لقد أتحفنا الغرب طيلة أعوام بتبشيرنا بالشّرق الأوسط الجديد . ونحن
طبعاً لم نكلّف أنفسنا وكالعادة بالبحث عن معالم هذا الشرق الأوسط
الجديد . نعم ، نسمع التّحليلات في الإعلام ونقراها في الجّرائد ، وننبهر
أمام عبقريّة زعمائنا وسياسيّنا وأمام شدّة ذكائهم في التّحليل
السّياسيّ . وليست هذه التّحليلات سوى جرعات تخدير تقدّم لنا مع أطباق
الموضة ، والأبراج ، والسّطحيات ، الجرعة تلو الجرعة .
لا أريد أن ألوم الحكّام والسّياسيّن ، لأنّهم لم يُرسلوا إلينا من
المرّيخ ، بل هم أفراد خرجوا من مجتمعاتنا . من يبني الأوطان ليس
الحاكم ، بل الشّعوب هي الّتي تبني الأوطان .
شعوبنا وللأسف الشّديد ، منغمسة في الفكر القبليّ . ولا نتمتّع بعدُ
باحترام العائلة الوطنيّة ، الّتي تتألّف من مواطنين متساوين ، وليس من
مجموعات دينيّة أو حزبيّة منغلقة على نفسها ، تكوّن دويلات في قلب
الدّولة الواحدة . كما أنّنا لسنا مستعدّين بعد وربما غير مقتنعين
بالخروج من الفكر القبليّ ، والدّينيّ . وإذا خرج أحدهم واقترح علينا
ذلك ، ننعته بالكفر والإلحاد ، وتنصبّ عليه اللّعنات …
وهذا الفكر المستعبد بالمذهبيّة والطّائفيّة والانتماء إلى الجماعة ،
شكّل أرضاً صلبة تُمارس عليها شتّى أنواع الحروب ، من فكرية ونفسية
وأخلاقيّة. وهذه الحروب لهي أشدّ خطراً من حروب أسلحة الدّمار الشّامل ،
إذ إنّها تزرع الكره والحقد في الجينات . وعندها سيتكوّن الوطن من عبيد
ينتظرون الأوامر والتّعليمات ويخشون الانتقاد والتعبير عمّا يخالجهم من
قلق واضّطراب.
وما إن يأتي صوت من الخارج ليوقظهم ، يحملون أسواطهم وينهالون على بعضهم
البعض بحجّة الحقوق والحرّيّات. هم فعلاً يريدون الحرّيّة ، ولهم كلّ
الحقّ في ذلك ، ولكنّ التّمرّس والتّربية على الحرّيّة شيء أساسيّ .
وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا . نحن نتربّى على الإنغلاق ، وعلى أنّ الآخر
عدوّ. ومتى تربّينا كذلك ، سيتكوّن في داخلنا رغبة ملحّة بالدّفاع عن
النّفس . ونبني حصوناً نسجن فيها أنفسنا خوفاً من الآخر، كما نبتعد عنه
قدر الإمكان ، ولا نحاول التّعرّف عليه . وكيف نحبّ الآخر إذا لم نتعرّف
عليه ؟
وأسوء العبوديّات هي العبوديّات الدّينيّة ، ولا أقول الإيمانيّة ، ولا
أتّهم أيّ من الأديان بشيء . وإنّما بدل أن يكون الدّين وسيلة في خدمة
الإنسان ، حعلنا منه منظومة لقمع الآخر والاستبداد به . إمّا أن يلتزم
بما نحن مقتنعون به ، وإمّا هو عدوّ وعلينا محاربته كشكل من أشكال
الاحتلال .
إنّ الغرب لم يتقدّم ولم ينجز أهم ما أنجزه إلّا عندما خلع ثوب الدّين ،
وجعل من الفرد قيمة إنسانيّة لا دينيّة. أن نخلع ثوب الدّين لا يعني أن
نلحد ، أو أن نتخلّى عن أدياننا ، بل يعني أن نمارس مواطنيّتنا ، باحترام
الآخر كشخص ، كفرد مساوٍ لنا في الواجبات والحقوق . كلّ فرد حرّ بوسيلة
تعبيره عن إيمانه ، ولكن على الكلّ أن يخضع لقانون واحد يساوي بين
الجميع . والمنطق يفترض أن تكون صياغة القانون بتعاون أفراد الوطن وليس
أن تتفرّد جماعة معيّنة بذلك . كما المنطق يفترض أن يكون القانون
إنسانيّاً لا إلهيّاً . بمعنى أنّ القوانين تصاغ من خلال التّركيبات
والحاجات الاجتماعيّة. والحاجات تتغيّر وتبدّل ، وتختلف من واقع إلى
آخر . أمّا الكلمة الإلهيّة والّتي هي بخدمة الإنسان لا يمكن أن تشكل
قانوناً واحداً يفرض على الجميع . وذلك لأنّ لكلّ مجتمع نضجه وطريقة
تفكيره ، وقدرة معيّنة على استيعاب الكلمة الإلهيّة . الكلمة الإلهيّة
ترافق الإنسان وتساعده على النّموّ لتحقيق ذاته . كما أنّها تترك له
الحرّيّة في تنظيم حياته وفق احتياجاته ، ومدى نضجه الفكريّ والنّفسيّ
والمعنويّ . وإن تحوّلت الكلمة الإلهيّة إلى قانون لبناء دولة ، فهي
وليغفر لي الله ، ستتحوّل إلى آداة قمع فكريّ وإنسانيّ . فكلّ منّا يعبّر
عن علاقته بالله بطريقته ، ويتفاعل معه بطريقته، فكيف لي أن أفرض وسيلتي
في التعبير على الآخر ، في حين انّني لا أقبل وسيلة تعبيره . وإن كانت
الكلمة الإلهيّة قانوناً ، فكيف نتعامل مع من لا يؤمنون بها؟ وهم لهم كلّ
الحقّ في التّعبير عن ذلك ، ومن حقّهم أن يبحثوا عن الحقيقة بطريقتهم .
ما فعله الغرب هو أنّه فصل الدّين عن الدّولة ، فشؤون الدّول تدار
بالقوانين والدّساتير وليس باستثار المشاعر . على الرغم من أنّ الاديان
هي منظومات إجتماعيّة ووجدت لتشكّل طريقة عيش سليمة للإنسان ، إلّا أنّنا
حوّلناها إلى نقمة علينا وعلى الآخر . وكنّا سبباً مباشراً في تخلّي
الكثيرين عن أديانهم وعن الله .
والإنجاز الأكبر الّذي حقّقه الغرب هو أنّه درس تركيبتنا الفكريّة
والنّفسيّة جيّداً . كما استغلّ انغلاقنا الفكريّ ، وغذّاه بخلق جماعات
متشدّدة ودرّبها بشكل ممتاز ، بحيث أنّ هذه الجماعات بات أفرادها مقتنعون
تماماً بأنّهم يدافعون عن عقيدة أو عن فكر ، كما أنّهم مقتنعون بأنّ
وجودهم هو الأساس ، وهم وحدهم أسياد العالم والخارج عنهم غير مرغوب
بوجوده .
وكلامي ليس عبثيّاً أو نظريّاً فأنا اختبرت الحوار مع هذه الجماعات ،
وأدركت مدى محدوديّتهم في التّفكير ، وعدم قدرتهم على المناقشة العميقة ،
واختبرت تركيبتهم النّفسيّة والأيديولوجيّة . إنّ تعلّقهم بما يؤمنون به
نابع عن غسلٍ للدّماغ وتحريف لما حفظوه أبّاً عن جد ، دون الأخذ بعين
الاعتبار أنّهم وسط مجتمعات تتألّف من أفراد يخالفونهم في وجهات النّظر ،
وفي الإيمان وفي طرح الفكر. هم ذئاب خاطفة للفكر الحرّ ، يدّعون الوداعة
وقلوبهم لا تعكس إلّا الحقد . يعرفون كيف يستغلّون النّقوس الضّعيفة ،
والعقول البسيطة . ومتى غالبتهم ، انقلبوا عليك وتفجّرت من أعماقهم كلّ
الكراهية. وما أقوله ليس بعيداً عمّا نراه في الفكر اليهوديّ . وتأثيره
عليهم واضح جدّاً . فالفكر اليهوديّ كان وما زال حتّى يومنا ولعلّه سيبقى
عنصريّاً متعصّباً . لا يقبل إلّا أفراد جماعته ، والخارج عنه حيوان خلقه
الله لخدمته.
هذه الجماعات المتشدّدة ، أيّاً كانت ، وإلى أيّ دين انتمت ، هي بذور
الشرق الأوسط الجديد ، الّذي بدأنا نرى ملامحه اليوم . والإعلام المرئيّ
والمسموع والمقروء سخّر لهذه الجماعات قنوات فضائيّة وصحفاً وإذاعاتٍ،
تعبث بالفكر الإنسانيّ والدّينيّ ، وتمهّد لحرب بين الإخوة في الوطن
الواحد . فتحوّل الكلام عن الله إلى سلعة بين أيادي الجهل وفي عقول
متخلّفة ، شوّهت كلّ ما أتت به الأديان من حبّ وتسامح ورقيّ. ونراهم في
الثّورات يتعانقون ويتحابّون ، والهلال يعانق الصّليب ، مع أنّ الهلال لا
يعترف بالصّليب ولا الصّليب يعترف بالهلال. لقد هدم تعصّبهم كلّ ما هو
جميل في الأديان وسحق حضارتها ورسالتها السّامية. فكاهن من هنا يحرّض على
إهانة الإسلام ، وشيخ من هناك يستشرس على المسيحية. وهذا يكفّر ذاك ،
وذاك يشتم ذلك… هؤلاء من يجب محاكمتهم ، لأنّهم يهينون الإنسانيّة
ويدمّرونها .
ونحن … نحن الشّعوب الّتي تدّعي الفكر الحرّ والحضارة الفكريّة ، نسير
خلفهم كقطيع غنم ، ونسمح لهم بتحريك غرائزنا ، واستعباد عقولنا .
ويحنا !! ونطالب بالحرّيّات ، وحقوقنا الإنسانيّة ونحن لا نحترم إنسانيّة
بعضنا البعض . ونلتقط أحاديث مقتطعة من هنا وهناك ونسارع للتعليق عليها ،
والرّدّ بعنف مقيت يهين إنسانيّة الإنسان. ونضيّع وقتنا بالبحث عن أخبار
وفيديوهات تستفزّ مشاعر الآخر وتثير غضبه .
إحترموا بعضكم البعض ليحترمكم النّاس . وليس لأحد أن يحكم على أحد إذا ما
كان صائباً أو مخطئاً إلّا إذا توفّر قانون واحد يخضع له الجميع .
إحترموا أديان بعضكم ، فحتّى ذلك الّذي يعبد البقرة وجب عليّ احترام
البقرة الّتي يعبدها .والسّماح له بالدّفاع عنها .
ألشّرق الأوسط الجديد ، ديموقراطية الجهل !! فالجهل طفح على وجه
المجتمعات العربية وخنق الأفكار الحرّة الّتي تصارع بكلّ قواها لتطور
أوطانها . ألجهل الّذي حوّل أرض الوطن إلى مستنقعات دماء ، وجثث هنا
وهناك تستصرخ الرّحمة . حوّل الأوطان إلى ساحات اقتتال للإخوة بحجّة
المطالبة بالحرّيّات .
هذا هو الشرق الأوسط الجديد . المطالبة بالحرية الشّخصية على حساب
الآخر ، والاقتتال المذهبي والطّائفيّ. وكلّ يريد ما هو لنفسه، والكل
يسمح لغرائزه ان تسيطر عليه . والمضحك المبكي أنّ من يطالب بالحرّيّات هو
نفسه من يقمع حرّيّة الآخر . هذا الشّرق الّذي قدّم للعالم أرقى
الحضارات ، يغرق الآن في مستنقعات الجهل والتّطرّف . لو استفاقت الحضارات
العظيمة من الحضارة البابليّة إلى الفرعونيّة إلى الفينيقيّة … لبكت
علينا وعلى ما سبّبناه من تشويه لها .
إنّه وللأسف ، ومع احترامي لكلّ الثّورات ، ولا أستهين بأحد ، ولا أقلّل
من شأن أحد ، وعلى القارئ الكريم أن يتقبّل رأيي ، إذا كان من أصحاب
العقول النّيّرة . ولكنّ من نتائج هذه الثّورات أنّها أظهرت مدى جهلنا
في ممارسة الحرّيّة . كما أظهرت مدى بغضنا لأوطاننا ولبعضنا البعض . فمن
يحرق ممتلكات غيره بحجة المطالبة بحقه فهو لا يحبّ وطنه . ومن يحتمي
بنظام ليقمع الآخر ، لا يحبّ وطنه . ومن يستهين بالأحرار الّذين يقدّمون
الغالي والرّخيص من فكرهم وحياتهم ، يدمّر الوطن . ومن يستفزّ مشاعر
النّاس باسم الدّين ويحوّلهم إلى غرائز متحرّكة ، يحفر قبراً عميقاً يدفن
فيه إنسانيّة الإنسان.
والمصيبة الآتية ، ” ألإنتخابات “ ، الّتي يوهمون بها الشّعوب ، بأنّها
ستكون حرّة ونزيهة وأنّها خلاصهم . وماذا فعلت الانتخابات في العراق ،
وماذا تَغيَّر فيها ؟ لقد تشتّت العراقيّون هنا وهناك . ومن بقي يعاني
الأمرّين من الفقر وعدم الأمان والاستقرار . ولن نتكلّم الآن عن نتائج
هذا الوضع وما ينتجه من تأثيرات سلبيّة على جيل كامل . هذا الجيل الّذي
سيكون لاحقاً حقلاً غنيّاً ، خصباً لشرق أوسط جديد آخر.
ألإنتخابات لها أصول ، ومعايير ، وإذا كنّا لا نفقه شيئاً في الحرّيّة
واحترام الآخر ، فنحن لا نفقه شيئاً في أصول الانتخابات . ولم الغرب
يهتمّ كثيراً بنا وبانتخاباتنا ؟ ولِمَ يهتمّ أصلاً بأنظمتنا القامعة
والمتغطرسة. أَوَلَم يمارس هذا الغرب أشدّ وأعنف قمع للحرّيّات واضطهاد
لإنسانيّة الإنسان ؟ أولم نسمح لهم بالسّيطرة على أموالنا وممتلكاتنا
وإعلامنا ؟
أفيقوا من غفوتكم الطّويلة ، أخرجوا من كهوفكم المظلمة وابحثوا عن
الأحرار في أوطانكم ، وآزروهم. استنيروا بالمحبّة واسعوا للمصالحة قبل أن
تلتهمكم نار البغض والحقد . تخلوا عن القطيع ، وعيشوا كأفراد في
المجتمع الواحد ، يتآلفون ، ويحترمون بعضهم البعض ، ليحترمكم العالم .
أهربوا ممن يحرّضونكم على بعضكم البعض ، حتّى ولو كانوا كهنة وشيوخاً .
فرجل الدّين الّذي يسمح لنفسه أن يحرّض الأخ على أخاه باسم الله ، فلهو
شيطان يظهر لكم كملاك من نور .
تحيّة إجلال واحترام إلى ما تبقّى من أحرار في أوطاننا وإلى كلّ الحكماء
الّذين يصمتون أمام المصائب ، ليحكّموا عقولهم ويقمعوا غرائزهم . إلى ما
تبقى ممّن يحترمون إنسانيّة الإنسان ، ولا يهتمّون لعرق ودين ولون .
هؤلاء البقيّة الباقية هم مَن نعوّل عليهم ، ونضع كلّ آمالنا بين
أيديهم . فبهم وحدهم ستبنى أوطاننا
طبعاً لم نكلّف أنفسنا وكالعادة بالبحث عن معالم هذا الشرق الأوسط
الجديد . نعم ، نسمع التّحليلات في الإعلام ونقراها في الجّرائد ، وننبهر
أمام عبقريّة زعمائنا وسياسيّنا وأمام شدّة ذكائهم في التّحليل
السّياسيّ . وليست هذه التّحليلات سوى جرعات تخدير تقدّم لنا مع أطباق
الموضة ، والأبراج ، والسّطحيات ، الجرعة تلو الجرعة .
لا أريد أن ألوم الحكّام والسّياسيّن ، لأنّهم لم يُرسلوا إلينا من
المرّيخ ، بل هم أفراد خرجوا من مجتمعاتنا . من يبني الأوطان ليس
الحاكم ، بل الشّعوب هي الّتي تبني الأوطان .
شعوبنا وللأسف الشّديد ، منغمسة في الفكر القبليّ . ولا نتمتّع بعدُ
باحترام العائلة الوطنيّة ، الّتي تتألّف من مواطنين متساوين ، وليس من
مجموعات دينيّة أو حزبيّة منغلقة على نفسها ، تكوّن دويلات في قلب
الدّولة الواحدة . كما أنّنا لسنا مستعدّين بعد وربما غير مقتنعين
بالخروج من الفكر القبليّ ، والدّينيّ . وإذا خرج أحدهم واقترح علينا
ذلك ، ننعته بالكفر والإلحاد ، وتنصبّ عليه اللّعنات …
وهذا الفكر المستعبد بالمذهبيّة والطّائفيّة والانتماء إلى الجماعة ،
شكّل أرضاً صلبة تُمارس عليها شتّى أنواع الحروب ، من فكرية ونفسية
وأخلاقيّة. وهذه الحروب لهي أشدّ خطراً من حروب أسلحة الدّمار الشّامل ،
إذ إنّها تزرع الكره والحقد في الجينات . وعندها سيتكوّن الوطن من عبيد
ينتظرون الأوامر والتّعليمات ويخشون الانتقاد والتعبير عمّا يخالجهم من
قلق واضّطراب.
وما إن يأتي صوت من الخارج ليوقظهم ، يحملون أسواطهم وينهالون على بعضهم
البعض بحجّة الحقوق والحرّيّات. هم فعلاً يريدون الحرّيّة ، ولهم كلّ
الحقّ في ذلك ، ولكنّ التّمرّس والتّربية على الحرّيّة شيء أساسيّ .
وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا . نحن نتربّى على الإنغلاق ، وعلى أنّ الآخر
عدوّ. ومتى تربّينا كذلك ، سيتكوّن في داخلنا رغبة ملحّة بالدّفاع عن
النّفس . ونبني حصوناً نسجن فيها أنفسنا خوفاً من الآخر، كما نبتعد عنه
قدر الإمكان ، ولا نحاول التّعرّف عليه . وكيف نحبّ الآخر إذا لم نتعرّف
عليه ؟
وأسوء العبوديّات هي العبوديّات الدّينيّة ، ولا أقول الإيمانيّة ، ولا
أتّهم أيّ من الأديان بشيء . وإنّما بدل أن يكون الدّين وسيلة في خدمة
الإنسان ، حعلنا منه منظومة لقمع الآخر والاستبداد به . إمّا أن يلتزم
بما نحن مقتنعون به ، وإمّا هو عدوّ وعلينا محاربته كشكل من أشكال
الاحتلال .
إنّ الغرب لم يتقدّم ولم ينجز أهم ما أنجزه إلّا عندما خلع ثوب الدّين ،
وجعل من الفرد قيمة إنسانيّة لا دينيّة. أن نخلع ثوب الدّين لا يعني أن
نلحد ، أو أن نتخلّى عن أدياننا ، بل يعني أن نمارس مواطنيّتنا ، باحترام
الآخر كشخص ، كفرد مساوٍ لنا في الواجبات والحقوق . كلّ فرد حرّ بوسيلة
تعبيره عن إيمانه ، ولكن على الكلّ أن يخضع لقانون واحد يساوي بين
الجميع . والمنطق يفترض أن تكون صياغة القانون بتعاون أفراد الوطن وليس
أن تتفرّد جماعة معيّنة بذلك . كما المنطق يفترض أن يكون القانون
إنسانيّاً لا إلهيّاً . بمعنى أنّ القوانين تصاغ من خلال التّركيبات
والحاجات الاجتماعيّة. والحاجات تتغيّر وتبدّل ، وتختلف من واقع إلى
آخر . أمّا الكلمة الإلهيّة والّتي هي بخدمة الإنسان لا يمكن أن تشكل
قانوناً واحداً يفرض على الجميع . وذلك لأنّ لكلّ مجتمع نضجه وطريقة
تفكيره ، وقدرة معيّنة على استيعاب الكلمة الإلهيّة . الكلمة الإلهيّة
ترافق الإنسان وتساعده على النّموّ لتحقيق ذاته . كما أنّها تترك له
الحرّيّة في تنظيم حياته وفق احتياجاته ، ومدى نضجه الفكريّ والنّفسيّ
والمعنويّ . وإن تحوّلت الكلمة الإلهيّة إلى قانون لبناء دولة ، فهي
وليغفر لي الله ، ستتحوّل إلى آداة قمع فكريّ وإنسانيّ . فكلّ منّا يعبّر
عن علاقته بالله بطريقته ، ويتفاعل معه بطريقته، فكيف لي أن أفرض وسيلتي
في التعبير على الآخر ، في حين انّني لا أقبل وسيلة تعبيره . وإن كانت
الكلمة الإلهيّة قانوناً ، فكيف نتعامل مع من لا يؤمنون بها؟ وهم لهم كلّ
الحقّ في التّعبير عن ذلك ، ومن حقّهم أن يبحثوا عن الحقيقة بطريقتهم .
ما فعله الغرب هو أنّه فصل الدّين عن الدّولة ، فشؤون الدّول تدار
بالقوانين والدّساتير وليس باستثار المشاعر . على الرغم من أنّ الاديان
هي منظومات إجتماعيّة ووجدت لتشكّل طريقة عيش سليمة للإنسان ، إلّا أنّنا
حوّلناها إلى نقمة علينا وعلى الآخر . وكنّا سبباً مباشراً في تخلّي
الكثيرين عن أديانهم وعن الله .
والإنجاز الأكبر الّذي حقّقه الغرب هو أنّه درس تركيبتنا الفكريّة
والنّفسيّة جيّداً . كما استغلّ انغلاقنا الفكريّ ، وغذّاه بخلق جماعات
متشدّدة ودرّبها بشكل ممتاز ، بحيث أنّ هذه الجماعات بات أفرادها مقتنعون
تماماً بأنّهم يدافعون عن عقيدة أو عن فكر ، كما أنّهم مقتنعون بأنّ
وجودهم هو الأساس ، وهم وحدهم أسياد العالم والخارج عنهم غير مرغوب
بوجوده .
وكلامي ليس عبثيّاً أو نظريّاً فأنا اختبرت الحوار مع هذه الجماعات ،
وأدركت مدى محدوديّتهم في التّفكير ، وعدم قدرتهم على المناقشة العميقة ،
واختبرت تركيبتهم النّفسيّة والأيديولوجيّة . إنّ تعلّقهم بما يؤمنون به
نابع عن غسلٍ للدّماغ وتحريف لما حفظوه أبّاً عن جد ، دون الأخذ بعين
الاعتبار أنّهم وسط مجتمعات تتألّف من أفراد يخالفونهم في وجهات النّظر ،
وفي الإيمان وفي طرح الفكر. هم ذئاب خاطفة للفكر الحرّ ، يدّعون الوداعة
وقلوبهم لا تعكس إلّا الحقد . يعرفون كيف يستغلّون النّقوس الضّعيفة ،
والعقول البسيطة . ومتى غالبتهم ، انقلبوا عليك وتفجّرت من أعماقهم كلّ
الكراهية. وما أقوله ليس بعيداً عمّا نراه في الفكر اليهوديّ . وتأثيره
عليهم واضح جدّاً . فالفكر اليهوديّ كان وما زال حتّى يومنا ولعلّه سيبقى
عنصريّاً متعصّباً . لا يقبل إلّا أفراد جماعته ، والخارج عنه حيوان خلقه
الله لخدمته.
هذه الجماعات المتشدّدة ، أيّاً كانت ، وإلى أيّ دين انتمت ، هي بذور
الشرق الأوسط الجديد ، الّذي بدأنا نرى ملامحه اليوم . والإعلام المرئيّ
والمسموع والمقروء سخّر لهذه الجماعات قنوات فضائيّة وصحفاً وإذاعاتٍ،
تعبث بالفكر الإنسانيّ والدّينيّ ، وتمهّد لحرب بين الإخوة في الوطن
الواحد . فتحوّل الكلام عن الله إلى سلعة بين أيادي الجهل وفي عقول
متخلّفة ، شوّهت كلّ ما أتت به الأديان من حبّ وتسامح ورقيّ. ونراهم في
الثّورات يتعانقون ويتحابّون ، والهلال يعانق الصّليب ، مع أنّ الهلال لا
يعترف بالصّليب ولا الصّليب يعترف بالهلال. لقد هدم تعصّبهم كلّ ما هو
جميل في الأديان وسحق حضارتها ورسالتها السّامية. فكاهن من هنا يحرّض على
إهانة الإسلام ، وشيخ من هناك يستشرس على المسيحية. وهذا يكفّر ذاك ،
وذاك يشتم ذلك… هؤلاء من يجب محاكمتهم ، لأنّهم يهينون الإنسانيّة
ويدمّرونها .
ونحن … نحن الشّعوب الّتي تدّعي الفكر الحرّ والحضارة الفكريّة ، نسير
خلفهم كقطيع غنم ، ونسمح لهم بتحريك غرائزنا ، واستعباد عقولنا .
ويحنا !! ونطالب بالحرّيّات ، وحقوقنا الإنسانيّة ونحن لا نحترم إنسانيّة
بعضنا البعض . ونلتقط أحاديث مقتطعة من هنا وهناك ونسارع للتعليق عليها ،
والرّدّ بعنف مقيت يهين إنسانيّة الإنسان. ونضيّع وقتنا بالبحث عن أخبار
وفيديوهات تستفزّ مشاعر الآخر وتثير غضبه .
إحترموا بعضكم البعض ليحترمكم النّاس . وليس لأحد أن يحكم على أحد إذا ما
كان صائباً أو مخطئاً إلّا إذا توفّر قانون واحد يخضع له الجميع .
إحترموا أديان بعضكم ، فحتّى ذلك الّذي يعبد البقرة وجب عليّ احترام
البقرة الّتي يعبدها .والسّماح له بالدّفاع عنها .
ألشّرق الأوسط الجديد ، ديموقراطية الجهل !! فالجهل طفح على وجه
المجتمعات العربية وخنق الأفكار الحرّة الّتي تصارع بكلّ قواها لتطور
أوطانها . ألجهل الّذي حوّل أرض الوطن إلى مستنقعات دماء ، وجثث هنا
وهناك تستصرخ الرّحمة . حوّل الأوطان إلى ساحات اقتتال للإخوة بحجّة
المطالبة بالحرّيّات .
هذا هو الشرق الأوسط الجديد . المطالبة بالحرية الشّخصية على حساب
الآخر ، والاقتتال المذهبي والطّائفيّ. وكلّ يريد ما هو لنفسه، والكل
يسمح لغرائزه ان تسيطر عليه . والمضحك المبكي أنّ من يطالب بالحرّيّات هو
نفسه من يقمع حرّيّة الآخر . هذا الشّرق الّذي قدّم للعالم أرقى
الحضارات ، يغرق الآن في مستنقعات الجهل والتّطرّف . لو استفاقت الحضارات
العظيمة من الحضارة البابليّة إلى الفرعونيّة إلى الفينيقيّة … لبكت
علينا وعلى ما سبّبناه من تشويه لها .
إنّه وللأسف ، ومع احترامي لكلّ الثّورات ، ولا أستهين بأحد ، ولا أقلّل
من شأن أحد ، وعلى القارئ الكريم أن يتقبّل رأيي ، إذا كان من أصحاب
العقول النّيّرة . ولكنّ من نتائج هذه الثّورات أنّها أظهرت مدى جهلنا
في ممارسة الحرّيّة . كما أظهرت مدى بغضنا لأوطاننا ولبعضنا البعض . فمن
يحرق ممتلكات غيره بحجة المطالبة بحقه فهو لا يحبّ وطنه . ومن يحتمي
بنظام ليقمع الآخر ، لا يحبّ وطنه . ومن يستهين بالأحرار الّذين يقدّمون
الغالي والرّخيص من فكرهم وحياتهم ، يدمّر الوطن . ومن يستفزّ مشاعر
النّاس باسم الدّين ويحوّلهم إلى غرائز متحرّكة ، يحفر قبراً عميقاً يدفن
فيه إنسانيّة الإنسان.
والمصيبة الآتية ، ” ألإنتخابات “ ، الّتي يوهمون بها الشّعوب ، بأنّها
ستكون حرّة ونزيهة وأنّها خلاصهم . وماذا فعلت الانتخابات في العراق ،
وماذا تَغيَّر فيها ؟ لقد تشتّت العراقيّون هنا وهناك . ومن بقي يعاني
الأمرّين من الفقر وعدم الأمان والاستقرار . ولن نتكلّم الآن عن نتائج
هذا الوضع وما ينتجه من تأثيرات سلبيّة على جيل كامل . هذا الجيل الّذي
سيكون لاحقاً حقلاً غنيّاً ، خصباً لشرق أوسط جديد آخر.
ألإنتخابات لها أصول ، ومعايير ، وإذا كنّا لا نفقه شيئاً في الحرّيّة
واحترام الآخر ، فنحن لا نفقه شيئاً في أصول الانتخابات . ولم الغرب
يهتمّ كثيراً بنا وبانتخاباتنا ؟ ولِمَ يهتمّ أصلاً بأنظمتنا القامعة
والمتغطرسة. أَوَلَم يمارس هذا الغرب أشدّ وأعنف قمع للحرّيّات واضطهاد
لإنسانيّة الإنسان ؟ أولم نسمح لهم بالسّيطرة على أموالنا وممتلكاتنا
وإعلامنا ؟
أفيقوا من غفوتكم الطّويلة ، أخرجوا من كهوفكم المظلمة وابحثوا عن
الأحرار في أوطانكم ، وآزروهم. استنيروا بالمحبّة واسعوا للمصالحة قبل أن
تلتهمكم نار البغض والحقد . تخلوا عن القطيع ، وعيشوا كأفراد في
المجتمع الواحد ، يتآلفون ، ويحترمون بعضهم البعض ، ليحترمكم العالم .
أهربوا ممن يحرّضونكم على بعضكم البعض ، حتّى ولو كانوا كهنة وشيوخاً .
فرجل الدّين الّذي يسمح لنفسه أن يحرّض الأخ على أخاه باسم الله ، فلهو
شيطان يظهر لكم كملاك من نور .
تحيّة إجلال واحترام إلى ما تبقّى من أحرار في أوطاننا وإلى كلّ الحكماء
الّذين يصمتون أمام المصائب ، ليحكّموا عقولهم ويقمعوا غرائزهم . إلى ما
تبقى ممّن يحترمون إنسانيّة الإنسان ، ولا يهتمّون لعرق ودين ولون .
هؤلاء البقيّة الباقية هم مَن نعوّل عليهم ، ونضع كلّ آمالنا بين
أيديهم . فبهم وحدهم ستبنى أوطاننا
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني