولوجية. وهذا ما يتعلّق بالسير الإدراكي الذي يحصل في البنيات المعقّدة لقشرة الدماغ. ويتعلق الإدراك بالظواهر الفيزيولوجية والبسيكولوجية لإدراك الرسالات وفهمها واستذكارها وحفظها وإدراجها في حصيلة المعارف.
إن نقل المعرفة يرتبط من جهة بالوسائل التقليدية للاتصالات من كلام وكتابة وأيضا بالتقنيات الحديثة للاتصالات من صورة وفيديو وأنترنت ومن جهة ثانية بالطرق والوسائل التي يستعملها المتلقي والمرسل البشري حتى يستذكر ويستوعب المعلومات التي تصله. وينقل الأستاذ الجامعي المعرفة أما الباحث فينتج المعرفة والمقاول يطبّقها.
إن الثلاثية المتركبة من الأستاذ الجامعي والباحث والمقاول ليست ثلاثيةً اصطناعية بالمرّة بالرغم من الاختيارات المشروعة. فهي توافق ثلاثية الذاكرة والخيال والعقل. الأستاذ الجامعي هو عضو في التعليم العالي ويجب أن يكون ويبقى باحثا. أما الباحث فيجب أن يكون أستاذا من الدرجة العالية أو مقاولا. والابتكار يمكن أن يدفع بالباحث إلى الانتقال إلى حقل الصناعة لبعث شركته وتطبيق أفكاره.
أما المقاول بامكانه تقديم خبراته وتدريسها في الجامعة و تقديم مشاريع بحث مشتركة.
هذه الحركية بين قمم الثلاثية من ذهاب وإياب هي علامة الديناميكية في النسيج الفكري والاجتماعي لتشكّل تحالفا جديدا بين الثقافة العلمية والثقافة العملية في جميع الحقول.
مجتمع التجربة
يقول الجاحظ: "لولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى".
فالتجربة إذن هي مصدر المعرفة. ويقودنا مفهوم التجربة إلى شيئين:
- مواجهة الحقيقة التي يصعب معرفتها لأنها متقلّبة ومتعددة. فيجب إذن البحث بأنفسنا عن جزء من الحقيقة وفهم أنه لا يمكن أن نفهم كل شيء ولا بد من البحث المتواصل عنها "قل وما أوتيت من العلم إلا قليلا".
- ممارسة طويلة للأشياء. فعلا لا بد من التجربة بالممارسة الطويلة ليحصل الفهم والإدراك. فإذا عشنا الأشياء، والكائنات والأوضاع يمكننا معرفة حقيقتها. وكذلك العلم يحصل بالممارسة ويفتح ذراعيه لمن يُقبل عليه من الباطن. فلا مقابل بدون بذل. « إن العلم أوله مرُّ المذاق ولكنَّ آخرَه أحلى من العسل”.
من الخطأ أن نجعل الممارسة مقابل النظرية والخبرة مقابل الفكرة. فوراء الممارسة هناك عادة فكرة فريدة. تحتاج الفكرة إلى خبرة لتفرض نفسها كنظرية، والاثنان يتكاملان معاً.
ولا تتواجد هنا الخبرة والفكرة إلا للمساهمة في تقدم المعرفة وإسداء الخدمة للإنسان.
العلم في خدمة المجتمع. والخبرة وكذلك الفكرة إذا لم يفيدا بشيء فهما عديمتا القيمة. "علم لا ينفع كدواء لا ينجع."
التجربة تولِّد التجربة وتحثّ على مزيد التعلّم والعمل والتجديد وليس العكس. إن مفهومي التجربة والتجريب يجب أن يدخلا في جميع المجالات العلمية وغير العلمية (فلسفة، لغة…) في جميع مستويات المجتمع (منظمة، اجتماع، اقتصاد، ثقافة…).
التجربة الميدانية هي أكبر مدرسة بل أفضلها لبناء مجتمع التجربة القائمة على معرفة الأشياء والتجربة العلمية. ففي الدانمارك مثلا، يحظى البناؤون بنفس المكانة التي يحظى بها المحامون في المجتمع.
ويقول المثل العربي: "اسأل مجرباً ولا تسأل حكيماً". ونحن نقول: "اسأل مجرباً أوّلا ثم اسأل حكيماً". إن تقنيات الاتصال والمعلومات تساعد على إجراء تجارب بأقل تكلفة وبسرعة فائقة وبالقيام بمحاكاة بواسطة الحاسوب. وكما تم بناء المجتمع الأمريكي على كلمة "اخترع" يمكن بناء المجتمع العربي على كلمة "جرّب" في جميع الميادين.
وتجربة "اليد في العجين، أو التشمير على الساعد والنزول إلى الواقع" هي تجربة تقوم أساسا على تعريف الطفل بقوانين الطبيعة عبر المشاهدة والتفكيك والتركيب وعلى تعليمٍ يجمع بين التعلّم والمتعة تصديقا للمقولة "علّم الأطفال وهم يلعبون". ولقد تم إجراء هذه التجربة اليابانية بنجاح في المدارس الابتدائية في الولايات المتحدة وفرنسا في مجال العلوم التطبيقية. وحسب معلوماتنا، هناك تجربة مماثلة في بعض المدارس الابتدائية في الجنوب التونسي نأمل أن تعمّم.
وقادت هذه التجارب إلى بلورة مفهوم مدرسة الفعل: الفعل بهدف الفهم والتعلّم. ويمكن تلخيص أهداف هذه المدرسة في سبعة محاور:
1- إدخال أنشطة الإيقاظ العلمي
2- تنمية روح الابتكار
3- تنمية الذاكرة والتفكير
4- إعطاء أوفر الحظوظ إلى التواصل
5- تنمية فكرة الجهد الفردي ومكافأته
6- تنمية فكرة المتابعة
7- تربية حسّ المواطنة
مجتمع الخيال
يقول أنشتاين "الخيال أهمّ من المعرفة". هذه المقولة تصدم إلى حدّ ما التفكير السائد. فأنشتاين يعطيها معنى خاصا: الخلق والإبداع لهما أثر بالغ في استعمال المعرفة.
إلا أن فرويد وبياجيه قد أنقصوا من دور الخيال بربطه بالمرحلة الأولى من النموّ. أما هاريس، الباحث النفساني في هارفارد، فهو يختلف عنهما. وأمّا دومينيك تادي وابنه فرنسوا من جامعة باريس 5 فهما من المناصرين الحقيقيّين لضرورة التركيز على الإبداع وغرسه في التعليم والمدارس.
ومن أعمالهما الدراسة التي قدّماها لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعنوان "تكوين منتجين للمعرفة مبدعين ومتعاونين".
وفي الرأي العربي القديم، كان الابتكار عادة خاصّا بالمجال الأدبي. فالإبداع يكاد يكون حِكْرا للشاعر أو الفنان. هكذا نجد القصيدة دائما في المقام الأول.
في اللغة علم البديع هو أحد العلوم الثلاثة: علم المعاني، علم البيان، علم البديع.
أما في أوربا، فالمبدع هو الفنان أي الرسام، الموسيقي والممثل. فالتركيز هو قبل كل شيء على الفعل.
إن مفهوم الإبداع والابتكار هو أمريكي المنشأ فقد بُني المجتمع الأمريكي على شعار الحث على الإبداع بفعل أمر "اخترع". وظهر هذا المفهوم في الأربعينات. وكان مرتبطا بكبار المبدعين في مجال العلوم الصحيحة (ميكانبك، طيران، بترول، طاقة ذرية...).
وفي فرنسا، تم فرنسة هذا المفهوم في الخمسينات من قبل علماء النفس. وصادقت على استعماله الأكادمية الفرنسية في حدود 1971 بعد محادثات ساخنة.
هذا القصور التاريخي مع تقصير مجال الاستعمال جعلا هذا المفهوم منسيّا لدى نظام التعليم عندنا إلى هذا اليوم.
لا نجد بحوثا تقدَّم على مستوى الماستر في تقنيات الابتكار كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وجامعة باريس 5 علما أن الأمر أصبح ملحّا.
الأمر أيضا ملحّ في تكوين جيل جديد خلاّق. لا لأنّ اقتصاد المعرفة بحاجة إلى ذلك فحسب ولكن لأننا لا يمكننا أن نعيش في هذا القرن بعقليةِ الماضي ولأن التحديات التي يواجهها كوكبنا (ارتفاع مستوى مياه البحر) وبلداننا تستوجب حلولا مبتكرة.
إلا أن الابتكار هو أن نكون قادرين على أن نجد سبلا جديدة ونخرج من تصوراتنا الكلاسيكية لمواجهة التحديات الجديدة. إنه سير فكري يتطلب من الجيل الجديد أفكارا أو مفاهيمَ جديدةً أو ربطا جديداً بين أفكار ومفاهيمَ قديمةٍ ولكن يبدو أن هذا الربط لا يحصل بكيفية جيدة. لا شيء يمكن أن يقيّد الباحث. ينبغي أن تكون الطريقة حرّة في التعامل مع المعارف بمحو الفصل الكلاسيكي بين المواد التعليمية أدب وعلوم كي نفهم العالم المعقد الذي يحيط بنا. هذا العالم المعقّد يحدث تشابكات لا تصمد أمام الفصل بين المواد.
فالرياضيات على سبيل المثال ثمينة في البيولوجيا. والنظم المعلوماتية تستعمل في الألسنية إلى حدّ أنها أفضت إلى خلق اختصاص جديد وهو الترجمة الآلية واللسانيات الحاسوبية والمصطلحية.
ويساهم الإبداع حتى في تعريف الإنسانِ وبالتحديد إنسانِ اليوم. ليس لدينا الخيار إذن في إرساء الابتكار على جميع مستويات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي. ينبغي تطوير الاستقلال الفردي وروح المبادرة لإيقاظ حبّ الاطلاع وشحذ الابتكار. فلا بد من إيصال المعارف بربطها عضويا بنمو الإبداع.
هناك ثلاث صعوبات في إدراج مفهوم الابتكار في المدرسة:
- صعوبة ربط الأهداف الكلاسيكية (قراءة، كتابة، حساب) مع الأهداف الجديدة (استقلالية، مبادرة، إبداع).
- رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة التي أنشئت بالأساس لتدريس المبادئ الأساسية لكل مادة وخلق ترابطات إبداعية.
- رفض إدخال الإبداع إلى المدرسة حفاظا على الطابع الإنساني علما أن الإبداع هو مطلوب اليوم للتكيف مع سوق الشغل.
تصور المرء لأشياء هو رؤية أشياء غير موجودة في ما هو موجود (في الو اقع)، إبداء رغباته، توقعاته مخاوفه. نفهم إذن أن الخيال هو محل تشكيك كما يلاحظه بسكال في "جنون البيت" و"سيد الأخطاء والزيْف". ومن ناحية أخرى يصرّح باسكل بأنه لا وجود لعالم بدون خيال.
بناء المستقبل لا يتم إلا بتصور هذا المستقبل.
لا بد من التمييز بين الحلم أي الخيال الخادع الذي لا طائل من ورائه والخيال الحكيم الضروري الذي يؤسس للمستقبل.
الحلم الخادع يحاول ابتكار واقع لا وجود له وتصديقه بلا نقاش وهو ضرب من الوهم ومن ثَمّ يقابل بالرفض.
الخيال الحكيم الضروري لا يرفض الواقع ولا يقبل الوهم. إنه امتداد لازم للواقع. إنه ملكة اكتشاف ما هو مخبّأ في الواقع وليس في الخيال. إننا لا نرى إلا ما نحن قادرون على تصوره بتصورنا أننا نعيشه. إنه افتقاد الخيال الذي يجعلنا نتِيه. عدم قدرتنا على التصور يعني عدم قدرتنا على الرؤية.
الإنسان الذي يفكّر هو إنسان عاقل. والإنسان الذي يتخيّل هو "ما وراء العاقل" كما يقول هولدرلين.
الخلاصة
وخلاصة الكلام كما يقول كنفيسيوس:
"أُصغِي وأَنْسى (وهو ما يقابل ثقافة الكلام)
أَرى وأَتذكّر (وهو ما يقابل ثقافة الذاكرة)
أَفْعل وأَفْهم (وهو ما يقابل ثقافة العقل والتجربة)
وحتى نستغل قدرات الإنسان الأربع التي ذكرناها في بداية المقال، نكمّل هذه المقولة:
أَتخيل وأَبْتكر (وهو ما يقابل ثقافة الابتكار)
صباحكم جميل
وبارك الله بكم
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني