أدب الرحلات يمهد للتثاقف مع الشعوب
لم تظهر الكتابة عن الرحلة إلا بعد الهجرة النبوية والفتوحات الإسلامية وازدهار الحضارة العربية وثقافتها.
متى ظهرت الرحلة؟
عرف الإنسان الرحلة أو الترحال والتنقل بفطرته التى جبل عليها منذ بدء الخليقة، منذ هبط آدم وحواء إلى الأرض ليعبدوا الله وليعمرا بأولادهما الأرض، وينتشروا فيها بسعيهم وراء مصادر الماء، التى بدورها ستوفر لهم إمكانية الزراعة والشرب وتوفر مصادر الرزق لهم ولحيواناتهم.
وكثيرا ما كانت الطبيعة تؤرقه، وتشغل باله فيقضى ساعات طويلة يتأمل فيها، وكثيرا ما كانت تفاجئه برياح عاتية أو رعد وبرق أو ما هو أفظع، كارثة طبيعية تجعله يفر، يلملم أغراضه ويرحل لمكان آخر يلتمس فيه بعض الأمن وبعض العزاء عما يكون قد فقده بسبب هذه الطبيعة الغامضة التى يبيت يفكر فى أسرارها عله يأمن بعض أشرارها.
ومن هنا نأتي إلى تذكر المقولة الشهيرة بأن فى السفر تسع فوائد: منها الرزق، وتحصيل العلم، واكتساب الخبرات، والترفيه، ورؤية بلاد جديدة، واكتساب مزيد من العزة عند الأهل، والإستشفاء فى حالة المرض، لا قدر الله.
لم تظهر الكتابة عن الرحلة إلا ربما فيما بعد الهجرة النبوية، والفتوحات الإسلامية، وازدهار الحضارة العربية وثقافتها، فظهرت كتابات عن رحلات قام بها رحالة عرب، حيث ظهر أدب الرحلات ليشكل أحد أهم تجليات الثقافة فى ذلك العصر، وليجوب بعض الرحالة العرب بلادا عربية تجاور بلادهم بل وصل بعضهم إلى بلاد غير عربية وبعيدة كالصين والهند وبلاد ما وراء النهر وتركيا وغيرها.
وقد أدى الرحالة العرب مهمة سامية للأجيال القادمة، إذ أسهمت كتاباتهم لأدب الرحلات فى نقل كثير من الصور الجميلة والمشاهد المميزة لتلك البلاد وطبيعتها الجغرافية، وظروفها المعيشية وألقوا الضوء على تاريخ هذه البلاد وأفكار سكانها وعادات وتقاليد قد تختلف وقد تتفق مع عادات البلاد التي جاء منها هولاء الرحالة، فأسهموا بذلك في نقل بعض ثقافات الشعوب الأخرى، وإثارة الاهتمام بها وتشجيع المهتمين من العلماء وطلبة العلم على زيارة تلك البلاد للنهل من معارفها وعلومها.
ظهرت الرحلة في نقوش مصرية قديمة تحكى عن (بلاد بُنت) في عهد الملكة حتشبسوت، وذكرت الرحلة في القرآن في سورة الفيل مما يدل على معرفة الإنسان لها منذ القدم.
من أشهر الرحالة العرب
ابن فضلان
صاحب كتاب "رسالة ابن فضلان"، ولد فى القرن العاشر الميلادي، أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله من بغداد إجابة لملك الصقالبة - في روسيا - لتعليمه الإسلام وبناء مساجد وحصن له من أعدائه، فأرسل ابن فضلان على رأس وفد العلماء والفقهاء وأمضى 3 سنوات من (921- 924) في بلاد الروس والصقالبة والخرز والاسكندنافيه.
ابن جبير
صاحب كتاب "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" عرف بـ "رحلة ابن جبير" وهو من الأندلس، اسمه محمد بن أحمد بن جبير الكناني، المعروف بابن جبير ولد في بلنسية بأسبانيا سنة 540 هـ (1145) وتعلم على يد أبيه وغيره من العلماء في عصره، ثم استخدمه أمير غرناطة أبو سعيد بن عبدالمؤمن ملك الموحدين في وظيفة كاتم السر فاستوطن غرناطة.
وكان الأمير أبو سعيد استدعاه يوما ليكتب عنه كتابا وهو يشرب الخمر، فأرغم ابن جبير على شرب سبعة كئوس من الخمر وأعطاه سبيعة أقداح دنانير، لذلك صمم ابن جبير على القيام برحلة الحج بتلك الدنانير تكفيرا عن خطيئته، وأقام في سفره سنتين ودوَّن مشاهداته وملاحظاته في يوميات، حوالى سنة 582هـ/ (1186) وتداول كتابه الشرق والغرب حتى قام المؤرخ والمترجم الإنجليزى ويليام رايت بنشره وطبعه في كتاب جمع عددا كبيرا من الرحلات لرحالة وحجاج عرب وأجانب مسلمين ومسيحيين ويهود.
العلامة الإدريسي
صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي، واسمه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس.
أحد كبارعلماء الجغرافيا، كما أنه كتب في التاريخ، والأدب، والشعر، والنبات ودرس الفلسفة، والطب، والنجوم، في قرطبة.
ولد في مدينة سبتة شمال المغرب عام 493 هـ (1100) و مات عام 560 هـ (1166). زار الحجاز ومصر. وصل سواحل فرنسا وإنكلترا. سافر إلى القسطنطينية وسواحل آسيا الصغرى. استخدمت خرائطه في سائر استكشافات الرحالة الغربيين في عصر النهضة الأوربية، حيث حدد في خرائطه التي نشرت بكتابه اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، ومنابع نهر النيل وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول.
انتقل الإدريسي إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلامية، لأن ملكها في ذلك الوقت "روجر الثاني" كان محباً للمعرفة، فشرح الإدريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تماما كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات.
ابن بطوطة
ولد في طنجة سنة 703 هـ (1304) بالمغرب لعائلة عرف عنها عملها في القضاء وفي فتوته درس الشريعة وقرر عام 1325 وهو ابن 20 عاماً، أن يخرج حاجاً كما أمل من سفره أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام. وخرج من طنجة سنة 725 هـ فطاف بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة وبلاد التتر وأواسط أفريقيا. واتصل بكثير من الملوك والأمراء فمدحهم، وكان ينظم الشعر، واستعان بهباتهم على أسفاره.
وعاد إلى المغرب الأقصى، وذهب إلى السلطان أبي عنان (من ملوك بني مرين) فأقام في بلاده. وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي أديب السلطان، بمدينة فاس سنة 756 هـ، وسماها تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
ترجمت رحلته إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجم فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا.
وكان يحسن التركية والفارسية. واستغرقت رحلته 27 سنة (1325-1352) ومات في مراكش سنة 779 هـ (1377). تلقبه جامعة كامبريدج في كتبها وموسوعاتها بأمير الرحالة المسلمين. وأطلق علماء العصر اسم ابن بطوطة على إحدى الفوهات البركانية على سطح القمر.
قام ابن بطوطة بثلاث رحلات، وقد استغرق في مجموعها نحو تسع وعشرين سنة، وكان أطولها الرحلة الأولى التي لم يترك في خلالها ناحية من نواحي المغرب و المشرق إلا زارها، وكانت أطول إقامة له في بلاد الهند حيث تولى القضاء سنتين ثم في الصين حيث تولى القضاء سنة ونصف السنة.
وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما وذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم وما حدث في أثناء إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين، وكان ابن بطوطة في خلال إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية إلى لزوم المساجد والزوايا فلم يدع زاوية إلا وزارها ونزل ضيفا عليها.
رحلته الثانية كانت لأسبانيا، والثالثة كانت إلى السودان.
***
في العصر الحديث
هناك كتَّاب مثل محمد حسين هيكل، صاحب كتابي "عشرة أيام في السودان" و"يوميات باريس".
ولد محمد حسين هيكل ولد في 2188 – وتوفى في 1956، روائي وصحافي وكاتب وسياسي مصري. كان وزير المعارف سابقا في مصر.
إبراهيم عبد القادرالمازنى: صاحب كتاب "رحلة الحجاز"، واحد من جيل العمالقة، وهو كاتب روائي وشاعر مصري عبقري ولد في القاهرة في مصر 19/8/1889
• زكى مبارك: كاتب مصري له "ذكريات بغداد" و"ذكريات باريس".
• يحيى المعلمى: كاتب سعودي له "رحلة علمية ورحلات أخرى".
• وهناك حسين قدري، وخليل النعيمى، في التسعينات.
• وأنيس منصور، الكاتب المصرى الكبير المعاصر، الذي كتب أجمل كتب أدب الرحلات مثل:
• حول العالم في 200 يوم
• بلاد الله لخلق الله
• غريب في بلاد غريبة
• اليمن ذلك المجهول
• أنت في اليابان وبلاد أخرى
• أطيب تحياتي من موسكو
• أعجب الرحلات في التاريخ
• ود. عزة بدر، كاتبة مصرية، صاحبة كتاب "أم الدنيا: صورة قلمية عن القاهرة والناس"، وكتاب "رحلات بنت قطقوطة 2007" تصف فيه رحلتها إلى اليونان وإيطاليا وبلاد أخرى.
ماذا عن الرحالة الغربيين؟
• إذا تأملنا سيرة الرحالة الغربيين الأوائل سنلاحظ أنهم كانوا يقومون برحلاتهم رغبة في الحصول على المال والذهب والعطايا الملكية التي يمكن أن تعود عليهم من وراء كشف جغرافي جديد، كما كان يتمنى كريستوفر كولومبوس الإيطالي عندما كان يسعى للوصول إلى الهند طمعا في كنوزها، فوصل إلى جزر الكاريبي في القرن الخامس عشر، وظن خطأً أنها الهند.
• ومثل فاسكو داجاما البرتغالي الذي اكتشف الهند فيما بعد عن طريق رأس الرجاء الصالح في أواخر القرن الخامس عشر 1498، ولن ننسى أنه لولا مساعدة الرحالة العربي أحمد بن ماجد لما وصل إلى الهند. ربما لم يكتب الرحالة الغربيون بأنفسهم عن هذه الرحلات، وإنما كتب عنهم من عاصرهم وقتها.
• وإذا نظرنا إلى الدافع وراء رحلات الرحالة العرب، فسنجد أنهم كانوا يسافرون طلبا للحج أو الرزق أو العلم، إلى جانب الرغبة في المعرفة والاستكشاف ويبقى السبق في هذا المجال للرحالة العرب فأول رحالة عربى كما ذكرنا هو ابن جبير.
أما الرحالة المعاصرون سواء كانوا عربا أو غربيين، فهم كتاب بالدرجة الأولى قد تسوقهم الظروف إلى بلاد معينة، فيكتبون عنها، وإما يسافرون إلى أماكن بعينها خصيصا لدراستها والكتابة عنها.
ما مفهوم أدب الرحلة؟
لعل أدب الرحلة بمفهومه فى رأيي، هو فن التعبير عن مشاعر تختلج فى نفس الأديب المغترب تجاه كل ما يراه ويعايشه ويقرأه عن ملامح بلد أجنبى بعادات، وتقاليد سكانه، وخلفيته السياسية والثقافية والإجتماعية وأحداث يعايشها الأديب ومواقف تأثر بها، وهموم عانى منها في ذلك البلد الأجنبي طالت أم قصرت مدة إقامته فيها، والتعبير عن كل ذلك بأسلوب أدبي شائق يغري القارىء بمواصلة القراءة من أول لآخر سطر، دون ملل أو كلل.
ورغم أن لأدب الرحلات سمات وخصائص تميزه كما سبق أن ذكرت، إلا أن أهم ميزة من وجهة نظري هي الحرية، حرية الأديب في أن يكتب كيفما شاء، يضحكنا تارة ويبكينا تارة أخرى، وقد نشعر أحيانا أننا بصدد قصة قصيرة، و قد نقرأ شعرا، أو نشعر وكأننا طرفا في نقاش أو موجودين مع الأديب في نفس الأحداث، نتفاعل معه فيها.
مدى نجاح الأديب في كتابته في أدب الرحلة بصفة خاصة يتوقف في نظري على كم التعايش الوجداني الذي يخلقه في قلب وضمير القارىء، فكلما تأثر القارىء أكثر واندمج في أحداث القص، كان ذلك برهانا على قدرة الكاتب وتميزه في كتابته.
مقارنات بين الماضي والحاضر
أولا: أسلوب التعبير الأدبى: سنجد أن الرحالة العربي لم يكن بالضرورة أديبا يجيد التعبير بأساليب أدبية، وإنما كان يهوى السفر والترحال، ويحفظ مشاهدته في ذاكرته، أما الآن فعادة الأديب هو نفس الشخص الذي يسافر ويكتب أولا بأول مشاهداته بأسلوب أبسط وأقل تعقيدا.
ثانيا: الجهد والوقت: الرحلة في الماضي كانت تكلف الرحالة جهدا وتعبا شديدا وووقتا طويلا قد يصل إلى أسابيع وشهور للوصول إلى غايته، في حين أن وسائل المواصلات المتطورة اليوم سهلت على الأديب التنقل ووفرت عليه الوقت وبعض الجهد، وإن كانت التكلفة ربما أكثر بكثير منها في الماضى.
ثالثا: سهولة الطباعة: من السهل أيضا اليوم، الكتابات الأدبية بوجه عام بوسائل طباعة حديثة وأنيقة، في حين كان الرحالة في الماضى يضطرون لتدوين كتاباتهم في مخطوطات كبيرة وثقيلة وبالطبع كان يصعب نسخها عدة مرات.
رابعا: سهولة الانتشار: وسائل الاتصال الحديثة منها الصحف والإنترنت، سهلت إلى درجة كبيرة انتشار فن أدب الرحلات، سواء كان في صورة مقالات مقرؤة أو ربما كتب إلكترونية.
الأمر الذي يسر إمكانية الاحتكاك والتواصل بين كتاب الرحلات وقرائهم، فيستطيع مستخدم الإنترنت أن يجوب الكرة الأرضية بنفسه ويقرأ مايشاء من أدب رحلة عن أي بلد تعجبه، وربما يرسل تعليق للكاتب إذا ترك عنوانه الإلكتروني أو البريدي.
ويوفر الإنترنت فرصة النشر المجانى، والسريع لأدبه، ويوفره للقارىء أيضا على النت، (ربما تتوافر هذه الخدمة أكثر باللغات الأجنبية.)
وأرى أن الانبهار عنصر هام فى كتابة أدب الرحلات، وربما كان هذا هو العامل الأساسي الذي جعلني اتجه لكتابة كتابي "مذكرات مغتربة في سنغافورة"، عندها شعرت بأن كل شىء حولي عجيب وغريب، ووجدت بداخلي أحاديث طويلة ومشاعر مكبوتة، لا تتناسب مع قالب القصة القصيرة ولا الرواية، حتى سألني أحد الشعراء وهو صديق (الشاعر المصري أحمد الخميسي)، كيف تمضين عامين في سنغافورة ولا تكتبين أدب رحلات عنها؟
وكان هذا السؤال بمثابة نفخة هواء في جذوة فحم متقدة على حد تعبيره. لأني انطلقت في هذا المجال، ولم أكن قد كتبت فيه من قبل غير أني قد قرأت فيه، فسرت على النهج وحاولت إضفاء بعض التغيرات في الأسلوب، لمحاولة جعل القارىء يتعايش مع الأحداث والأماكن التي كنت أزورها، فكنت آخذ القارىء معى، وكأني اصطحبه بحق وأتخيل وجوده في المكان وأبدأ في محادثته، فدعوني أقرأ لكم بعضا مما جاء فيه:
دعوة على الشاي الأخضر
أخذنا الحديث عن سنغافورة ونسيت أن أدعوك لفنجان شاي في بيتي، فمعذرة وتفضل معي الآن، أنت الآن سائح عربي مقيم في سنغافورة لبعض الوقت، فاسمح لي أن أكون مرشدتك السياحية- وظيفة قديمة كنت أود أن أعمل بها، ثم عملت بنصيحة أمي وابتعدت عنها لأنها مرهقة – ولكني أؤديها الآن على الورق، فلا بأس مطلقا منها.
نحن الآن في عربة أجرة تجوب سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة الساكنة في بحر الصين الجنوبي المتصل بالمحيط الهادي في جنوب شرق القارة الآسيوية، حيث 136.8 كيلومترا شمال خط الإستواء، أنت بالفعل في جزيرة إستوائية، لكن لا تخش شيئا، فدرجة الحرارة لن تعدو 33 مئوية،غير أن الرطوبة 80%.
الشوراع متوسطة الاتساع، تكفي لثلاث سيارات للمرور في ثلاث "حارات"، عندما قالوا لي عن سنغافورة إنها صغيرة جدا، تصورت أني سأهبط من المطار لأجد البيت على يمينه مباشرة، ولكنك إذا بقيت معنا أكثر سوف لا تشعر بصغرها، وستنسى أنها دولة ذات مدينة واحدة، وسيخيل لك أنها كالبحرين أو ثلاث أرباع مدينة القاهرة، مع فارق أن عدد سكانها لا يعدو أربعة ملاييين نسمة.
الأشجار الخضراء الكثيفة العفية تحفنا من الجانبين بغزارة وعمق بعيد يمتد من ورائها، تتخللها المنازل ذات الأسقف القرميدية المنزلقة والمجمعات السكنية ذات الأسوار المشجرة المزهرة، والمتاجر الكبرى والمبانى الإدارية العالية الفريدة التصميم.
يجري في وسطها تقريبا نهر سنغافورة وبعض البحيرات المائية الطبيعية الصغيرة، ولذا أطلقوا عليها مدينة الماء - وكذلك مدينة الأسد الذي هو أصل تسميتها سأقصها تفصيلا لاحقا - رغم أنك من الممكن أن تقضي أياما كثيرة تجوب فيها شوارع لا ترى فيها نهرا ولا بحيرة، ربما لكثرة الشوارع في سنغافورة وتشعبها، بل أنهم يسمون الطريق الواحد بأكثر من اسم، معذورون فإن لم يفعلوا ذلك لوجدت البلد عبارة عن بضعة شوارع لاأكثر.
المهم، ها نحن الآن أمام واجهة "الكوندومنيم" المجمع السكني، وهو نظام سكني شائع كثيرا هنا، ربما يعجبك وتسكن به وتصبح جارا لنا، من يعرف؟
يدخل الآن سائق التاكسي إلى الداخل، عليّ أن أخفض رأسي من داخل العربة كي يراني حارس الأمن فيسمح للعربة بلدخول هكذا الحال مع السكان والمستأجرين، أما الضيوف فلابد من إيقاف سياراتهم وأخذ أرقامها وسؤالهم عن اسم الشخص الداعي لهم، ولابد أن يضعوا سياراتهم في المكان المخصص لسيارات الضيوف الزائرين، وليس في مكان سيارات السكان المستأجرين، ولا مكان سيارات ذوي الاحتياجات الخاصة، إذا نظرت إلى هذه العلامات الحمراء والبيضاء على أرض الجراج ستعرف ما أقصد.
- تفضل
لقد انصرفت عربة الأجرة، دعنا نتوجه إلى المصعد، هل ترى تلك السنغافورية هناك، إنها مديرة المجمع السكني، لا تكاد تجلس في مكتبها، رائحة غادية طوال النهار تتفقد أحوال حراس الأمن وعمال النظافة وتحل أي مشكلة للسكان.
– آه، هذا هو المصعد/ Good mornin
لا عليك، إنها جارتي "جين" في الشقة المواجهة ألقى عليها التحية، شخصية عجيبة، سأحدثك عنها لاحقا.
اليوم السبت، ربما تجدها ذاهبة بأولادها لدروس السباحة أو أية دروس والسلام، سنصعد الآن للدور الخامس.
- Hi.
هذا هو جارنا السنغافورى "ليم"، يمارس زوجي معه رياضة التنس أسبوعيا، دعوناه وأسرته مرة عندنا، لكنا لم ندخل بيته ولا مرة.
هذا بيتي، تفضل، بيتنا بسيط، فيه رائحة البيوت المصرية البسيطة، تزين جدرانه بعض الصور النحاسية العربية وآيات قرآنية وسجادة صغيرة من خان الخليلي لمشهد ريف مصري، هذا ابني "كريم" 11 سنة مرابض أمام جهاز الكمبيوتر لتحميل ألعاب مجانية على الإنترنت.
وهذا "آمن" صغيري 6 سنوات مرابض أمام قناة ديزني الأميركية لأفلام الكارتون، تفضل على المقعد الجلدي- كعادة البيوت السنغافورية المفروشة هنا - سأنادى زوجي ليرحب بك ويحدثك عن عشقه لسنغافورة أكثر مني، فأنا أرها جميلة، ساكنة اكثر من المطلوب، جنة بلا ناس.
أما وقد جاء "أحمد" زوجي للترحيب بك، سأذهب أنا لإعداد الشاى وتجهيز الكيك، ربما ندعوك على الغذاء لاحقا، لكن الأكل المصري هنا لن يكون بنفس النكهة المصرية الأصلية.
- ماذا؟
ـ آه، تقصد هذه الرائحة؟ للآسف إنها رائحة طهي الأكلات السنغافورية لدى الجيران، لا سبيل لمنعها. ضقنا بها ذرعا، لكنا اعتدنا عليها فيما بعد، بل وصرنا نميزها من رائحتها، عموما سأحاول إغلاق نافذة المطبخ.
خاتمة
وفي النهاية لابد أن أشير إلى أن هناك جهودا عربية تبذل في هذا المجال وللإمارات تجربة ثقافية رائدة في أدب الرحلات من خلال دار نشر خاصة هى دار السويدى للنشر والتوزيع بأبوظبى، مؤسسها الشاعر محمد السويدي، ويشرف على النشر فيها الشاعر السوري نوري الجراح، وهي تتبنى مشروع ارتياد الآفاق، فتقوم بنشر سلاسل عديدة في أدب الرحلات مثل حكايات الرحالة (إعادة تحقيق ونشر رحلات الرحالة القدامى)، سلسلة السندباد الجديد (للرحلة المعاصرة) ومجلة شهرية (الرحلة) ومسابقة سنوية (مسابقة ابن بطوطة في الأدب الجغرافي).
وتعقد ندوة سنوية، عقدت أربع مرات حتى هذا العام، في المغرب والجزائر والسودان وأبوظبي، بهدف تعريف العالم بهذا الفن الأدبي الجميل، ولتوفير فرصة الاحتكاك بالثقافات الأخرى، ويدعى إلى هذه الندوة عدد كبير من المهتمين بأدب الرحلة من مختلف الجنسيات، وهي تجربة رائدة نتمنى أن نحذو حذوها في جميع بلادنا العربية.
بقلم : سلوى الحمامصي ـ أبوظبي
عضو اتحاد كتاب مصر ونادي القصة ورابطة أديبات الإمارات
واقبلوا تحياتي
ساره صالح
لم تظهر الكتابة عن الرحلة إلا بعد الهجرة النبوية والفتوحات الإسلامية وازدهار الحضارة العربية وثقافتها.
متى ظهرت الرحلة؟
عرف الإنسان الرحلة أو الترحال والتنقل بفطرته التى جبل عليها منذ بدء الخليقة، منذ هبط آدم وحواء إلى الأرض ليعبدوا الله وليعمرا بأولادهما الأرض، وينتشروا فيها بسعيهم وراء مصادر الماء، التى بدورها ستوفر لهم إمكانية الزراعة والشرب وتوفر مصادر الرزق لهم ولحيواناتهم.
وكثيرا ما كانت الطبيعة تؤرقه، وتشغل باله فيقضى ساعات طويلة يتأمل فيها، وكثيرا ما كانت تفاجئه برياح عاتية أو رعد وبرق أو ما هو أفظع، كارثة طبيعية تجعله يفر، يلملم أغراضه ويرحل لمكان آخر يلتمس فيه بعض الأمن وبعض العزاء عما يكون قد فقده بسبب هذه الطبيعة الغامضة التى يبيت يفكر فى أسرارها عله يأمن بعض أشرارها.
ومن هنا نأتي إلى تذكر المقولة الشهيرة بأن فى السفر تسع فوائد: منها الرزق، وتحصيل العلم، واكتساب الخبرات، والترفيه، ورؤية بلاد جديدة، واكتساب مزيد من العزة عند الأهل، والإستشفاء فى حالة المرض، لا قدر الله.
لم تظهر الكتابة عن الرحلة إلا ربما فيما بعد الهجرة النبوية، والفتوحات الإسلامية، وازدهار الحضارة العربية وثقافتها، فظهرت كتابات عن رحلات قام بها رحالة عرب، حيث ظهر أدب الرحلات ليشكل أحد أهم تجليات الثقافة فى ذلك العصر، وليجوب بعض الرحالة العرب بلادا عربية تجاور بلادهم بل وصل بعضهم إلى بلاد غير عربية وبعيدة كالصين والهند وبلاد ما وراء النهر وتركيا وغيرها.
وقد أدى الرحالة العرب مهمة سامية للأجيال القادمة، إذ أسهمت كتاباتهم لأدب الرحلات فى نقل كثير من الصور الجميلة والمشاهد المميزة لتلك البلاد وطبيعتها الجغرافية، وظروفها المعيشية وألقوا الضوء على تاريخ هذه البلاد وأفكار سكانها وعادات وتقاليد قد تختلف وقد تتفق مع عادات البلاد التي جاء منها هولاء الرحالة، فأسهموا بذلك في نقل بعض ثقافات الشعوب الأخرى، وإثارة الاهتمام بها وتشجيع المهتمين من العلماء وطلبة العلم على زيارة تلك البلاد للنهل من معارفها وعلومها.
ظهرت الرحلة في نقوش مصرية قديمة تحكى عن (بلاد بُنت) في عهد الملكة حتشبسوت، وذكرت الرحلة في القرآن في سورة الفيل مما يدل على معرفة الإنسان لها منذ القدم.
من أشهر الرحالة العرب
ابن فضلان
صاحب كتاب "رسالة ابن فضلان"، ولد فى القرن العاشر الميلادي، أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله من بغداد إجابة لملك الصقالبة - في روسيا - لتعليمه الإسلام وبناء مساجد وحصن له من أعدائه، فأرسل ابن فضلان على رأس وفد العلماء والفقهاء وأمضى 3 سنوات من (921- 924) في بلاد الروس والصقالبة والخرز والاسكندنافيه.
ابن جبير
صاحب كتاب "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" عرف بـ "رحلة ابن جبير" وهو من الأندلس، اسمه محمد بن أحمد بن جبير الكناني، المعروف بابن جبير ولد في بلنسية بأسبانيا سنة 540 هـ (1145) وتعلم على يد أبيه وغيره من العلماء في عصره، ثم استخدمه أمير غرناطة أبو سعيد بن عبدالمؤمن ملك الموحدين في وظيفة كاتم السر فاستوطن غرناطة.
وكان الأمير أبو سعيد استدعاه يوما ليكتب عنه كتابا وهو يشرب الخمر، فأرغم ابن جبير على شرب سبعة كئوس من الخمر وأعطاه سبيعة أقداح دنانير، لذلك صمم ابن جبير على القيام برحلة الحج بتلك الدنانير تكفيرا عن خطيئته، وأقام في سفره سنتين ودوَّن مشاهداته وملاحظاته في يوميات، حوالى سنة 582هـ/ (1186) وتداول كتابه الشرق والغرب حتى قام المؤرخ والمترجم الإنجليزى ويليام رايت بنشره وطبعه في كتاب جمع عددا كبيرا من الرحلات لرحالة وحجاج عرب وأجانب مسلمين ومسيحيين ويهود.
العلامة الإدريسي
صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي، واسمه أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس.
أحد كبارعلماء الجغرافيا، كما أنه كتب في التاريخ، والأدب، والشعر، والنبات ودرس الفلسفة، والطب، والنجوم، في قرطبة.
ولد في مدينة سبتة شمال المغرب عام 493 هـ (1100) و مات عام 560 هـ (1166). زار الحجاز ومصر. وصل سواحل فرنسا وإنكلترا. سافر إلى القسطنطينية وسواحل آسيا الصغرى. استخدمت خرائطه في سائر استكشافات الرحالة الغربيين في عصر النهضة الأوربية، حيث حدد في خرائطه التي نشرت بكتابه اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، ومنابع نهر النيل وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول.
انتقل الإدريسي إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلامية، لأن ملكها في ذلك الوقت "روجر الثاني" كان محباً للمعرفة، فشرح الإدريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تماما كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات.
ابن بطوطة
ولد في طنجة سنة 703 هـ (1304) بالمغرب لعائلة عرف عنها عملها في القضاء وفي فتوته درس الشريعة وقرر عام 1325 وهو ابن 20 عاماً، أن يخرج حاجاً كما أمل من سفره أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد الإسلام. وخرج من طنجة سنة 725 هـ فطاف بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة وبلاد التتر وأواسط أفريقيا. واتصل بكثير من الملوك والأمراء فمدحهم، وكان ينظم الشعر، واستعان بهباتهم على أسفاره.
وعاد إلى المغرب الأقصى، وذهب إلى السلطان أبي عنان (من ملوك بني مرين) فأقام في بلاده. وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي أديب السلطان، بمدينة فاس سنة 756 هـ، وسماها تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
ترجمت رحلته إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجم فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا.
وكان يحسن التركية والفارسية. واستغرقت رحلته 27 سنة (1325-1352) ومات في مراكش سنة 779 هـ (1377). تلقبه جامعة كامبريدج في كتبها وموسوعاتها بأمير الرحالة المسلمين. وأطلق علماء العصر اسم ابن بطوطة على إحدى الفوهات البركانية على سطح القمر.
قام ابن بطوطة بثلاث رحلات، وقد استغرق في مجموعها نحو تسع وعشرين سنة، وكان أطولها الرحلة الأولى التي لم يترك في خلالها ناحية من نواحي المغرب و المشرق إلا زارها، وكانت أطول إقامة له في بلاد الهند حيث تولى القضاء سنتين ثم في الصين حيث تولى القضاء سنة ونصف السنة.
وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما وذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم وما حدث في أثناء إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين، وكان ابن بطوطة في خلال إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية إلى لزوم المساجد والزوايا فلم يدع زاوية إلا وزارها ونزل ضيفا عليها.
رحلته الثانية كانت لأسبانيا، والثالثة كانت إلى السودان.
***
في العصر الحديث
هناك كتَّاب مثل محمد حسين هيكل، صاحب كتابي "عشرة أيام في السودان" و"يوميات باريس".
ولد محمد حسين هيكل ولد في 2188 – وتوفى في 1956، روائي وصحافي وكاتب وسياسي مصري. كان وزير المعارف سابقا في مصر.
إبراهيم عبد القادرالمازنى: صاحب كتاب "رحلة الحجاز"، واحد من جيل العمالقة، وهو كاتب روائي وشاعر مصري عبقري ولد في القاهرة في مصر 19/8/1889
• زكى مبارك: كاتب مصري له "ذكريات بغداد" و"ذكريات باريس".
• يحيى المعلمى: كاتب سعودي له "رحلة علمية ورحلات أخرى".
• وهناك حسين قدري، وخليل النعيمى، في التسعينات.
• وأنيس منصور، الكاتب المصرى الكبير المعاصر، الذي كتب أجمل كتب أدب الرحلات مثل:
• حول العالم في 200 يوم
• بلاد الله لخلق الله
• غريب في بلاد غريبة
• اليمن ذلك المجهول
• أنت في اليابان وبلاد أخرى
• أطيب تحياتي من موسكو
• أعجب الرحلات في التاريخ
• ود. عزة بدر، كاتبة مصرية، صاحبة كتاب "أم الدنيا: صورة قلمية عن القاهرة والناس"، وكتاب "رحلات بنت قطقوطة 2007" تصف فيه رحلتها إلى اليونان وإيطاليا وبلاد أخرى.
ماذا عن الرحالة الغربيين؟
• إذا تأملنا سيرة الرحالة الغربيين الأوائل سنلاحظ أنهم كانوا يقومون برحلاتهم رغبة في الحصول على المال والذهب والعطايا الملكية التي يمكن أن تعود عليهم من وراء كشف جغرافي جديد، كما كان يتمنى كريستوفر كولومبوس الإيطالي عندما كان يسعى للوصول إلى الهند طمعا في كنوزها، فوصل إلى جزر الكاريبي في القرن الخامس عشر، وظن خطأً أنها الهند.
• ومثل فاسكو داجاما البرتغالي الذي اكتشف الهند فيما بعد عن طريق رأس الرجاء الصالح في أواخر القرن الخامس عشر 1498، ولن ننسى أنه لولا مساعدة الرحالة العربي أحمد بن ماجد لما وصل إلى الهند. ربما لم يكتب الرحالة الغربيون بأنفسهم عن هذه الرحلات، وإنما كتب عنهم من عاصرهم وقتها.
• وإذا نظرنا إلى الدافع وراء رحلات الرحالة العرب، فسنجد أنهم كانوا يسافرون طلبا للحج أو الرزق أو العلم، إلى جانب الرغبة في المعرفة والاستكشاف ويبقى السبق في هذا المجال للرحالة العرب فأول رحالة عربى كما ذكرنا هو ابن جبير.
أما الرحالة المعاصرون سواء كانوا عربا أو غربيين، فهم كتاب بالدرجة الأولى قد تسوقهم الظروف إلى بلاد معينة، فيكتبون عنها، وإما يسافرون إلى أماكن بعينها خصيصا لدراستها والكتابة عنها.
ما مفهوم أدب الرحلة؟
لعل أدب الرحلة بمفهومه فى رأيي، هو فن التعبير عن مشاعر تختلج فى نفس الأديب المغترب تجاه كل ما يراه ويعايشه ويقرأه عن ملامح بلد أجنبى بعادات، وتقاليد سكانه، وخلفيته السياسية والثقافية والإجتماعية وأحداث يعايشها الأديب ومواقف تأثر بها، وهموم عانى منها في ذلك البلد الأجنبي طالت أم قصرت مدة إقامته فيها، والتعبير عن كل ذلك بأسلوب أدبي شائق يغري القارىء بمواصلة القراءة من أول لآخر سطر، دون ملل أو كلل.
ورغم أن لأدب الرحلات سمات وخصائص تميزه كما سبق أن ذكرت، إلا أن أهم ميزة من وجهة نظري هي الحرية، حرية الأديب في أن يكتب كيفما شاء، يضحكنا تارة ويبكينا تارة أخرى، وقد نشعر أحيانا أننا بصدد قصة قصيرة، و قد نقرأ شعرا، أو نشعر وكأننا طرفا في نقاش أو موجودين مع الأديب في نفس الأحداث، نتفاعل معه فيها.
مدى نجاح الأديب في كتابته في أدب الرحلة بصفة خاصة يتوقف في نظري على كم التعايش الوجداني الذي يخلقه في قلب وضمير القارىء، فكلما تأثر القارىء أكثر واندمج في أحداث القص، كان ذلك برهانا على قدرة الكاتب وتميزه في كتابته.
مقارنات بين الماضي والحاضر
أولا: أسلوب التعبير الأدبى: سنجد أن الرحالة العربي لم يكن بالضرورة أديبا يجيد التعبير بأساليب أدبية، وإنما كان يهوى السفر والترحال، ويحفظ مشاهدته في ذاكرته، أما الآن فعادة الأديب هو نفس الشخص الذي يسافر ويكتب أولا بأول مشاهداته بأسلوب أبسط وأقل تعقيدا.
ثانيا: الجهد والوقت: الرحلة في الماضي كانت تكلف الرحالة جهدا وتعبا شديدا وووقتا طويلا قد يصل إلى أسابيع وشهور للوصول إلى غايته، في حين أن وسائل المواصلات المتطورة اليوم سهلت على الأديب التنقل ووفرت عليه الوقت وبعض الجهد، وإن كانت التكلفة ربما أكثر بكثير منها في الماضى.
ثالثا: سهولة الطباعة: من السهل أيضا اليوم، الكتابات الأدبية بوجه عام بوسائل طباعة حديثة وأنيقة، في حين كان الرحالة في الماضى يضطرون لتدوين كتاباتهم في مخطوطات كبيرة وثقيلة وبالطبع كان يصعب نسخها عدة مرات.
رابعا: سهولة الانتشار: وسائل الاتصال الحديثة منها الصحف والإنترنت، سهلت إلى درجة كبيرة انتشار فن أدب الرحلات، سواء كان في صورة مقالات مقرؤة أو ربما كتب إلكترونية.
الأمر الذي يسر إمكانية الاحتكاك والتواصل بين كتاب الرحلات وقرائهم، فيستطيع مستخدم الإنترنت أن يجوب الكرة الأرضية بنفسه ويقرأ مايشاء من أدب رحلة عن أي بلد تعجبه، وربما يرسل تعليق للكاتب إذا ترك عنوانه الإلكتروني أو البريدي.
ويوفر الإنترنت فرصة النشر المجانى، والسريع لأدبه، ويوفره للقارىء أيضا على النت، (ربما تتوافر هذه الخدمة أكثر باللغات الأجنبية.)
وأرى أن الانبهار عنصر هام فى كتابة أدب الرحلات، وربما كان هذا هو العامل الأساسي الذي جعلني اتجه لكتابة كتابي "مذكرات مغتربة في سنغافورة"، عندها شعرت بأن كل شىء حولي عجيب وغريب، ووجدت بداخلي أحاديث طويلة ومشاعر مكبوتة، لا تتناسب مع قالب القصة القصيرة ولا الرواية، حتى سألني أحد الشعراء وهو صديق (الشاعر المصري أحمد الخميسي)، كيف تمضين عامين في سنغافورة ولا تكتبين أدب رحلات عنها؟
وكان هذا السؤال بمثابة نفخة هواء في جذوة فحم متقدة على حد تعبيره. لأني انطلقت في هذا المجال، ولم أكن قد كتبت فيه من قبل غير أني قد قرأت فيه، فسرت على النهج وحاولت إضفاء بعض التغيرات في الأسلوب، لمحاولة جعل القارىء يتعايش مع الأحداث والأماكن التي كنت أزورها، فكنت آخذ القارىء معى، وكأني اصطحبه بحق وأتخيل وجوده في المكان وأبدأ في محادثته، فدعوني أقرأ لكم بعضا مما جاء فيه:
دعوة على الشاي الأخضر
أخذنا الحديث عن سنغافورة ونسيت أن أدعوك لفنجان شاي في بيتي، فمعذرة وتفضل معي الآن، أنت الآن سائح عربي مقيم في سنغافورة لبعض الوقت، فاسمح لي أن أكون مرشدتك السياحية- وظيفة قديمة كنت أود أن أعمل بها، ثم عملت بنصيحة أمي وابتعدت عنها لأنها مرهقة – ولكني أؤديها الآن على الورق، فلا بأس مطلقا منها.
نحن الآن في عربة أجرة تجوب سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة الساكنة في بحر الصين الجنوبي المتصل بالمحيط الهادي في جنوب شرق القارة الآسيوية، حيث 136.8 كيلومترا شمال خط الإستواء، أنت بالفعل في جزيرة إستوائية، لكن لا تخش شيئا، فدرجة الحرارة لن تعدو 33 مئوية،غير أن الرطوبة 80%.
الشوراع متوسطة الاتساع، تكفي لثلاث سيارات للمرور في ثلاث "حارات"، عندما قالوا لي عن سنغافورة إنها صغيرة جدا، تصورت أني سأهبط من المطار لأجد البيت على يمينه مباشرة، ولكنك إذا بقيت معنا أكثر سوف لا تشعر بصغرها، وستنسى أنها دولة ذات مدينة واحدة، وسيخيل لك أنها كالبحرين أو ثلاث أرباع مدينة القاهرة، مع فارق أن عدد سكانها لا يعدو أربعة ملاييين نسمة.
الأشجار الخضراء الكثيفة العفية تحفنا من الجانبين بغزارة وعمق بعيد يمتد من ورائها، تتخللها المنازل ذات الأسقف القرميدية المنزلقة والمجمعات السكنية ذات الأسوار المشجرة المزهرة، والمتاجر الكبرى والمبانى الإدارية العالية الفريدة التصميم.
يجري في وسطها تقريبا نهر سنغافورة وبعض البحيرات المائية الطبيعية الصغيرة، ولذا أطلقوا عليها مدينة الماء - وكذلك مدينة الأسد الذي هو أصل تسميتها سأقصها تفصيلا لاحقا - رغم أنك من الممكن أن تقضي أياما كثيرة تجوب فيها شوارع لا ترى فيها نهرا ولا بحيرة، ربما لكثرة الشوارع في سنغافورة وتشعبها، بل أنهم يسمون الطريق الواحد بأكثر من اسم، معذورون فإن لم يفعلوا ذلك لوجدت البلد عبارة عن بضعة شوارع لاأكثر.
المهم، ها نحن الآن أمام واجهة "الكوندومنيم" المجمع السكني، وهو نظام سكني شائع كثيرا هنا، ربما يعجبك وتسكن به وتصبح جارا لنا، من يعرف؟
يدخل الآن سائق التاكسي إلى الداخل، عليّ أن أخفض رأسي من داخل العربة كي يراني حارس الأمن فيسمح للعربة بلدخول هكذا الحال مع السكان والمستأجرين، أما الضيوف فلابد من إيقاف سياراتهم وأخذ أرقامها وسؤالهم عن اسم الشخص الداعي لهم، ولابد أن يضعوا سياراتهم في المكان المخصص لسيارات الضيوف الزائرين، وليس في مكان سيارات السكان المستأجرين، ولا مكان سيارات ذوي الاحتياجات الخاصة، إذا نظرت إلى هذه العلامات الحمراء والبيضاء على أرض الجراج ستعرف ما أقصد.
- تفضل
لقد انصرفت عربة الأجرة، دعنا نتوجه إلى المصعد، هل ترى تلك السنغافورية هناك، إنها مديرة المجمع السكني، لا تكاد تجلس في مكتبها، رائحة غادية طوال النهار تتفقد أحوال حراس الأمن وعمال النظافة وتحل أي مشكلة للسكان.
– آه، هذا هو المصعد/ Good mornin
لا عليك، إنها جارتي "جين" في الشقة المواجهة ألقى عليها التحية، شخصية عجيبة، سأحدثك عنها لاحقا.
اليوم السبت، ربما تجدها ذاهبة بأولادها لدروس السباحة أو أية دروس والسلام، سنصعد الآن للدور الخامس.
- Hi.
هذا هو جارنا السنغافورى "ليم"، يمارس زوجي معه رياضة التنس أسبوعيا، دعوناه وأسرته مرة عندنا، لكنا لم ندخل بيته ولا مرة.
هذا بيتي، تفضل، بيتنا بسيط، فيه رائحة البيوت المصرية البسيطة، تزين جدرانه بعض الصور النحاسية العربية وآيات قرآنية وسجادة صغيرة من خان الخليلي لمشهد ريف مصري، هذا ابني "كريم" 11 سنة مرابض أمام جهاز الكمبيوتر لتحميل ألعاب مجانية على الإنترنت.
وهذا "آمن" صغيري 6 سنوات مرابض أمام قناة ديزني الأميركية لأفلام الكارتون، تفضل على المقعد الجلدي- كعادة البيوت السنغافورية المفروشة هنا - سأنادى زوجي ليرحب بك ويحدثك عن عشقه لسنغافورة أكثر مني، فأنا أرها جميلة، ساكنة اكثر من المطلوب، جنة بلا ناس.
أما وقد جاء "أحمد" زوجي للترحيب بك، سأذهب أنا لإعداد الشاى وتجهيز الكيك، ربما ندعوك على الغذاء لاحقا، لكن الأكل المصري هنا لن يكون بنفس النكهة المصرية الأصلية.
- ماذا؟
ـ آه، تقصد هذه الرائحة؟ للآسف إنها رائحة طهي الأكلات السنغافورية لدى الجيران، لا سبيل لمنعها. ضقنا بها ذرعا، لكنا اعتدنا عليها فيما بعد، بل وصرنا نميزها من رائحتها، عموما سأحاول إغلاق نافذة المطبخ.
خاتمة
وفي النهاية لابد أن أشير إلى أن هناك جهودا عربية تبذل في هذا المجال وللإمارات تجربة ثقافية رائدة في أدب الرحلات من خلال دار نشر خاصة هى دار السويدى للنشر والتوزيع بأبوظبى، مؤسسها الشاعر محمد السويدي، ويشرف على النشر فيها الشاعر السوري نوري الجراح، وهي تتبنى مشروع ارتياد الآفاق، فتقوم بنشر سلاسل عديدة في أدب الرحلات مثل حكايات الرحالة (إعادة تحقيق ونشر رحلات الرحالة القدامى)، سلسلة السندباد الجديد (للرحلة المعاصرة) ومجلة شهرية (الرحلة) ومسابقة سنوية (مسابقة ابن بطوطة في الأدب الجغرافي).
وتعقد ندوة سنوية، عقدت أربع مرات حتى هذا العام، في المغرب والجزائر والسودان وأبوظبي، بهدف تعريف العالم بهذا الفن الأدبي الجميل، ولتوفير فرصة الاحتكاك بالثقافات الأخرى، ويدعى إلى هذه الندوة عدد كبير من المهتمين بأدب الرحلة من مختلف الجنسيات، وهي تجربة رائدة نتمنى أن نحذو حذوها في جميع بلادنا العربية.
بقلم : سلوى الحمامصي ـ أبوظبي
عضو اتحاد كتاب مصر ونادي القصة ورابطة أديبات الإمارات
واقبلوا تحياتي
ساره صالح
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني