صاحب الثلاثاء السعيد
استيقظ سعيد من نومه مردداً - 15730-
وهذا , يا سادتي , ليس رقم هاتفه ولا رصيده من الدولارات , وبالتأكيد هو ليس رقم عقار أو لوحة سيارة.
فسعيد لا يملك في هذه الدنيا سوى بضعة مبادئ , وحذاء بال , وزوجة ( لها أسنان تؤهلها بجدارة للعب دور البطولة في فيلم رعب ) , وكتبٌ يهرب إليها كلما ذكرته الحياة بأنه منقوص الرجولة , وثلاثة أطفال كانوا ملائكة قبل أن يحولهم الفقر إلى مصاصي دماء .
ما سر هذا الرقم الذي حلم به سعيد؟ ولماذا كان على خلاف كوابيسه شديد الوضوح؟
توقف عن التفكير بذلك عندما وقفت أمامه زوجته (( مبتسمة)) قائلة: صباح الخير يا زوجي السعيد.
بادلها التحية بابتسامة صفراء قائلا ً في سره: أي خير سيأتي في صباح أنت أوله.
أشعل سيجارة , ذات رائحة بشعة , لكنها بالتأكيد أفضل من رائحة فمه النتنة , ثم ارتدى بدلته المشهورة , فهو يرتديها منذ أن تعرفت عليه حين كان اللحام يطالبه بسداد الدين...
خرج من منزله مطأطئ الرأس, متجهم الوجه, خائر العزيمة ,
استقل سيارة أجرة وجلس في أقرب مقعد شاغر, فهو يرتبك في الأماكن التي يجبر فيها على الاقتراب كثيراً من الناس لظنه أن الجميع سيراقبون تصرفاته.
جلس منتصب الكتفين وحل زر بدلته وراح يوزع النظرات هنا وهناك ليتأكد أن لا أحد يراقبه.
هو لا يحب المشي, لكن كان عليه أن يمشي لخمس دقائق يومياً بعد أن يترجل من الحافلة في أقرب محطة إلى مكان عمله .
راح يمشي ويفكر بزملائه في العمل, فهو يكرههم جميعاً.
زوجته تحذره بأنه قد يموت غيظاً لفرط ما يحسد الآخرين على ما هم عليه, لكنه دائماً مصرٌ أنه رجل مبدئي ولن يبيع نفسه للشيطان كي يصير مثلهم.
صوت يملأ المكان: ((بدّل زوجتك, غيّر عنوان شقتك, اشتري سيارة أحلامك, استعد إنسانيتك المهدورة))
كانت هذه الصيحات تحاكي شيئاً ما داخل أبو سعود الذي التفت دون وعي باتجاه الصوت, كان بائع اليانصيب يبدع في انتقاء كلمات لها وقعها الخاص في نفوس الجميع.
تذكر سعيد الرقم الذي حلم به ليلة أمس فراح يفكر بصمت: أمن المعقول أن الحلم كان إشارة إلهية؟ أأجازف وأشتري بطاقة يا نصيب؟ ولكن لا أملك سوى القليل من المال...
قطع البائع الخبير تفكيره قائلا ً: يا أستاذ اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب, ستدور دواليب الحظّ يوم الثلاثاء, اجعل هذا الثلاثاء ((الثلاثاء السعيد)).
ثلاثاء سعيد؟!! تعجب سعيد بسخرية وقال: يا سيدي سعيد هو اسمي, لكنني بشخصي إثبات يكاد يكون علمياً أنه ليس بالضرورة لكل مجتهد من اسمه نصيب.
نعم, هذا ما يعرفه الجميع عن أبو سعود, فقد كان متفوقاً في دراسته وناجحاً في عمله ومنكباً على الحياة لكن سوء الطالع لازمه .
فجأة, تغيرت نظرة عينيه وارتفع صوته الذي كان قد تعرض لانكسارات فيزيولوجية خلال الأزمنة التكتونية الصعبة المتوالية, وقال :
سأشتري بطاقة بشرط أن تحمل الرقم: 15730
إنها محاولة ذكية من سعيد كي يهرب من صراع نشأ بين إيديولوجية تحرّم عليه إسراف المال من أجل اليانصيب ,وبين أرقام تأكل رأسه كما يأكل النمل رأساً مدهوناً بالعسل.
عادة لا يحبذ الباعة زبائناً كصاحبنا سعيد, لكن هذا البائع كان جاهزاً أن يبحث عن إبرة في كوم قش.
ابتسامة بررها يقين أن لا وجود لبطاقة بهذا الرقم, تبددت من على وجه سعيد إذ فاجأه البائع قائلا ً: تفضل يا أستاذ هذه هي بطاقتك المنشودة.
سلم أبو سعود بالقدر ودفع ثمن البطاقة ثم توجه إلى العمل بوجه متفائل على غير العادة.
لاحظ الجميع أن معنوياته مرتفعة هذا اليوم على خلاف ما يشعر به موظف مثله في الأيام الأخيرة من الشهر, فقد قدم تحية الصباح بنبرة صوت مبتسمة, بل إن الغريب أنه لم يتشاجر مع أي من المراجعين.
أنهى توقيع جميع المعاملات لهذا اليوم وسرح في خياله في الساعة الأخيرة من الدوام فكان وجهه يزداد إشراقاً مع كل فكرة جديدة تقفز إلى خياله الخلاق.
((الجائزة هي 30000000, سأفعل كل ما أريد, سأصلح أسنان زوجتي أولاً))
سعيد يا سادتي المتزوجين, لم يعد يتذكر طعم تقبيل امرأة , إذ أنه لم يفعل ذلك منذ مدة طويلة فالحياة الزوجية بالنسبة له هي حالة غضب لا تمت للرومانسية بصلة.
((ولماذا أصلح أسنانها؟ إن معظم أجزائها بحاجة للإصلاح بل لإعادة تدوير, لقد أنجبت ثلاثة أطفال وهذا يكفيها كامرأة, وأنا يحق لي أن أتزوج ثانية))
هكذا هم الفقراء, يمضون لياليهم حالمين بطبق رز تطفو فوقه كبابيش اللحم ولكنهم عندما يملكون المال ينسون طبق الرز ويفكرون فقط باللحم.
راح يتخيل نفسه ببذلة فاخرة ذات لون فضي , تحتها قميص أبيض , وكرافات رصاصية وحذاء أسود يوزع بريقه إلى جميع الاتجاهات , و إلى جواره سيدة ممشوقة القوام بتنورة قصيرة ونهدين يصرخان مع كل خطوة يقوم بها الكعب العالي ((ها نحن هنا))
هو محافظ في بيته لكن مع (30000000) سيستقيل الالتزام حتى دون راتب تقاعد.
حلم بكل شيء, سيارة اتوماتيكية الحركة , شقة بشرفة واسعة تطل على شارع مليء بالأضواء, حتى أنه وضع خططاً للانتقام من كل أولئك الذين أهانوه بسبب الدين.
كانت الأيام تمر بطيئة على سعيد وكان الحلم يكبر كلما صار الثلاثاء السعيد أقرب.
فهل ستكون سعيداً يا سعيد؟ أم أنك مثلي ستكتب قصصاً ذات يوم؟
غداً هو يوم الثلاثاء ويصادف أنه أول أيام الشهر الجديد, إذاً سيجمع سعيد المجد من كل أطرافه.
هل تستغربون كلمة (المجد) في جملتي السابقة؟ لو شاهدتم كيف يبدو الموظف كمنتصر في حرب كبرى بعد أن ينال مرتبه الشهري ستدركون أنه المجد بعينه. فهنا يصطف الموظفون في رتل يشبه أن تقف في إفريقيا حاملا ً صحتك أمام (حلة) طعام كبيرة كي تحصل على قليل , لن يسد جوعك , لكنك بالتأكيد منتصر على كل أولئك الذين لا يملكون حتى صحن.
في طريق عودته إلى البيت, راح يحدث نفسه وهذه العادة يا سادتي الأغنياء, هي طقس يومي يمارسه الفقراء.
(اليوم في الساعة السابعة, ستدور دواليب الحظ, فهل ستتوقف تاركة إياي في الأعلى كما حدث في طفولتي حين تعطلت آلة الدوران في مدينة الملاهي فبقيت لساعات في الأعلى أنظر بسعادة إلى المحتشدين في الأسفل إذ أراهم صغاراً صغار.)
وصل إلى المنزل وكله قناعة أن الفرج لا بد قريب, أسرع نحو مكتبته وتناول كتاباً يشرح الأعداد ودلالاتها, قلب صفحات الكتاب الصيني المترجم متمتماً 15730
الواحد يشير إلى الكل, المستقيم, الإله, الخلود....
الخمسة تشير إلى القوة, الدائرة, التمام....
السبعة تدل على الكمال, الطهارة, المجد....
الثلاثة تشير إلى الإيمان, المثلث, الثالوث المقدس...
الصفر يشير إلى البداية والنهاية والولادة والبقاء....
كل هذه الدلالات زادت من ثقة سعيد بالفوز بالجائزة الكبرى وصار من الصعب إقناعه أنها مجرد دواليب حظ .
طرقٌ قوي على الباب أفزعه, قبل أن تفتح زوجته الباب , فيسمع صوت البقال الذي جاء مطالباً بدينه
قال البقال: اليوم هو أول الشهر , كفاكم كذباً وخداعاً , البارحة وعدتني بأن يدفع زوجك ما عليه عند الظهر , أين هو الآن ؟
أرجوك يا جارنا العزيز لا تفضحنا في الجوار , اذهب الآن وسأخبر سعيد أن يذهب إليك حالاً.
غادر البقال فأسرعت الزوجة ,التي هدر كبرياؤها منذ زمن على أعتاب المحلات , غاضبة
إلى غرفة سعيد وراحت تصرخ:
لماذا لا تبحث عن عمل آخر؟ ماذا تفيدك هذه الكتب السخيفة؟ كيف ترضى على رجولتك أن يهين الناس كرامتك... ولماذا لم تعطه المال قبل قدومك إلى المنزل.. و ... و
ألم أخبرك أنه قدم البارحة؟
سعيد اعتاد على توبيخ زوجته له , لذا وحدها الجملة الأخيرة استرعت انتباهه...
أنت أخبرتني البارحة؟ متى؟
عندما كنت نائماً ,جاء وعزف سيمفونية إذلاله لنا ,فأيقظتك وسألتك أن تمر به في الغد وتدفع له جزءاً من المبلغ كي يكف لسانه عنا ...
حسناً كفاك صراخاً , كم هو المبلغ ؟
أخبرتك البارحة – 15730 – ليرة .
بصوت مخنوق صرخ : كم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فكررت زوجته 15730
سعيد يعرف هذا الرقم جيداً , لذا فقد قدرته حتى على الكلام , فالرقم لم يكن حلماً أو إشارة , بل كابوس هلوس به حتى الصباح.
تحسّر على المبلغ الذي خسره في شراء البطاقة دون أن يع أنه اشترى حلماً لأيام.
استلق سعيد كجثة هامدة أمام شاشة التلفاز وعيناه تدوران مع دواليب , ظنها سترفعه وإذ بها تدوسه . قالت المذيعة : والآن سيجري السحب على الجائزة الكبرى.
دارت الدواليب ودارت إلى أن هللت المذيعة :
الرقم الرابح هو 0 – 3 – 7 – 5 – 1
سعيد انتفض محملقاً بالشاشة
كررت المذيعة : البطاقة ذات الرقم 15730 تربح 30 مليون ليرة سورية.
وحدها الدموع تؤكد أن سعيد مازال حياً, ولكن كل شيء يشير إلى أنه فقد عقله.
راح يغني بجنون,حتى أنه قبّل زوجته ,هل تصدقون؟ نعم لقد قبّلها
كانت فرحة هستيرية استمرت حتى الصباح عندما التقط سعيد حقيبة سوداء كبيره كانت مخبأً سرياً لكتبه القيمة لكنها الآن صارت بيتا لثلاثين مليون ليره .
أسرع لاستلام الجائزة دون أن ينسى أن يمرّ بالبقال ويرمي – 15730- ليره سوريه بوجهه موبخا إياه بشدة .
وقف على الشباك ويداه ترتجفان وعيناه شاخصتان .
همس بصوت بالكاد يسمع : أنا صاحب الثلاثاء السعيد, ,نا الفائز بالجائزة الكبرى.
أصيب عامل الشباك بدهشة سرعان ما استفاق منها ليسال : أنت؟ ارني بطاقتك ؟
أعطاه سعيد البطاقة مغنيا 15730
تمتم عامل الشباك : غير معقول, هناك خطأ ما , فقد غادر الفائز بالجائزة الأولى للتو ومعه كامل المبلغ .
أصيب كلا الرجلين بهلع شديد , فسعيد ممسك ببطاقته كما يحمل أب ابنه الصغير المهدد بالموت , وعامل الشباك ينظر إلى البطاقة كما لو أنها قنبلة ستنفجر في أية لحظة.
ابتسامة عريضة شقت طريقها إلى وجه عامل الشباك.
تنفس الصعداء وقال : أعتذر جدا يا أستاذ , صحيح أن بطاقتك تحمل الرقم الفائز, لكنك لم تنتبه أنها تحمل تاريخاً قديماً وهي منتهية الصلاحية .
لم تعد قدما سعيد قادرتان على الوقوف , فقد وعيه لدقائق قبل أن يشق طريق عودته إلى المنزل خائبا متثاقلا.
مرّ بالبقال, فحياه بتوسل, لكن البقال لم يرد عليه التحية, استقبلته زوجته على الباب استقبال الأبطال لكن شيئا ما من البلاهة ارتسم على محيا سعيد فراح يردد أرقام بطاقته واحدا تلو الآخر ويقبل فم زوجته بعد كل رقم إلى أن وصل إلى الرقم (صفر) قبلها قبلة تشبه أن تفرغ رصاص مخزنك في جثة كانت قد ماتت من الرصاصة الأولى. ظلّ سعيد مكتئباً إلى أن استيقظ ذات يوم مردداً – 16489- .
نقلتها لكم
محمد فياض
استيقظ سعيد من نومه مردداً - 15730-
وهذا , يا سادتي , ليس رقم هاتفه ولا رصيده من الدولارات , وبالتأكيد هو ليس رقم عقار أو لوحة سيارة.
فسعيد لا يملك في هذه الدنيا سوى بضعة مبادئ , وحذاء بال , وزوجة ( لها أسنان تؤهلها بجدارة للعب دور البطولة في فيلم رعب ) , وكتبٌ يهرب إليها كلما ذكرته الحياة بأنه منقوص الرجولة , وثلاثة أطفال كانوا ملائكة قبل أن يحولهم الفقر إلى مصاصي دماء .
ما سر هذا الرقم الذي حلم به سعيد؟ ولماذا كان على خلاف كوابيسه شديد الوضوح؟
توقف عن التفكير بذلك عندما وقفت أمامه زوجته (( مبتسمة)) قائلة: صباح الخير يا زوجي السعيد.
بادلها التحية بابتسامة صفراء قائلا ً في سره: أي خير سيأتي في صباح أنت أوله.
أشعل سيجارة , ذات رائحة بشعة , لكنها بالتأكيد أفضل من رائحة فمه النتنة , ثم ارتدى بدلته المشهورة , فهو يرتديها منذ أن تعرفت عليه حين كان اللحام يطالبه بسداد الدين...
خرج من منزله مطأطئ الرأس, متجهم الوجه, خائر العزيمة ,
استقل سيارة أجرة وجلس في أقرب مقعد شاغر, فهو يرتبك في الأماكن التي يجبر فيها على الاقتراب كثيراً من الناس لظنه أن الجميع سيراقبون تصرفاته.
جلس منتصب الكتفين وحل زر بدلته وراح يوزع النظرات هنا وهناك ليتأكد أن لا أحد يراقبه.
هو لا يحب المشي, لكن كان عليه أن يمشي لخمس دقائق يومياً بعد أن يترجل من الحافلة في أقرب محطة إلى مكان عمله .
راح يمشي ويفكر بزملائه في العمل, فهو يكرههم جميعاً.
زوجته تحذره بأنه قد يموت غيظاً لفرط ما يحسد الآخرين على ما هم عليه, لكنه دائماً مصرٌ أنه رجل مبدئي ولن يبيع نفسه للشيطان كي يصير مثلهم.
صوت يملأ المكان: ((بدّل زوجتك, غيّر عنوان شقتك, اشتري سيارة أحلامك, استعد إنسانيتك المهدورة))
كانت هذه الصيحات تحاكي شيئاً ما داخل أبو سعود الذي التفت دون وعي باتجاه الصوت, كان بائع اليانصيب يبدع في انتقاء كلمات لها وقعها الخاص في نفوس الجميع.
تذكر سعيد الرقم الذي حلم به ليلة أمس فراح يفكر بصمت: أمن المعقول أن الحلم كان إشارة إلهية؟ أأجازف وأشتري بطاقة يا نصيب؟ ولكن لا أملك سوى القليل من المال...
قطع البائع الخبير تفكيره قائلا ً: يا أستاذ اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب, ستدور دواليب الحظّ يوم الثلاثاء, اجعل هذا الثلاثاء ((الثلاثاء السعيد)).
ثلاثاء سعيد؟!! تعجب سعيد بسخرية وقال: يا سيدي سعيد هو اسمي, لكنني بشخصي إثبات يكاد يكون علمياً أنه ليس بالضرورة لكل مجتهد من اسمه نصيب.
نعم, هذا ما يعرفه الجميع عن أبو سعود, فقد كان متفوقاً في دراسته وناجحاً في عمله ومنكباً على الحياة لكن سوء الطالع لازمه .
فجأة, تغيرت نظرة عينيه وارتفع صوته الذي كان قد تعرض لانكسارات فيزيولوجية خلال الأزمنة التكتونية الصعبة المتوالية, وقال :
سأشتري بطاقة بشرط أن تحمل الرقم: 15730
إنها محاولة ذكية من سعيد كي يهرب من صراع نشأ بين إيديولوجية تحرّم عليه إسراف المال من أجل اليانصيب ,وبين أرقام تأكل رأسه كما يأكل النمل رأساً مدهوناً بالعسل.
عادة لا يحبذ الباعة زبائناً كصاحبنا سعيد, لكن هذا البائع كان جاهزاً أن يبحث عن إبرة في كوم قش.
ابتسامة بررها يقين أن لا وجود لبطاقة بهذا الرقم, تبددت من على وجه سعيد إذ فاجأه البائع قائلا ً: تفضل يا أستاذ هذه هي بطاقتك المنشودة.
سلم أبو سعود بالقدر ودفع ثمن البطاقة ثم توجه إلى العمل بوجه متفائل على غير العادة.
لاحظ الجميع أن معنوياته مرتفعة هذا اليوم على خلاف ما يشعر به موظف مثله في الأيام الأخيرة من الشهر, فقد قدم تحية الصباح بنبرة صوت مبتسمة, بل إن الغريب أنه لم يتشاجر مع أي من المراجعين.
أنهى توقيع جميع المعاملات لهذا اليوم وسرح في خياله في الساعة الأخيرة من الدوام فكان وجهه يزداد إشراقاً مع كل فكرة جديدة تقفز إلى خياله الخلاق.
((الجائزة هي 30000000, سأفعل كل ما أريد, سأصلح أسنان زوجتي أولاً))
سعيد يا سادتي المتزوجين, لم يعد يتذكر طعم تقبيل امرأة , إذ أنه لم يفعل ذلك منذ مدة طويلة فالحياة الزوجية بالنسبة له هي حالة غضب لا تمت للرومانسية بصلة.
((ولماذا أصلح أسنانها؟ إن معظم أجزائها بحاجة للإصلاح بل لإعادة تدوير, لقد أنجبت ثلاثة أطفال وهذا يكفيها كامرأة, وأنا يحق لي أن أتزوج ثانية))
هكذا هم الفقراء, يمضون لياليهم حالمين بطبق رز تطفو فوقه كبابيش اللحم ولكنهم عندما يملكون المال ينسون طبق الرز ويفكرون فقط باللحم.
راح يتخيل نفسه ببذلة فاخرة ذات لون فضي , تحتها قميص أبيض , وكرافات رصاصية وحذاء أسود يوزع بريقه إلى جميع الاتجاهات , و إلى جواره سيدة ممشوقة القوام بتنورة قصيرة ونهدين يصرخان مع كل خطوة يقوم بها الكعب العالي ((ها نحن هنا))
هو محافظ في بيته لكن مع (30000000) سيستقيل الالتزام حتى دون راتب تقاعد.
حلم بكل شيء, سيارة اتوماتيكية الحركة , شقة بشرفة واسعة تطل على شارع مليء بالأضواء, حتى أنه وضع خططاً للانتقام من كل أولئك الذين أهانوه بسبب الدين.
كانت الأيام تمر بطيئة على سعيد وكان الحلم يكبر كلما صار الثلاثاء السعيد أقرب.
فهل ستكون سعيداً يا سعيد؟ أم أنك مثلي ستكتب قصصاً ذات يوم؟
غداً هو يوم الثلاثاء ويصادف أنه أول أيام الشهر الجديد, إذاً سيجمع سعيد المجد من كل أطرافه.
هل تستغربون كلمة (المجد) في جملتي السابقة؟ لو شاهدتم كيف يبدو الموظف كمنتصر في حرب كبرى بعد أن ينال مرتبه الشهري ستدركون أنه المجد بعينه. فهنا يصطف الموظفون في رتل يشبه أن تقف في إفريقيا حاملا ً صحتك أمام (حلة) طعام كبيرة كي تحصل على قليل , لن يسد جوعك , لكنك بالتأكيد منتصر على كل أولئك الذين لا يملكون حتى صحن.
في طريق عودته إلى البيت, راح يحدث نفسه وهذه العادة يا سادتي الأغنياء, هي طقس يومي يمارسه الفقراء.
(اليوم في الساعة السابعة, ستدور دواليب الحظ, فهل ستتوقف تاركة إياي في الأعلى كما حدث في طفولتي حين تعطلت آلة الدوران في مدينة الملاهي فبقيت لساعات في الأعلى أنظر بسعادة إلى المحتشدين في الأسفل إذ أراهم صغاراً صغار.)
وصل إلى المنزل وكله قناعة أن الفرج لا بد قريب, أسرع نحو مكتبته وتناول كتاباً يشرح الأعداد ودلالاتها, قلب صفحات الكتاب الصيني المترجم متمتماً 15730
الواحد يشير إلى الكل, المستقيم, الإله, الخلود....
الخمسة تشير إلى القوة, الدائرة, التمام....
السبعة تدل على الكمال, الطهارة, المجد....
الثلاثة تشير إلى الإيمان, المثلث, الثالوث المقدس...
الصفر يشير إلى البداية والنهاية والولادة والبقاء....
كل هذه الدلالات زادت من ثقة سعيد بالفوز بالجائزة الكبرى وصار من الصعب إقناعه أنها مجرد دواليب حظ .
طرقٌ قوي على الباب أفزعه, قبل أن تفتح زوجته الباب , فيسمع صوت البقال الذي جاء مطالباً بدينه
قال البقال: اليوم هو أول الشهر , كفاكم كذباً وخداعاً , البارحة وعدتني بأن يدفع زوجك ما عليه عند الظهر , أين هو الآن ؟
أرجوك يا جارنا العزيز لا تفضحنا في الجوار , اذهب الآن وسأخبر سعيد أن يذهب إليك حالاً.
غادر البقال فأسرعت الزوجة ,التي هدر كبرياؤها منذ زمن على أعتاب المحلات , غاضبة
إلى غرفة سعيد وراحت تصرخ:
لماذا لا تبحث عن عمل آخر؟ ماذا تفيدك هذه الكتب السخيفة؟ كيف ترضى على رجولتك أن يهين الناس كرامتك... ولماذا لم تعطه المال قبل قدومك إلى المنزل.. و ... و
ألم أخبرك أنه قدم البارحة؟
سعيد اعتاد على توبيخ زوجته له , لذا وحدها الجملة الأخيرة استرعت انتباهه...
أنت أخبرتني البارحة؟ متى؟
عندما كنت نائماً ,جاء وعزف سيمفونية إذلاله لنا ,فأيقظتك وسألتك أن تمر به في الغد وتدفع له جزءاً من المبلغ كي يكف لسانه عنا ...
حسناً كفاك صراخاً , كم هو المبلغ ؟
أخبرتك البارحة – 15730 – ليرة .
بصوت مخنوق صرخ : كم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فكررت زوجته 15730
سعيد يعرف هذا الرقم جيداً , لذا فقد قدرته حتى على الكلام , فالرقم لم يكن حلماً أو إشارة , بل كابوس هلوس به حتى الصباح.
تحسّر على المبلغ الذي خسره في شراء البطاقة دون أن يع أنه اشترى حلماً لأيام.
استلق سعيد كجثة هامدة أمام شاشة التلفاز وعيناه تدوران مع دواليب , ظنها سترفعه وإذ بها تدوسه . قالت المذيعة : والآن سيجري السحب على الجائزة الكبرى.
دارت الدواليب ودارت إلى أن هللت المذيعة :
الرقم الرابح هو 0 – 3 – 7 – 5 – 1
سعيد انتفض محملقاً بالشاشة
كررت المذيعة : البطاقة ذات الرقم 15730 تربح 30 مليون ليرة سورية.
وحدها الدموع تؤكد أن سعيد مازال حياً, ولكن كل شيء يشير إلى أنه فقد عقله.
راح يغني بجنون,حتى أنه قبّل زوجته ,هل تصدقون؟ نعم لقد قبّلها
كانت فرحة هستيرية استمرت حتى الصباح عندما التقط سعيد حقيبة سوداء كبيره كانت مخبأً سرياً لكتبه القيمة لكنها الآن صارت بيتا لثلاثين مليون ليره .
أسرع لاستلام الجائزة دون أن ينسى أن يمرّ بالبقال ويرمي – 15730- ليره سوريه بوجهه موبخا إياه بشدة .
وقف على الشباك ويداه ترتجفان وعيناه شاخصتان .
همس بصوت بالكاد يسمع : أنا صاحب الثلاثاء السعيد, ,نا الفائز بالجائزة الكبرى.
أصيب عامل الشباك بدهشة سرعان ما استفاق منها ليسال : أنت؟ ارني بطاقتك ؟
أعطاه سعيد البطاقة مغنيا 15730
تمتم عامل الشباك : غير معقول, هناك خطأ ما , فقد غادر الفائز بالجائزة الأولى للتو ومعه كامل المبلغ .
أصيب كلا الرجلين بهلع شديد , فسعيد ممسك ببطاقته كما يحمل أب ابنه الصغير المهدد بالموت , وعامل الشباك ينظر إلى البطاقة كما لو أنها قنبلة ستنفجر في أية لحظة.
ابتسامة عريضة شقت طريقها إلى وجه عامل الشباك.
تنفس الصعداء وقال : أعتذر جدا يا أستاذ , صحيح أن بطاقتك تحمل الرقم الفائز, لكنك لم تنتبه أنها تحمل تاريخاً قديماً وهي منتهية الصلاحية .
لم تعد قدما سعيد قادرتان على الوقوف , فقد وعيه لدقائق قبل أن يشق طريق عودته إلى المنزل خائبا متثاقلا.
مرّ بالبقال, فحياه بتوسل, لكن البقال لم يرد عليه التحية, استقبلته زوجته على الباب استقبال الأبطال لكن شيئا ما من البلاهة ارتسم على محيا سعيد فراح يردد أرقام بطاقته واحدا تلو الآخر ويقبل فم زوجته بعد كل رقم إلى أن وصل إلى الرقم (صفر) قبلها قبلة تشبه أن تفرغ رصاص مخزنك في جثة كانت قد ماتت من الرصاصة الأولى. ظلّ سعيد مكتئباً إلى أن استيقظ ذات يوم مردداً – 16489- .
نقلتها لكم
محمد فياض
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني