لعلّ قصيدة البارودي في رثاء والده هي الرابط بين ملامح الرثاء في القصيدة العربية القديمة والتعبير عن فقد الأب في القصيدة الحديثة، فهو يبدأها بأسلوب يذكّرنا بنصوص الخنساء في رثاء أخيها صخر:
لا فارس اليوم يحمي السّرح بالوادي
طاح الردى بشهاب الحرب والنادي
مات الذي ترهب الأقران صولته
ويتّقي بأسه الضّرغامة العادي
لكنّنا نلاحظ تكلّفا في الصور، وتقليدا ركيكا يدفع إلى الاعتقاد أنّ الوالد المرثي فارس من فرسان الصحراء العربيّة في العصر الجاهلي؛ فهو الذي كان يحمي أنعام القبيلة، وهو قائدها الذي لا يشقّ له غبار في الحرب، ووجهها الساطع الذي لا ينازع في السّلم. فإذا ما عبّر عن فقده طغى التكلّف والتقليد على الكلمات:
هانت لميتته الدنيا وزهّدنا.
فرط الأسى بعده في الماء والزاد.
ثمّ يتابع على المنوال عينه:
هل للمكارم من يحيي مناسكها
أم للضلالة بعد اليوم من هادي؟
جفّ الندى وانقضى عمر الجدا وسرى
حكم الردى بين أرواح وأجسادِ
فلتمرح الخيل لهواً في مقاودها
ولتصدأ البيض ملقاة بأغمادِ.
فإذا ما انتقل إلى الحديث عن أثر موت أبيه في حياته وجدناه يعود إلى الواقع، ولمحناه طفلا في السابعة من عمره يفقد الأب الحامي:
مضى وخلّفني في سنّ سابعة
لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي
إذا تلفّت لم ألمح أخا ثقة
يأوي إليّ ولا يسعى لإنجادي
فالعين ليس لها من دمعها وَزَرٌ
والقلب ليس له من حزنه فادي
لكنّ تعبيره عن فقد الأب قد برته الأيام، فبين الفقد والتعبير عن الإحساس به سنوات طوال، لم تسمح لجيشان العواطف بالتسرّب إلى النصّ، فبدت المعاني فاترة بلا طعم ولا لون، كأنما الشاعر يسرد تجربة شخص آخر.
ثمّ يؤكّد أنّ فقده الأب صغيرا قد صنع منه كائنا متميّزا بين أقرانه:
فإن أكن عشت فردا بين آصرتي
فها أنا اليوم فردٌ بين أندادي
بلغت من فضل ربّي ما غنيت به
عن كلّ قارٍ من الأملاك أو بادي
فما مددت يدي إلا لمنح يدٍ
ولا سعت قدمي إلا لإسعاد
وبعد التفاتهِ إلى الفخر يتذكّر شاعرنا أنّه في موقف رثاء لكائن عزيز، فيعود لربط الحديث عن الذات بالتعبير عن صفات الأب المرثي:
تبعتُ نهج أبي فضلا ومحميةً
حتى برعت وكان الفضل للبادي
أبي ومن كأبي في الحيّ نعلمه
أوفى وأكرم في وعدٍ وإيعادِ
وإذا غضضنا الطرف عن عدم معرفة الشاعر الحقيقية بصفات الأب، الذي يقول إنّه قد مات وتركه في سنّ السابعة، فلا يمكننا إلا أن نشير إلى انقطاع المعاني الشعرية التي يطرحها عن الواقع، ناهيك عن بناء القصيدة التقليدي الذي لا يغفر له هذا الانقطاع. فإذا ما لمحنا إحساسه بالفقد في قوله نهاية القصيدة:
قد كان لي وَزَراً آوي إليه إذا
غاض المعين وجفّ الزرع بالوادي
ختم بالتقليد، وأكّد مرة جديدة أنّ قصيدته منقطعة عن العصر، بل إنها تسكن بين أنقاض التاريخ الشعري:
لا يستبدّ برأي قبل تبصرة
ولا يهمّ بأمر قبل إعداد
تراه ذا أهبة في كلّ نائبةٍ
كالليث مرتقبا صيدا بمرصادِ
أحمد شوقي
إنّ استخدام نهج القصيدة الخليلية في التعبير لا يعني الانقطاع عن الواقع، والرؤية بعين الشاعر القديم، وهذا ما تؤكّده قصيدة أحمد شوقي في رثاء أبيه، فهي أكثر تقدما من الناحية الفنية، وأكثر اقترابا من روح العصر، كما أنّها تعبّر عن عالم الشاعر، وتتضمّن تفاصيل عاشها، وتشعرنا بصدق إحساسه بالفقد.
يبدأ شوقي بالتقديم لرثائه بما يشبه المقدمة المنطقية، ومن الملاحظ أنّ العلاقات المنطقية تسيطر على كثير من مضامين هذه القصيدة:
سألوني لِمَ لم أرثِ أبي
ورثاء الأب دَينٌ أيّ دينْ
أيها اللوّام ما أظلمكم
أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ
يا أبي ما أنت في ذا أوّلٌ
كلّ نفسٍ للمنايا فرض عين
هلكت قبلك ناسٌ وقرى
ونعى الناعون خير الثقلين
فاللوّام يسألونه لِمَ لم يرثِ أباه، وهو يجيبهم: إنّ رثاء الأب واجب، لكنّ الحزن على موته لم يترك للشاعر فرصة القيام بهذا الواجب، ثم إنّ الموت سنة الحياة، حتى إنّه قد طال النبيّ الأعظم -خير الثقلين-. وبعد هذا التناول المنطقي البارد الذي لا يضيف الكثير فنّيا، يعبّر شوقي عن إحساسه بفقد الأب بمنطق أكثر حرارة وعمقا:
أنا من مات ومن مات أنا
لقي الموتَ كلانا مرّتين
نحن كنّا مهجة في بدن
ثمّ صرنا مهجة في بدنين
فالموت الذي لقيه الأب واجهه الشاعر، كيف لا وهو بعض من أبيه، يناله كلّ ما ينال منه. ثمّ يتحدث شوقي بحميميّة عن ذكرياتهما المشتركة:
ما أبي إلا أخ فارقته
ودّه صدق وودّ الناس مَيْن
طالما قمنا إلى مائدة
كانت الكسرة فيها كسرتين
وشربنا من إناء واحد
وغسلنا بعد ذا فيه اليدين
وتمشّينا يدي في يده
مَن رآنا قال عنّا أخوين
نظر الدهر إلينا نظرة
سوّت الشرّ فكانت نظرتين
فقد الشاعر صديقا مخلصا، لم يجد صدقه في غيره من الناس، وكثيرا ما شاركه تفاصيل الحياة البسيطة، حتى نظر إليهما الدهر نظرته القاسية المفرّقة التي أخذت الأب وتركت الابن في أحزانه.
ثم يسائل الشاعر أباه عن مرارة الموت الذي ذاقه، وعن ساعة يهون كلّ ما عداها:
يا أبي والموت كأس مرّة
لا تذوق النفس منها مرّتين
كيف كانت ساعة قضّيتها
كلّ شيء قبلها أو بعدُ هَيْن
أشربت الموت فيها جرعة
أم شربت الموت فيها جرعتين
فكأنما يعبّر بذلك عن مخاوفه هو من ساعة لا بدّ من قدومها، قبل أن يؤكّد فكرة أنّه بعض من أبيه:
لا تخف بعدك حزنا أو بكا
جمدت منّي ومنك اليومَ عين
أنت قد علّمتني ترك الأسى
كلّ زين منتهاه الموت شين
فإذا كانت عين أبيه قد جمدت بالموت، فإنّ عينه قد جمّدتها الرهبة والفجيعة، وكأنما الجمود الذي طال كليهما تعبير عن توحّدهما، واندماجهما، وكونهما مهجة واحدة في جسدين، لكنّ شوقي يصرّ على تفسير سبب جمود عينه وقت موت أبيه، فأبوه هو الذي علّمه الصبر على الشدائد، وبذلك يستكمل نهجه المنطقيّ الذي بدأ بهِ.
ويتجلّى الإحساس بالفقد في ختام القصيدة:
ليت شعري هل لنا أن نلتقي
مرّة أم ذا افتراق الملوين
وإذا متّ وأودعت الثّرى
أنلقّى حفرة أم حفرتين؟
فهذا الإحساس هو الذي يدفعه إلى التساؤل عن إمكان أن يلتقيا، وهو عارف باستحالة ذلك، ثمّ يجد أنّ اندماج جسديهما ممكن إذا ما لحق بأبيه في درب الموت، وأودع الثرى.
يمكن القول إن شوقي يتفوّق على البارودي، إذ يقدّم نصّا أكثر التصاقا بالحياة، وأكثر قدرة على النفاذ إلى المتلقي من ناحية التأثير الفنّي.
بشارة الخوري
يعبّر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) عن إحساسه بفقد الأب بأقدم أسلوب عرفه الكائن البشري:
وقفتُ حيال القبر ما أنا نابسٌ
بشعرٍ ولكن مقلتي تنبس الشعرا
وهل كنت عند القبر غير قصيدةٍ
بواكي قوافيها تُرى دون أن تقرا
فتى دامع العينين مضطرب الحشا
يكفكف باليمنى ويسند باليسرى
وفي عينه ما يُعجز الوصف بعضه
وفي صدره ما بعضُه يجرح الصدرا
فقد اكتفى بأن أطلق لمقلته العنان، فكانت دموعه أبلغ من الشعر، بل إنه استحال قصيدة حزينة تُرى بدل أن تُقرأ، فإذا رأيتها رأيت فتى دامع العينين، مضطرب الحشا، يكفكف دموعه باليد اليمنى، ويستند باليسرى حتى لا يقع من التأثّر، ولا يمكن وصف دموعه النازفة بتأثير الفقد الذي يجرح صدره، بل إنّ أحزانه قد كبرت، حتى إنّ بعضا منها فقط يجرح ويفتّت القلب.
إيليا أبو ماضي
أما إيليا أبو ماضي فيؤكّد أنّ نفسه قد انقسمت قسمين يوم وفاة أبيه، أولهما طواه الثرى إذ طوى أباه، وثانيهما فاض عبر الدموع، ثم يقول إنّ الردى قد ارتكب خيانة بحقّه إذ أخذ أباه، فتحطمت كلّ أحلامه وآماله بالسعادة:
طوى بعض نفسي إذ طواك الثرى عنّي
وذا بعضها الثاني يفيض بهِ جفني
أبي خانني فيك الردى فتقوّضت
مقاصير أحلامي كبيت من التبنِ
ويتجلّى الإحساس بالفقد في تتابع الصور التي تقدّمها القصيدة، والتي تعبّر عن هذا المصاب الجلل:
وكانت رياضي حالياتٍ ضواحكا
فأقوت وعفّى زهرها الجزعُ المضني
فليس سوى طعم المنيّة في فمي
وليس سوى صوت النوادب في أذني
ولا حسنٌ في ناظريّ وقلّما
فتحتهما من قبل إلا على حُسنِ
وما صور الأشياء بعدكَ غيرها
ولكنّما قد شوّهتها يدُ الحزنِ
لقد تغيّر العالم من حوله، حتى إنّه إذ ذاق مرارة الموت لا يستطيع التخلّص منها، كما إنّه لا يسمع إلا صوت النوادب، ولا يرى في الأشياء جمالها الماضي، لكنّه يبدو مدركا أنّ هذا التغيّر سببه الحزن الذي يضفي لونه الكئيب على المحيط. ثمّ إنّ ما ضاعف أحزانه بعده عن أبيه ساعة الفراق:
شخصت بروحي حائرا متطلّعا
إلى ما وراء البحر أدنو وأستدني
فَوَاها لو أنّي كنت في القوم عندما
نظرت إلى العوّاد تسألهم عنّي
فهو يشعر بكبر ذنبه، إذ إنّه بعيد عن أبيه في هذه الأيام الحرجة، ويبدو هذا الشعور في ثنايا التحسّر، وتخيّله حال أبيه يسأل العوّاد عن الابن الغائب. ثمّ إنّه يلجأ إلى وصف مدى خسارته بفقد الأب الحامي، الذي حقق له السعادة، وأعاد الأمل بعد اليأس:
أبي وإذا ما قلتها فكأنني
أنادي وأدعو يا ملاذي ويا ركني
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى
فيرجعَ ريّان المنى ضاحك السن.
منقول للفائدة
ودمتم برعاية الله
أخوكم فادي الصافي
لا فارس اليوم يحمي السّرح بالوادي
طاح الردى بشهاب الحرب والنادي
مات الذي ترهب الأقران صولته
ويتّقي بأسه الضّرغامة العادي
لكنّنا نلاحظ تكلّفا في الصور، وتقليدا ركيكا يدفع إلى الاعتقاد أنّ الوالد المرثي فارس من فرسان الصحراء العربيّة في العصر الجاهلي؛ فهو الذي كان يحمي أنعام القبيلة، وهو قائدها الذي لا يشقّ له غبار في الحرب، ووجهها الساطع الذي لا ينازع في السّلم. فإذا ما عبّر عن فقده طغى التكلّف والتقليد على الكلمات:
هانت لميتته الدنيا وزهّدنا.
فرط الأسى بعده في الماء والزاد.
ثمّ يتابع على المنوال عينه:
هل للمكارم من يحيي مناسكها
أم للضلالة بعد اليوم من هادي؟
جفّ الندى وانقضى عمر الجدا وسرى
حكم الردى بين أرواح وأجسادِ
فلتمرح الخيل لهواً في مقاودها
ولتصدأ البيض ملقاة بأغمادِ.
فإذا ما انتقل إلى الحديث عن أثر موت أبيه في حياته وجدناه يعود إلى الواقع، ولمحناه طفلا في السابعة من عمره يفقد الأب الحامي:
مضى وخلّفني في سنّ سابعة
لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي
إذا تلفّت لم ألمح أخا ثقة
يأوي إليّ ولا يسعى لإنجادي
فالعين ليس لها من دمعها وَزَرٌ
والقلب ليس له من حزنه فادي
لكنّ تعبيره عن فقد الأب قد برته الأيام، فبين الفقد والتعبير عن الإحساس به سنوات طوال، لم تسمح لجيشان العواطف بالتسرّب إلى النصّ، فبدت المعاني فاترة بلا طعم ولا لون، كأنما الشاعر يسرد تجربة شخص آخر.
ثمّ يؤكّد أنّ فقده الأب صغيرا قد صنع منه كائنا متميّزا بين أقرانه:
فإن أكن عشت فردا بين آصرتي
فها أنا اليوم فردٌ بين أندادي
بلغت من فضل ربّي ما غنيت به
عن كلّ قارٍ من الأملاك أو بادي
فما مددت يدي إلا لمنح يدٍ
ولا سعت قدمي إلا لإسعاد
وبعد التفاتهِ إلى الفخر يتذكّر شاعرنا أنّه في موقف رثاء لكائن عزيز، فيعود لربط الحديث عن الذات بالتعبير عن صفات الأب المرثي:
تبعتُ نهج أبي فضلا ومحميةً
حتى برعت وكان الفضل للبادي
أبي ومن كأبي في الحيّ نعلمه
أوفى وأكرم في وعدٍ وإيعادِ
وإذا غضضنا الطرف عن عدم معرفة الشاعر الحقيقية بصفات الأب، الذي يقول إنّه قد مات وتركه في سنّ السابعة، فلا يمكننا إلا أن نشير إلى انقطاع المعاني الشعرية التي يطرحها عن الواقع، ناهيك عن بناء القصيدة التقليدي الذي لا يغفر له هذا الانقطاع. فإذا ما لمحنا إحساسه بالفقد في قوله نهاية القصيدة:
قد كان لي وَزَراً آوي إليه إذا
غاض المعين وجفّ الزرع بالوادي
ختم بالتقليد، وأكّد مرة جديدة أنّ قصيدته منقطعة عن العصر، بل إنها تسكن بين أنقاض التاريخ الشعري:
لا يستبدّ برأي قبل تبصرة
ولا يهمّ بأمر قبل إعداد
تراه ذا أهبة في كلّ نائبةٍ
كالليث مرتقبا صيدا بمرصادِ
أحمد شوقي
إنّ استخدام نهج القصيدة الخليلية في التعبير لا يعني الانقطاع عن الواقع، والرؤية بعين الشاعر القديم، وهذا ما تؤكّده قصيدة أحمد شوقي في رثاء أبيه، فهي أكثر تقدما من الناحية الفنية، وأكثر اقترابا من روح العصر، كما أنّها تعبّر عن عالم الشاعر، وتتضمّن تفاصيل عاشها، وتشعرنا بصدق إحساسه بالفقد.
يبدأ شوقي بالتقديم لرثائه بما يشبه المقدمة المنطقية، ومن الملاحظ أنّ العلاقات المنطقية تسيطر على كثير من مضامين هذه القصيدة:
سألوني لِمَ لم أرثِ أبي
ورثاء الأب دَينٌ أيّ دينْ
أيها اللوّام ما أظلمكم
أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ
يا أبي ما أنت في ذا أوّلٌ
كلّ نفسٍ للمنايا فرض عين
هلكت قبلك ناسٌ وقرى
ونعى الناعون خير الثقلين
فاللوّام يسألونه لِمَ لم يرثِ أباه، وهو يجيبهم: إنّ رثاء الأب واجب، لكنّ الحزن على موته لم يترك للشاعر فرصة القيام بهذا الواجب، ثم إنّ الموت سنة الحياة، حتى إنّه قد طال النبيّ الأعظم -خير الثقلين-. وبعد هذا التناول المنطقي البارد الذي لا يضيف الكثير فنّيا، يعبّر شوقي عن إحساسه بفقد الأب بمنطق أكثر حرارة وعمقا:
أنا من مات ومن مات أنا
لقي الموتَ كلانا مرّتين
نحن كنّا مهجة في بدن
ثمّ صرنا مهجة في بدنين
فالموت الذي لقيه الأب واجهه الشاعر، كيف لا وهو بعض من أبيه، يناله كلّ ما ينال منه. ثمّ يتحدث شوقي بحميميّة عن ذكرياتهما المشتركة:
ما أبي إلا أخ فارقته
ودّه صدق وودّ الناس مَيْن
طالما قمنا إلى مائدة
كانت الكسرة فيها كسرتين
وشربنا من إناء واحد
وغسلنا بعد ذا فيه اليدين
وتمشّينا يدي في يده
مَن رآنا قال عنّا أخوين
نظر الدهر إلينا نظرة
سوّت الشرّ فكانت نظرتين
فقد الشاعر صديقا مخلصا، لم يجد صدقه في غيره من الناس، وكثيرا ما شاركه تفاصيل الحياة البسيطة، حتى نظر إليهما الدهر نظرته القاسية المفرّقة التي أخذت الأب وتركت الابن في أحزانه.
ثم يسائل الشاعر أباه عن مرارة الموت الذي ذاقه، وعن ساعة يهون كلّ ما عداها:
يا أبي والموت كأس مرّة
لا تذوق النفس منها مرّتين
كيف كانت ساعة قضّيتها
كلّ شيء قبلها أو بعدُ هَيْن
أشربت الموت فيها جرعة
أم شربت الموت فيها جرعتين
فكأنما يعبّر بذلك عن مخاوفه هو من ساعة لا بدّ من قدومها، قبل أن يؤكّد فكرة أنّه بعض من أبيه:
لا تخف بعدك حزنا أو بكا
جمدت منّي ومنك اليومَ عين
أنت قد علّمتني ترك الأسى
كلّ زين منتهاه الموت شين
فإذا كانت عين أبيه قد جمدت بالموت، فإنّ عينه قد جمّدتها الرهبة والفجيعة، وكأنما الجمود الذي طال كليهما تعبير عن توحّدهما، واندماجهما، وكونهما مهجة واحدة في جسدين، لكنّ شوقي يصرّ على تفسير سبب جمود عينه وقت موت أبيه، فأبوه هو الذي علّمه الصبر على الشدائد، وبذلك يستكمل نهجه المنطقيّ الذي بدأ بهِ.
ويتجلّى الإحساس بالفقد في ختام القصيدة:
ليت شعري هل لنا أن نلتقي
مرّة أم ذا افتراق الملوين
وإذا متّ وأودعت الثّرى
أنلقّى حفرة أم حفرتين؟
فهذا الإحساس هو الذي يدفعه إلى التساؤل عن إمكان أن يلتقيا، وهو عارف باستحالة ذلك، ثمّ يجد أنّ اندماج جسديهما ممكن إذا ما لحق بأبيه في درب الموت، وأودع الثرى.
يمكن القول إن شوقي يتفوّق على البارودي، إذ يقدّم نصّا أكثر التصاقا بالحياة، وأكثر قدرة على النفاذ إلى المتلقي من ناحية التأثير الفنّي.
بشارة الخوري
يعبّر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) عن إحساسه بفقد الأب بأقدم أسلوب عرفه الكائن البشري:
وقفتُ حيال القبر ما أنا نابسٌ
بشعرٍ ولكن مقلتي تنبس الشعرا
وهل كنت عند القبر غير قصيدةٍ
بواكي قوافيها تُرى دون أن تقرا
فتى دامع العينين مضطرب الحشا
يكفكف باليمنى ويسند باليسرى
وفي عينه ما يُعجز الوصف بعضه
وفي صدره ما بعضُه يجرح الصدرا
فقد اكتفى بأن أطلق لمقلته العنان، فكانت دموعه أبلغ من الشعر، بل إنه استحال قصيدة حزينة تُرى بدل أن تُقرأ، فإذا رأيتها رأيت فتى دامع العينين، مضطرب الحشا، يكفكف دموعه باليد اليمنى، ويستند باليسرى حتى لا يقع من التأثّر، ولا يمكن وصف دموعه النازفة بتأثير الفقد الذي يجرح صدره، بل إنّ أحزانه قد كبرت، حتى إنّ بعضا منها فقط يجرح ويفتّت القلب.
إيليا أبو ماضي
أما إيليا أبو ماضي فيؤكّد أنّ نفسه قد انقسمت قسمين يوم وفاة أبيه، أولهما طواه الثرى إذ طوى أباه، وثانيهما فاض عبر الدموع، ثم يقول إنّ الردى قد ارتكب خيانة بحقّه إذ أخذ أباه، فتحطمت كلّ أحلامه وآماله بالسعادة:
طوى بعض نفسي إذ طواك الثرى عنّي
وذا بعضها الثاني يفيض بهِ جفني
أبي خانني فيك الردى فتقوّضت
مقاصير أحلامي كبيت من التبنِ
ويتجلّى الإحساس بالفقد في تتابع الصور التي تقدّمها القصيدة، والتي تعبّر عن هذا المصاب الجلل:
وكانت رياضي حالياتٍ ضواحكا
فأقوت وعفّى زهرها الجزعُ المضني
فليس سوى طعم المنيّة في فمي
وليس سوى صوت النوادب في أذني
ولا حسنٌ في ناظريّ وقلّما
فتحتهما من قبل إلا على حُسنِ
وما صور الأشياء بعدكَ غيرها
ولكنّما قد شوّهتها يدُ الحزنِ
لقد تغيّر العالم من حوله، حتى إنّه إذ ذاق مرارة الموت لا يستطيع التخلّص منها، كما إنّه لا يسمع إلا صوت النوادب، ولا يرى في الأشياء جمالها الماضي، لكنّه يبدو مدركا أنّ هذا التغيّر سببه الحزن الذي يضفي لونه الكئيب على المحيط. ثمّ إنّ ما ضاعف أحزانه بعده عن أبيه ساعة الفراق:
شخصت بروحي حائرا متطلّعا
إلى ما وراء البحر أدنو وأستدني
فَوَاها لو أنّي كنت في القوم عندما
نظرت إلى العوّاد تسألهم عنّي
فهو يشعر بكبر ذنبه، إذ إنّه بعيد عن أبيه في هذه الأيام الحرجة، ويبدو هذا الشعور في ثنايا التحسّر، وتخيّله حال أبيه يسأل العوّاد عن الابن الغائب. ثمّ إنّه يلجأ إلى وصف مدى خسارته بفقد الأب الحامي، الذي حقق له السعادة، وأعاد الأمل بعد اليأس:
أبي وإذا ما قلتها فكأنني
أنادي وأدعو يا ملاذي ويا ركني
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى
فيرجعَ ريّان المنى ضاحك السن.
منقول للفائدة
ودمتم برعاية الله
أخوكم فادي الصافي
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني