بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين تحية الاسلام جزاك الله جنة الفردوس الاعلى التي اعدت للمتقين نفع الله بك الاسلام والمسلمين وادامك ذخرا لمنبرنا الشامخ شموخ ارز لبنان ان كل مفردات ثقافتي لا تفيك حقك من الشكر والاجلال والتقدير لك مني عاطر التحية واطيب المنى دمت بحفظ المولى استمع للقران الكريم http://www.quranimp3.com/main.php |
مواضيع مماثلة
بحـث
المواضيع الأخيرة
ازرار التصفُّح
التبادل الاعلاني
2 مشترك
انظر له ... ما حل به
الشاعر لطفي الياسيني- مشرف
- عدد المساهمات : 1812
نقاط : 29409
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 07/04/2010
العمر : 101
الموقع : منتدى الشاعر لطفي الياسيني
- مساهمة رقم 1
رد: انظر له ... ما حل به
أحمد كعبل- عدد المساهمات : 49
نقاط : 26411
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 30/06/2010
- مساهمة رقم 2
انظر له ... ما حل به
من آن لآخر أعود لكتب سبق أن قرأتها، ذلك أن بعض الكتب لا تمر عليك بشكل عابر، وإنما تحجز لها مقعدا فى صدارة الذاكرة. وها أنا أعود إلى "العاشق" لمارغريت دوراس، تلك الرواية التى تنتمى كاتبتها إلى ما يسمى "الرواية الجديدة" والتى فازت بجائزة غونكور الأدبية عام 1984.
ومن سمات الرواية الجديدة كما جاء فى كتاب "نحو رواية جديدة" الذى ترجمه مصطفى إبراهيم أنها رفضت فكرة الشخصية والحكاية والإلتزام، وأن التفسيرات ستكون غائبة ومفترضة فى مواجهة البطل، وأن على اللغة الأدبية أن تتغير، وأنه ليس هناك أى عمل من الأعمال الأدبية المعاصرة يتفق والقواعد النقدية الثابتة، وإنه يلزم لتفهم وتناول الرواية الجديدة، ناقد له مفرداته اللغوية الخاصة التى تتناسب ولغة ومفاهيم هذا اللون من الرواية .
أما مارغريت دوراس، فهى كاتبة من طراز فريد، تنوعت كتاباتها بين الأدبية والسينمائية والمسرحية طوال النصف الثانى من القرن العشرين، وهذا يكفى ليجعل من رواية "العاشق" رواية ممتعة برغم قصرها "90 صفحة تسبقها مقدمة بعشرين صفحة للمترجم محمود قاسم" ونحن هنا نتناول الرواية بطبعتها الثانية الصادرة عام 2005 عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة.
تبدأ دوراس روايتها بضمير المتكلم عن امرأة عجوز تعيش تجربة ذاتية، وتقص علينا التجربة كما لو أنها سيرة ذاتية. بل إن بعض النقاد يعتبر رواية "العاشق" سيرة ذاتية لكاتبتها، فهذا بيير بييارفى يكتب فى مجلة لوبوان: إن مارغريت دوراس لم تحدثنا أبدا فى رواياتها السابقة عن نفسها، ولا عن شيء منها، وإنها اختارت أن تفعل ذلك وهى فى سن السبعين . وفى المجلة نفسها يقول جان بيير آميت: إن مارغريت دوراس لا تصنع الكتب، ولكنها تعيش فى الكتاب مثلما يعيش الإنسان داخل شعائر دينه.. كل فقرة من الرواية تحمل شحنة من التجربة .
العجوز التى تبدأ بسرد حكايتها تنقلنا بعد أسطر قليلة إلى زمن آخر، لمجرد أنها التقت رجلا فى قاعة عامة، قال لها إن جميع الناس كانوا يرونها جميلة حينما كانت صغيرة، أما هو فيراها الآن، وهى عجوز، أكثر جمالاً مما كانت عليه وهى شابة.
أعادها ذلك الكلام إلى طفولتها ومراهقتها الأولي.. ثم شعورها بالشيخوخة.. فراحت تفتح دفتر أيامها لتطلع القارئ على أشياء مرت فى حياتها سريعا، وأشياء أدمنتها وترسخت فى ذاكرتها.. ترى متى يشعر الإنسان أن الشيخوخة بدأت تدب فى جسده وذاكرته؟
الجواب الطبيعى على لهذا السؤال هو: بعد أن يقطع الإنسان مسافة طويلة من العمر.. ولكنه ليس جوابا قطعيا. ذلك أن البعض يشعر بالشيخوخة وهو فى مقتبل العمر، وبطلة مارغريت دوراس من هذا "البعض" فقد شعرت بالشيخوخة وهى فى الثامنة عشرة من العمر. اختصرت مرحلة الشباب على نحو مفاجئ وقبيح. راحت تحرث فى الوجه وفى الروح، وتجعل النظرة أكثر حزناً.
بين السيرة الذاتية وأحداث الرواية خيط رفيع لا يراه القارئ بسهولة نظراً لدقته؛ فتجارب البطلة فى كثير من الصفحات هى تجارب الكاتب ذاتها. وعلينا أن نتعامل على هذا الأساس حتى آخر سطر كما ورد فى بعض الكتابات النقدية. وكما جاء أيضا فى مقدمة المترجم. ولا بأس أن نوحد فى كلامنا بين البطلة ودوراس التى تقول عن أمها أنها امرأة جادة تدفع أولادها بكل قوة إلى متابعة دراستهم، وتعمل دون كلل من أجل توفير الأجواء، لذلك الهدف. ولكنها فى نهاية الأمر لن تفلح كما سنرى فى صفحات الرواية. يرحل الابن الأكبر إلى باريس للدراسة لكنه يخيب أمل الأم فتعمل جاهدة على منع البنت والابن الأصغر من السفر. إنها أم كما تصفها الكاتبة أشد بأساً من البأس. يستأثر الابن الأكبر بحبها وعواطفها فتشعر البنت بالضغينة تجاهه، بل تتمنى لو تقتله: تنتابنى الرغبة فى أن أقتل أخي.. كم وددت لو أقتله، وأشعر أكثر من مرة أن لى الحق فى قتله .. إن أمى احبته بشدة وبشكل يسيء إلينا .
ولذلك، ولأسباب أخرى قررت البنت الرحيل. وضعت حلمها على راحة يدها وسترحل. إنها تريد أن تمتهن الكتابة: أخبرت أمى بهذا، إننى أريد أن أكتب. فى المرة الأولى لم ترد، ثم سألتني: ماذا ستكتبين؟
أجبت: أكتب روايات. قالت بجدية: بعد أن تحصلى على شهادة الرياضيات ستكتبين ما تشائين فهذا أمر لا يهمني. إنها ضد الكتابة، وكأن الكتابة ليست بمهنة، بل حالة من المزاح .
يتنقل الزمن بين يدى الكاتبة بحرية.. من الشيخوخة إلى الطفولة. ومنها إلى مرحلة الشباب الأولي. رجوعاً إلى الشيخوخة. مرورا بفترات أخرى تخرج من الذاكرة. نمشى مع البنت ذات الخمسة عشر ربيعاً. ثم فجأة نجدها أما لها ابن فى الواحدة والعشرين من العمر. تتحدث إلى صورة ابنها ولا تكاد تصدق أنه بهذه النحافة. وان أمها فى الصورة. هى ذاتها التى سترت قبعة وردية ذات حواف مسطحة، وشريطا أسود عريضا. إنها تظهر مع أطفالها الصغار دون أن تبتسم، ومثلها يختلط الزمن، تختلط الأمكنة فتنقلنا الكاتبة من هنا إلى هناك. ومن هناك إلينا.
مرة فى باريس وأخرى فى سايجون. مكان يأتى من الثلاثينيات ليحط فى الثمانينيات بذات الصورة التى كان عليها. وقد يرتبك القارئ من هذه الانتقالات عبر الأزمنة والأمكنة، لكنه حين يكون على دراية بأسلوب هذه الكاتبة، ستمنحه تلك الدراية قدرة الإمساك بكل الخيوط.
إن البوح للنفس، أو من النفس إلى الآخر ليس أمراً سهلاً.. الدخول إلى غاية النفس المتشابكة والنظر إلى عمق تلك الغابة، ومن ثم الكتابة عنها يحتاج إلى فرادة امتاز بها الكثير من الكتاب، فيما تاه الكثيرون فى مسالكها، ومارغريت دوراس من تلك النوعية التى سبرت غور نفسها وتحدثت عن أحاسيس تراود كل امرأة، ومنها مسألة الجمال التى تعد مشكلة تؤرق الكثير من النساء. لكن الجمال ليس مجرد شكل عند مارغريت دوراس وإنما هو مقدار التأثير الذى تحدثه فى الآخرين: أستطيع أن اخدع نفسي، واعتقد إننى جميلة مثل كل النساء الجميلات اللائى يجذبن الأنظار، فهم ينظرون بالفعل إلي. لكننى أعرف أن هذه المسألة لا تتعلق بالجمال، وإنما بشيء آخر، فكرة مثلا، فكل ما أريد أن أظهر به أراهن عليه، وأن أكون جميلة أمر مطلوب، لذا سأكون جميلة. وما يمكن أن أغدوه ويصدقونه، يصدقون بأننى فاتنة. وبمجرد أن أصدق هذا فسوف أحدث تأثيرى لمن يرانى .
والجمال يتعلق بأشياء أخرى كالملابس مثلاً، والماكياج أيضا حيث تولى النساء أهمية كبيرة لكل ذلك. ففى مكاتب البورصة، فى سايجون هناك نساء فاتنات لهن بشرات ناصعات، لا يعملن شيئا سوى الاحتفاظ بأنفسهن جميلات، يحافظن على أنفسهن من أجل العشاق والإجازات فى أوروبا، خزاناتهن مليئة بالفساتين ولايعرفن ماذا بها. أما مارغريت دوراس فقد عاشت لفترة طويلة تصنع ملابسها من ملابس أمها القديمة وتعتمر قبعة رجالية.
كل تلك التفاصيل تستدعيها مارغريت من الذاكرة ومن الصور الفوتوغرافية التى تحكى مناسبة كل صورة والفقر الذى عاشته أسرتها وكيف كان الأطفال ينامون فى سرير واحد. تعود العجوز بعد كل ذكرى وحكاية إلى تلك العبارة التى كانت تقف عليها وتنظر إلى النهر ذات صباح مبكر، عندما نزل رجل من سيارته الليموزين واقترب منها لتبدأ منذ ذلك اليوم قصة "العاشق".
العاشق رجل ثرى من الأقلية البيضاء ذات الأصل الصيني. التقاها على العبّارة واقترح عليها أن يوصلها للمدرسة ثم يعيدها إلى البنسيون. هكذا بدأت العلاقة. فتاة فقيرة ورجل يكبرها باثنى عشر عاما. ركبت السيارة وصارت تركبها كل يوم. صارت لها معه مشاوير أخري. يذهبان معاً ويتناولان الطعام فى الأحياء الراقية. وظلت تلك العلاقة بعيدة عن معرفة الأم والأخوة. فالاختلافات بين أسرتها وأسرته واضحة فى المركز الاجتماعي. اعترف لها بحبه عندما أخذها إلى غرفة فى أحد الأحياء الحديثة. وحين قال لها إنه يحبها لم ترد عليه. ثم بعد حين طلبت منه أن يتصرف معها كما يتصرف مع النساء الآخريات. ومن الغريب إنها ستنسى ملامحه بعد سنوات ولا تذكر سوى اسمه وتلك الحجرة التى كانا يلتقيان بها.
فى تلك الفترة، عندما اكتشفت الحب معه صارحته بأسرار عائلتها: إننى لم أر أبدا أشجار عيد الميلاد، وإن أمى امرأة وحيدة.. مطاردة، تعيش المأساة التى عاشتها بكل أبعادها وكأنها تتكلم فى صحراء جرداء. وإنها ظلت طيلة عمرها تبحث عن غذاء وعن شخص تحكى له ما حدث لها . وفى تلك المصارحة اكتشفت أنه لا يمتلك القدرة أن يحبها ضد رغبة أبيه.. وتحدث - بناء على رغبتها - عن ثراء أبيه. وتبقى الهوة بينهما متسعة برغم حبه لها، وبرغم أنه دعا عائلتها إلى أرقى المطاعم ليقرب وجهات النظر بينهما.. إلا أن الأخوة والأم لا يعيرونه الاهتمام اللائق ولا يوجهون له كلمة شكر.. بل لا يصغون إليه كما يفترض حين يحدثهم.. ومما زاد الطين بلة أن الأم تشعر بأن ابنتها تسير فى طريق الانزلاق فتضربها بشدة وتهددها بالطرد، أما الحبيب فيراوده الشعور بالفزع من أن تقابل رجلاً آخر.. وبرغم ذلك تستمر علاقتهما.. هى من جانبها لم تحب فيه سوى الرغبة بالخروج عن طوق العائلة.
تفاصيل كثيرة تتذكرها العجوز وتسردها علينا قبل أن تواصل البنت حياتها المهنية بعيدا عن سطوة الأم التى ماتت بعد موت ابنها الكبير. ومات الأخ الثاني. ولم تعد كاتبتنا تسمع أصواتهم ولا تشم روائحهم. ولذلك فهى تكتب عنهم بسهولة، فقد مر زمن طويل على موتهم، وأصبحت البنت كاتبة معروفة وغزيرة الإنتاج. تكتب عنهم بصيغة الغائب لأنهم غابوا عن الحياة. وحينما تستحضرهم وتستخرج من ذاكرتها تفاصيل حياتهم الصغيرة تستخدم ضمير المتكلم وتتحدث بالفعل المضارع.
لقد مرت سنوات طويلة. ولكن ماذا عن ذلك العاشق؟
وبعد سنوات من الحرب، ومن الزيجات، والأطفال، والطلاقات، والكتب، جاء إلى باريس مع زوجته..? وخابرها بالهاتف: ها أنذا.. عرفته من صوته. قال: أريد أن أسمع صوتك. بدا جريئاً، ولكنه ما يزال خائفاً كسابق عهده. ارتعد صوته فجأة. ووسط هذه الارتجافات، سمعت نبرته الصينية. يعرف إنها بدأت بتأليف الكتب . ويختتم كلامه معها بالقول إنه ما يزال يحبها وإنه لا يمكنه أن يكف عن حبها، وسوف يحبها حتى آخر حياته .
من الأمور الغريبة أن مارغريت دوراس أعادت كتابة هذه الرواية فى عام 1991م بصياغة مختلفة تماما، وإن احتفظت بنفس الحدوتة والوقائع، فى رواية تحمل اسم "عاشق شمال الصين" ولكنها لم تنجح بنفس الدرجة، لأن الدفقة الأولى أكثر دفئاً وسخونة، كما يؤكد المترجم فى مقدمته الطويلة.
لكم كل الود
احمد كعبل
ومن سمات الرواية الجديدة كما جاء فى كتاب "نحو رواية جديدة" الذى ترجمه مصطفى إبراهيم أنها رفضت فكرة الشخصية والحكاية والإلتزام، وأن التفسيرات ستكون غائبة ومفترضة فى مواجهة البطل، وأن على اللغة الأدبية أن تتغير، وأنه ليس هناك أى عمل من الأعمال الأدبية المعاصرة يتفق والقواعد النقدية الثابتة، وإنه يلزم لتفهم وتناول الرواية الجديدة، ناقد له مفرداته اللغوية الخاصة التى تتناسب ولغة ومفاهيم هذا اللون من الرواية .
أما مارغريت دوراس، فهى كاتبة من طراز فريد، تنوعت كتاباتها بين الأدبية والسينمائية والمسرحية طوال النصف الثانى من القرن العشرين، وهذا يكفى ليجعل من رواية "العاشق" رواية ممتعة برغم قصرها "90 صفحة تسبقها مقدمة بعشرين صفحة للمترجم محمود قاسم" ونحن هنا نتناول الرواية بطبعتها الثانية الصادرة عام 2005 عن وكالة الصحافة العربية بالقاهرة.
تبدأ دوراس روايتها بضمير المتكلم عن امرأة عجوز تعيش تجربة ذاتية، وتقص علينا التجربة كما لو أنها سيرة ذاتية. بل إن بعض النقاد يعتبر رواية "العاشق" سيرة ذاتية لكاتبتها، فهذا بيير بييارفى يكتب فى مجلة لوبوان: إن مارغريت دوراس لم تحدثنا أبدا فى رواياتها السابقة عن نفسها، ولا عن شيء منها، وإنها اختارت أن تفعل ذلك وهى فى سن السبعين . وفى المجلة نفسها يقول جان بيير آميت: إن مارغريت دوراس لا تصنع الكتب، ولكنها تعيش فى الكتاب مثلما يعيش الإنسان داخل شعائر دينه.. كل فقرة من الرواية تحمل شحنة من التجربة .
العجوز التى تبدأ بسرد حكايتها تنقلنا بعد أسطر قليلة إلى زمن آخر، لمجرد أنها التقت رجلا فى قاعة عامة، قال لها إن جميع الناس كانوا يرونها جميلة حينما كانت صغيرة، أما هو فيراها الآن، وهى عجوز، أكثر جمالاً مما كانت عليه وهى شابة.
أعادها ذلك الكلام إلى طفولتها ومراهقتها الأولي.. ثم شعورها بالشيخوخة.. فراحت تفتح دفتر أيامها لتطلع القارئ على أشياء مرت فى حياتها سريعا، وأشياء أدمنتها وترسخت فى ذاكرتها.. ترى متى يشعر الإنسان أن الشيخوخة بدأت تدب فى جسده وذاكرته؟
الجواب الطبيعى على لهذا السؤال هو: بعد أن يقطع الإنسان مسافة طويلة من العمر.. ولكنه ليس جوابا قطعيا. ذلك أن البعض يشعر بالشيخوخة وهو فى مقتبل العمر، وبطلة مارغريت دوراس من هذا "البعض" فقد شعرت بالشيخوخة وهى فى الثامنة عشرة من العمر. اختصرت مرحلة الشباب على نحو مفاجئ وقبيح. راحت تحرث فى الوجه وفى الروح، وتجعل النظرة أكثر حزناً.
بين السيرة الذاتية وأحداث الرواية خيط رفيع لا يراه القارئ بسهولة نظراً لدقته؛ فتجارب البطلة فى كثير من الصفحات هى تجارب الكاتب ذاتها. وعلينا أن نتعامل على هذا الأساس حتى آخر سطر كما ورد فى بعض الكتابات النقدية. وكما جاء أيضا فى مقدمة المترجم. ولا بأس أن نوحد فى كلامنا بين البطلة ودوراس التى تقول عن أمها أنها امرأة جادة تدفع أولادها بكل قوة إلى متابعة دراستهم، وتعمل دون كلل من أجل توفير الأجواء، لذلك الهدف. ولكنها فى نهاية الأمر لن تفلح كما سنرى فى صفحات الرواية. يرحل الابن الأكبر إلى باريس للدراسة لكنه يخيب أمل الأم فتعمل جاهدة على منع البنت والابن الأصغر من السفر. إنها أم كما تصفها الكاتبة أشد بأساً من البأس. يستأثر الابن الأكبر بحبها وعواطفها فتشعر البنت بالضغينة تجاهه، بل تتمنى لو تقتله: تنتابنى الرغبة فى أن أقتل أخي.. كم وددت لو أقتله، وأشعر أكثر من مرة أن لى الحق فى قتله .. إن أمى احبته بشدة وبشكل يسيء إلينا .
ولذلك، ولأسباب أخرى قررت البنت الرحيل. وضعت حلمها على راحة يدها وسترحل. إنها تريد أن تمتهن الكتابة: أخبرت أمى بهذا، إننى أريد أن أكتب. فى المرة الأولى لم ترد، ثم سألتني: ماذا ستكتبين؟
أجبت: أكتب روايات. قالت بجدية: بعد أن تحصلى على شهادة الرياضيات ستكتبين ما تشائين فهذا أمر لا يهمني. إنها ضد الكتابة، وكأن الكتابة ليست بمهنة، بل حالة من المزاح .
يتنقل الزمن بين يدى الكاتبة بحرية.. من الشيخوخة إلى الطفولة. ومنها إلى مرحلة الشباب الأولي. رجوعاً إلى الشيخوخة. مرورا بفترات أخرى تخرج من الذاكرة. نمشى مع البنت ذات الخمسة عشر ربيعاً. ثم فجأة نجدها أما لها ابن فى الواحدة والعشرين من العمر. تتحدث إلى صورة ابنها ولا تكاد تصدق أنه بهذه النحافة. وان أمها فى الصورة. هى ذاتها التى سترت قبعة وردية ذات حواف مسطحة، وشريطا أسود عريضا. إنها تظهر مع أطفالها الصغار دون أن تبتسم، ومثلها يختلط الزمن، تختلط الأمكنة فتنقلنا الكاتبة من هنا إلى هناك. ومن هناك إلينا.
مرة فى باريس وأخرى فى سايجون. مكان يأتى من الثلاثينيات ليحط فى الثمانينيات بذات الصورة التى كان عليها. وقد يرتبك القارئ من هذه الانتقالات عبر الأزمنة والأمكنة، لكنه حين يكون على دراية بأسلوب هذه الكاتبة، ستمنحه تلك الدراية قدرة الإمساك بكل الخيوط.
إن البوح للنفس، أو من النفس إلى الآخر ليس أمراً سهلاً.. الدخول إلى غاية النفس المتشابكة والنظر إلى عمق تلك الغابة، ومن ثم الكتابة عنها يحتاج إلى فرادة امتاز بها الكثير من الكتاب، فيما تاه الكثيرون فى مسالكها، ومارغريت دوراس من تلك النوعية التى سبرت غور نفسها وتحدثت عن أحاسيس تراود كل امرأة، ومنها مسألة الجمال التى تعد مشكلة تؤرق الكثير من النساء. لكن الجمال ليس مجرد شكل عند مارغريت دوراس وإنما هو مقدار التأثير الذى تحدثه فى الآخرين: أستطيع أن اخدع نفسي، واعتقد إننى جميلة مثل كل النساء الجميلات اللائى يجذبن الأنظار، فهم ينظرون بالفعل إلي. لكننى أعرف أن هذه المسألة لا تتعلق بالجمال، وإنما بشيء آخر، فكرة مثلا، فكل ما أريد أن أظهر به أراهن عليه، وأن أكون جميلة أمر مطلوب، لذا سأكون جميلة. وما يمكن أن أغدوه ويصدقونه، يصدقون بأننى فاتنة. وبمجرد أن أصدق هذا فسوف أحدث تأثيرى لمن يرانى .
والجمال يتعلق بأشياء أخرى كالملابس مثلاً، والماكياج أيضا حيث تولى النساء أهمية كبيرة لكل ذلك. ففى مكاتب البورصة، فى سايجون هناك نساء فاتنات لهن بشرات ناصعات، لا يعملن شيئا سوى الاحتفاظ بأنفسهن جميلات، يحافظن على أنفسهن من أجل العشاق والإجازات فى أوروبا، خزاناتهن مليئة بالفساتين ولايعرفن ماذا بها. أما مارغريت دوراس فقد عاشت لفترة طويلة تصنع ملابسها من ملابس أمها القديمة وتعتمر قبعة رجالية.
كل تلك التفاصيل تستدعيها مارغريت من الذاكرة ومن الصور الفوتوغرافية التى تحكى مناسبة كل صورة والفقر الذى عاشته أسرتها وكيف كان الأطفال ينامون فى سرير واحد. تعود العجوز بعد كل ذكرى وحكاية إلى تلك العبارة التى كانت تقف عليها وتنظر إلى النهر ذات صباح مبكر، عندما نزل رجل من سيارته الليموزين واقترب منها لتبدأ منذ ذلك اليوم قصة "العاشق".
العاشق رجل ثرى من الأقلية البيضاء ذات الأصل الصيني. التقاها على العبّارة واقترح عليها أن يوصلها للمدرسة ثم يعيدها إلى البنسيون. هكذا بدأت العلاقة. فتاة فقيرة ورجل يكبرها باثنى عشر عاما. ركبت السيارة وصارت تركبها كل يوم. صارت لها معه مشاوير أخري. يذهبان معاً ويتناولان الطعام فى الأحياء الراقية. وظلت تلك العلاقة بعيدة عن معرفة الأم والأخوة. فالاختلافات بين أسرتها وأسرته واضحة فى المركز الاجتماعي. اعترف لها بحبه عندما أخذها إلى غرفة فى أحد الأحياء الحديثة. وحين قال لها إنه يحبها لم ترد عليه. ثم بعد حين طلبت منه أن يتصرف معها كما يتصرف مع النساء الآخريات. ومن الغريب إنها ستنسى ملامحه بعد سنوات ولا تذكر سوى اسمه وتلك الحجرة التى كانا يلتقيان بها.
فى تلك الفترة، عندما اكتشفت الحب معه صارحته بأسرار عائلتها: إننى لم أر أبدا أشجار عيد الميلاد، وإن أمى امرأة وحيدة.. مطاردة، تعيش المأساة التى عاشتها بكل أبعادها وكأنها تتكلم فى صحراء جرداء. وإنها ظلت طيلة عمرها تبحث عن غذاء وعن شخص تحكى له ما حدث لها . وفى تلك المصارحة اكتشفت أنه لا يمتلك القدرة أن يحبها ضد رغبة أبيه.. وتحدث - بناء على رغبتها - عن ثراء أبيه. وتبقى الهوة بينهما متسعة برغم حبه لها، وبرغم أنه دعا عائلتها إلى أرقى المطاعم ليقرب وجهات النظر بينهما.. إلا أن الأخوة والأم لا يعيرونه الاهتمام اللائق ولا يوجهون له كلمة شكر.. بل لا يصغون إليه كما يفترض حين يحدثهم.. ومما زاد الطين بلة أن الأم تشعر بأن ابنتها تسير فى طريق الانزلاق فتضربها بشدة وتهددها بالطرد، أما الحبيب فيراوده الشعور بالفزع من أن تقابل رجلاً آخر.. وبرغم ذلك تستمر علاقتهما.. هى من جانبها لم تحب فيه سوى الرغبة بالخروج عن طوق العائلة.
تفاصيل كثيرة تتذكرها العجوز وتسردها علينا قبل أن تواصل البنت حياتها المهنية بعيدا عن سطوة الأم التى ماتت بعد موت ابنها الكبير. ومات الأخ الثاني. ولم تعد كاتبتنا تسمع أصواتهم ولا تشم روائحهم. ولذلك فهى تكتب عنهم بسهولة، فقد مر زمن طويل على موتهم، وأصبحت البنت كاتبة معروفة وغزيرة الإنتاج. تكتب عنهم بصيغة الغائب لأنهم غابوا عن الحياة. وحينما تستحضرهم وتستخرج من ذاكرتها تفاصيل حياتهم الصغيرة تستخدم ضمير المتكلم وتتحدث بالفعل المضارع.
لقد مرت سنوات طويلة. ولكن ماذا عن ذلك العاشق؟
وبعد سنوات من الحرب، ومن الزيجات، والأطفال، والطلاقات، والكتب، جاء إلى باريس مع زوجته..? وخابرها بالهاتف: ها أنذا.. عرفته من صوته. قال: أريد أن أسمع صوتك. بدا جريئاً، ولكنه ما يزال خائفاً كسابق عهده. ارتعد صوته فجأة. ووسط هذه الارتجافات، سمعت نبرته الصينية. يعرف إنها بدأت بتأليف الكتب . ويختتم كلامه معها بالقول إنه ما يزال يحبها وإنه لا يمكنه أن يكف عن حبها، وسوف يحبها حتى آخر حياته .
من الأمور الغريبة أن مارغريت دوراس أعادت كتابة هذه الرواية فى عام 1991م بصياغة مختلفة تماما، وإن احتفظت بنفس الحدوتة والوقائع، فى رواية تحمل اسم "عاشق شمال الصين" ولكنها لم تنجح بنفس الدرجة، لأن الدفقة الأولى أكثر دفئاً وسخونة، كما يؤكد المترجم فى مقدمته الطويلة.
لكم كل الود
احمد كعبل
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني