الإتجاه المحافظ في الشعر إبان الحروب الصليبية
مسعد بن عيد العطوي
تمهيد
اتسعت دوائر الفن الشعري اتساع الرقعة الإسلامية، وتعددت مكوناته ومؤثراته تعدد العواصم الإسلامية، واختلفت صبغاته باختلاف بيئاته في العراق وخراسان، والشام ومصر والجزيرة، والتنافس في مرحلة الحروب الصليبية كان بين بيئات ثلاث هي بيئات العراق، والشام ومصر، ولكل منها خصائصها فالعراق موطن الخلافة العباسية العريقة، وموطن التراكم الثقافي العربي الإسلامي ومنبت الشعراء، ومرتادهم من الأقاليم الأخرى ومنه عواصم الثقافة الأولى، والبصرة والكوفة وبغداد.
فتألق فيه الثراء الفكري واللغوي في القرن الخامس لكن في مستهل القرن السادس خبا الوهج الفكري وأكثروا من ألوان التجديد والعبث الشكلي، فكان مصدر للمقامات سيما مقامات الحريري ذات الأشكال الفنية الشعري منها والنثري.
ونظراً للركود الحركي الفكري والاجتماعي والاضطراب السياسي فقد ضحل المضمون في شعر المدح واتخذت القصيدة مسارب متعددة ليكتمل الشكل الخطابي الذي ظلت دواعيه قائمة عند الخلفاء والوزراء.
وبيئة الشام تعددت فيها العواصم الأدبية في حلب ودمشق، وعند الأمراء والعرب مثل آل منقذ في شيزر وآل عمار في طرابلس وهي في مواجهة الصدام مع الروم ومع الفرنجة، فتأثرت بهذا الاتجاه فكانت موطناً للشعر الحماسي وإن وظف المدح في ذلك كثيراً مما أشغلهم عن العبث للفظ... والتلاعب البديعي.
أمّا بيئة مصر فإنها تأثرت بالخلافة العبيدية في المبالغة والغلو في المدائح وأيضاً تأثرت بالرقة الحضارية والتي ظهرت في شعر ابن سناء الملك وغيره إلى جانب تأثرها بالحروب الصليبية.
ويلحظ القارئ أنني استخدمت مصطلحات عامة أعرضها للإِيضاح منها:
الشعراء المحترفون المقلدون: وهم الشعراء الذين مارسوا الشعر وأخلصوا له، وكان مصدر جاههم ومالهم. وقد نهجوا نهج الأوائل في بناء القصائد، والشكل الفني في جل أشعارهم.
التجانس: يشتمل على التكرار والاشتقاق، والجناس البلاغي.
التقابل: ويشمل الطباق والمقابلة.
الاتجاه المحافظ:
والشعر المحافظ أو التقليدي ذلكم الذي نهج نهج النموذج السلف، فحافظوا على التوازن والاعتدال في الظواهر الفنية فلم يلحوا على أحدها دون الأخرى، ولم تكن الظواهر هاجساً لهم وإنما يأتون بها عفواً بلا تكلف، والتقليد أيضاً يعني أنهم ساروا على عمود الشعر العربي للقرون السالفة كالبناء الفني للقصيدة، وهم أولئك الذين استمدوا صورهم من التكوين الذهني المستمد من التراث العربي: وقد عني بهذا اللون الشعراء المحترفون المقلدون:
الشعراء المحترفون المقلدون في عهد الحروب الصليبية:
وهؤلاء هم الذين يجعلون من الشعر مهنة يمتهنونها، ووسيلة يرفقون بها للجاه والمال. وقد رزقهم الله موهبة، ونهلوا حفظاً، ومارسوا دربة، ثم تواصلت مسيرتهم بالتجارب والاستزادة من مظان النماء والتطوير لتكوين شاعريتهم ونبوغهم.
ولم يجدوا سبيلاً للارتقاء بشعرهم، أفضل من التبصر فيه، وتنقيته، وتنقيحه، فأخذوا يضيفون إلى التجربة والموهبة التراكم المعرفي من فكري وفني فرصعوا شعرهم بمعالم الجمال ليأخذ بالألباب ويجمع بين عناصر المنفعة والمتعة.
وقد تنبه الأصمعي من قبل إلى هذا التثقيف والتمحيص فقال: "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر. وكذلك كل من جود شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة، وكان يقال: أولاً إن الشعر قد كان استبعدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف، وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً"[1].
وأزعم أن الشعراء المحترفين يمرون بمرحلة المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم انثيالاً، لكنهم يزيدون طلباً للكمال، واستزادة للجمال، وطرداً للعيوب، وتنسيقاً للبناء، وتشييداً للتركيب. ودعماً للدلالة ويقول عنهم الجاحظ: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً، وزمناً طويلاً يردد فيها نظره، ويجبل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه، فيجعل عقله زماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوله الله من نعمته.
وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلدات، والمنقحات، والمحكمات؛ ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً"[2].
وأميل إلى أن الصنعة الشعرية تماثل الصنعة التقنية، فإذا كان الصانع في المهنة خبيراً مدرباً معتمداً على العلم، والمعرفة والتجربة فإن صناعته تخرج متكاملة يظهر جمالها في اكتمال جوانبها، فإذا كان الشاعر يمتلك الموهبة والتكوين الذهني، والممارسة أفلا يكون من الخير أن يجيل النظر ليشيد البناء ويكون صرحاً ممرداً.
والأقدمون يسمون ذلك تكلفاً: ((ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قوَّم بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر كزهير والحطيئة))[3].
وأرى أن التكلف يتأتى ممن لا موهبة، ولا خبرة له، فهو إنما يقتحم الشعر اقتحاماً، أما أولئك فقد اكتملت لديهم عناصر تكوين الشاعرية، فهم إنما يأخذون به إلى الأفضل. وكثير من الشعراء المحترفين المتزامنين مع الحروب الصليبية، ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتراكيبه، وسياقاته وجمالياته.
بناء القصيدة:
والشعراء المحترفون المقلدون التزموا بمناهج الشعر القديمة في إطارين هما: بناء القصيدة، وتعدد الأغراض في الديوان عامة.
فالقصيدة تستهل بمقدمة مختلفة الموضوعات متواصلة الوشائج؛ فالمقدمة إيحاء بموضوع القصيدة، أو ترمز له، وقد أدرك تلك العلاقة الأوائل فابن رشيق يروي عن الحاتمي ((من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه، أن يكون ممزوجاً بما بعده من مدح وذم غير منفصل عنه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر، وباينه في صحة التركيب غادر الجسم عاهة، تتخون محاسنه وتُعفِّى معالم جماله[4].
وأكثر الشعراء المحترفين المتزمنين مع الحروب الصليبية ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتركيبته وسياقاته، وجمالياته.
فابن الدهان (ت581هـ) يقول قصيدة على لسان الحكيم بن النقاش يمدح فيها ناصر الدين، ويعرض بوعد مطله النواب فيستهل القصيدة بغزل يدور حول مطل الحبيب مما يشير إلى حدث القصيدة:
ثم يعقبه بالتصريح إلى مطل النواب:
فالشعراء يشاكلون بين هدف القصيدة، ومضمون النسيب، فسبط التعاويذي يغضب منه الوزير عضد الدولة لمدح منافسه، فيستعطفه ويعتذر إليه بهذه القصيدة فيستهل بالاعتذار لمحبوبته التي أضناه شوقها، وأعتراه الأسى بعد هجرها وأنها تناست العهد القديم، وكان يرجو دوام الود في القرب والبعد:-
وهم أجادوا في حسن التخلص كما هو واضح من الأبيات السالفة.
ومن حسن التخلص أيضاً وصف المحبوبة بالبخل والانتقال منه إلى كرم الممدوح كانتقال بسط التعاويذي في مجد الدين بن الصاحب فقال بعد اثنين وعشرين بيتاً:
ومن محامد تلك الشريحة إعراضهم عن المجون، والغزل بالمذكر، بل إن بعضهم أعرض عن الغزليات كأبي الفوارس (حيص بيص)، كقوله في مدح صدر الإِسلام:
وفي ميادين الجهاد أعرضوا عن المقدمات فأبو المجد المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي يمتدح عماد الدين زنكي عام 532هـ فيباشر المدح ويستهل قصيدته بقوله:-
وأرباب شعر الاحتراف يميلون إلى الأوزان الطويلة التي تحوي نفساً طويلاً، ومضموناً وافراً، وهي أيضاً تمثل الوقار الذي يتلائم مع تكوين الشاعر القدير، ومقام الإِنشاد أمام السلطان، وتساعد على التنغيم الخطابي الذي يلونه الشاعر؛ فيكثر عندهم بحر الطويل، والبسيط، والكامل ثم الخفيف ثم الوافر والرجز كما هو الشأن في ديوان الأبيوردي الذي بلغت قصائده 246 احتوى الطويل منها ثلاثاً وثلاثين ومائة قصيدة. والبسيط منها ستاً وأربعين والكامل خمساً وثلاثين. والبقية موزعة على الأبحر الأخرى[20].
وقد أحصيت أبحر القصائد المطولة في ديوان الأرجاني؛ فشم الطويل عنده خمساً وأربعين قصيدة، الكامل بلغ ثمانياً وثلاثين قصيدة، والبسيط بلغ ثمانياً وعشرين، والوافر ست عشرة، والمتقارب ثلاث عشرة، والخفيف ثلاث عشرة، والرجز تسع قصائد، والمنسرح ثلاث، وبلغ السريع اثنتين، والرجز اثنتين، وواحدة لكل من المتدارك والهزج[21].
وابن منير أيضاً يكثر عنده بحر الكامل والطويل، والمتقارب، والخفيف وقد اتضح ذلك من نماذج أوردها أبو شامة له في مقدمة كتابه الروضتين، وأيضاً فإن النماذج التي أوردها أبو شامة للقيسراني في مدح نور الدين من بحر الكامل والخفيف والوافر[22].
وقصائد أسامة بن منقذ تكثر الشكوى فيها، وتحتل مساحة كبيرة من الديوان، وقد بلغت القصائد على بحر الكامل ستاً وثلاثين وعلى بحر الطويل تسعاً وعشرين، وعلى البسيط عشرين، والرجز خمس قصائد، والمنسرح أربع قصائد، وقريباً من هذه النسبة في سائر الأغراض[23].
وأطول الشعراء نفساً في هذه الفترة، الأرجاني، فجل شعره قصائد طويلة من أربعين إلى سبعين بيتاً، وكثير منها تجاوز السبعين، فقد بلغت قصائد تلك تسعاً وثمانين قصيدة.
فالقصائد التي تجاوزت أبياتها 70 إلى 79 بلغت إحدى وعشرين قصيدة.
والقصائد التي تجاوزت أبياتها 80 إلى 89 بلغت تسعاً وثلاثين قصيدة.
والقصائد من 90 إلى 99 بلغت أربعة عشرة قصيدة.
والقصائد من 100 إلى 160 بلغت خمس عشرة قصيدة[24].
والشاعر ابن الخياط له مطولات كقصيدته في مدح عضب الدولة أبق التي بلغت اثنين وسبعين بيتاً[25].
وقافيته التي بلغت ستاً وسبعين بيتاً ورائيته التي بلغت سبعين بيتاً[26].
وهناك مطولات أشار إليها أبو شامة وأنه اقتطف منها أبياتاً كشعر ابن منير الطرابلس، والقيسراني.
وأيضاً فإن أسامة بن منقذ له مطولات غير أنه وزعها على أغراض شعره.
وسبط التعاويذي من الشعراء المداحين، فكثر عنده القصائد المطولة، وقد أحصيت عدد القصائد التي تجاوزت السبعين، فبلغت ثمان وعشرين قصيدة أطولها قصيدتان إحداهما. بلغت واحد وثلاثين ومائة بيت والأخرى أربعة وثلاثين ومائه بيت في مدح القاضي الفاضل، ولها من مطوله أربع علي روي البناء وثلاث على روي الدال، وخمس على روي الراء، وخمس على روي اللام وأربع على روي النون[27].
يتبع لاحقاً بمشيئة الله تعالى
الشاعر ناظم عزت
مسعد بن عيد العطوي
تمهيد
اتسعت دوائر الفن الشعري اتساع الرقعة الإسلامية، وتعددت مكوناته ومؤثراته تعدد العواصم الإسلامية، واختلفت صبغاته باختلاف بيئاته في العراق وخراسان، والشام ومصر والجزيرة، والتنافس في مرحلة الحروب الصليبية كان بين بيئات ثلاث هي بيئات العراق، والشام ومصر، ولكل منها خصائصها فالعراق موطن الخلافة العباسية العريقة، وموطن التراكم الثقافي العربي الإسلامي ومنبت الشعراء، ومرتادهم من الأقاليم الأخرى ومنه عواصم الثقافة الأولى، والبصرة والكوفة وبغداد.
فتألق فيه الثراء الفكري واللغوي في القرن الخامس لكن في مستهل القرن السادس خبا الوهج الفكري وأكثروا من ألوان التجديد والعبث الشكلي، فكان مصدر للمقامات سيما مقامات الحريري ذات الأشكال الفنية الشعري منها والنثري.
ونظراً للركود الحركي الفكري والاجتماعي والاضطراب السياسي فقد ضحل المضمون في شعر المدح واتخذت القصيدة مسارب متعددة ليكتمل الشكل الخطابي الذي ظلت دواعيه قائمة عند الخلفاء والوزراء.
وبيئة الشام تعددت فيها العواصم الأدبية في حلب ودمشق، وعند الأمراء والعرب مثل آل منقذ في شيزر وآل عمار في طرابلس وهي في مواجهة الصدام مع الروم ومع الفرنجة، فتأثرت بهذا الاتجاه فكانت موطناً للشعر الحماسي وإن وظف المدح في ذلك كثيراً مما أشغلهم عن العبث للفظ... والتلاعب البديعي.
أمّا بيئة مصر فإنها تأثرت بالخلافة العبيدية في المبالغة والغلو في المدائح وأيضاً تأثرت بالرقة الحضارية والتي ظهرت في شعر ابن سناء الملك وغيره إلى جانب تأثرها بالحروب الصليبية.
ويلحظ القارئ أنني استخدمت مصطلحات عامة أعرضها للإِيضاح منها:
الشعراء المحترفون المقلدون: وهم الشعراء الذين مارسوا الشعر وأخلصوا له، وكان مصدر جاههم ومالهم. وقد نهجوا نهج الأوائل في بناء القصائد، والشكل الفني في جل أشعارهم.
التجانس: يشتمل على التكرار والاشتقاق، والجناس البلاغي.
التقابل: ويشمل الطباق والمقابلة.
الاتجاه المحافظ:
والشعر المحافظ أو التقليدي ذلكم الذي نهج نهج النموذج السلف، فحافظوا على التوازن والاعتدال في الظواهر الفنية فلم يلحوا على أحدها دون الأخرى، ولم تكن الظواهر هاجساً لهم وإنما يأتون بها عفواً بلا تكلف، والتقليد أيضاً يعني أنهم ساروا على عمود الشعر العربي للقرون السالفة كالبناء الفني للقصيدة، وهم أولئك الذين استمدوا صورهم من التكوين الذهني المستمد من التراث العربي: وقد عني بهذا اللون الشعراء المحترفون المقلدون:
الشعراء المحترفون المقلدون في عهد الحروب الصليبية:
وهؤلاء هم الذين يجعلون من الشعر مهنة يمتهنونها، ووسيلة يرفقون بها للجاه والمال. وقد رزقهم الله موهبة، ونهلوا حفظاً، ومارسوا دربة، ثم تواصلت مسيرتهم بالتجارب والاستزادة من مظان النماء والتطوير لتكوين شاعريتهم ونبوغهم.
ولم يجدوا سبيلاً للارتقاء بشعرهم، أفضل من التبصر فيه، وتنقيته، وتنقيحه، فأخذوا يضيفون إلى التجربة والموهبة التراكم المعرفي من فكري وفني فرصعوا شعرهم بمعالم الجمال ليأخذ بالألباب ويجمع بين عناصر المنفعة والمتعة.
وقد تنبه الأصمعي من قبل إلى هذا التثقيف والتمحيص فقال: "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر. وكذلك كل من جود شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة، وكان يقال: أولاً إن الشعر قد كان استبعدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف، وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً"[1].
وأزعم أن الشعراء المحترفين يمرون بمرحلة المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم انثيالاً، لكنهم يزيدون طلباً للكمال، واستزادة للجمال، وطرداً للعيوب، وتنسيقاً للبناء، وتشييداً للتركيب. ودعماً للدلالة ويقول عنهم الجاحظ: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً، وزمناً طويلاً يردد فيها نظره، ويجبل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه، فيجعل عقله زماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوله الله من نعمته.
وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلدات، والمنقحات، والمحكمات؛ ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً"[2].
وأميل إلى أن الصنعة الشعرية تماثل الصنعة التقنية، فإذا كان الصانع في المهنة خبيراً مدرباً معتمداً على العلم، والمعرفة والتجربة فإن صناعته تخرج متكاملة يظهر جمالها في اكتمال جوانبها، فإذا كان الشاعر يمتلك الموهبة والتكوين الذهني، والممارسة أفلا يكون من الخير أن يجيل النظر ليشيد البناء ويكون صرحاً ممرداً.
والأقدمون يسمون ذلك تكلفاً: ((ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قوَّم بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر كزهير والحطيئة))[3].
وأرى أن التكلف يتأتى ممن لا موهبة، ولا خبرة له، فهو إنما يقتحم الشعر اقتحاماً، أما أولئك فقد اكتملت لديهم عناصر تكوين الشاعرية، فهم إنما يأخذون به إلى الأفضل. وكثير من الشعراء المحترفين المتزامنين مع الحروب الصليبية، ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتراكيبه، وسياقاته وجمالياته.
بناء القصيدة:
والشعراء المحترفون المقلدون التزموا بمناهج الشعر القديمة في إطارين هما: بناء القصيدة، وتعدد الأغراض في الديوان عامة.
فالقصيدة تستهل بمقدمة مختلفة الموضوعات متواصلة الوشائج؛ فالمقدمة إيحاء بموضوع القصيدة، أو ترمز له، وقد أدرك تلك العلاقة الأوائل فابن رشيق يروي عن الحاتمي ((من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه، أن يكون ممزوجاً بما بعده من مدح وذم غير منفصل عنه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر، وباينه في صحة التركيب غادر الجسم عاهة، تتخون محاسنه وتُعفِّى معالم جماله[4].
وأكثر الشعراء المحترفين المتزمنين مع الحروب الصليبية ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتركيبته وسياقاته، وجمالياته.
فابن الدهان (ت581هـ) يقول قصيدة على لسان الحكيم بن النقاش يمدح فيها ناصر الدين، ويعرض بوعد مطله النواب فيستهل القصيدة بغزل يدور حول مطل الحبيب مما يشير إلى حدث القصيدة:
من مجيري من ظالم مستطيل ومعيني على اقتضاء المطول
حسن ليس محسناً بمحبٍ وجميل ما عنده من جميل
لج قلبي وقد لج في الإعرا ض عني ولجَّ فيه عذولي
أبداً ظامئ إلى خمر ثغر ما إلى سلسبيله من سبيل
ويجمع بالإشارة بين رسول المحبوب ورسول الممدوح فيقول:حسن ليس محسناً بمحبٍ وجميل ما عنده من جميل
لج قلبي وقد لج في الإعرا ض عني ولجَّ فيه عذولي
أبداً ظامئ إلى خمر ثغر ما إلى سلسبيله من سبيل
أبداً يرجع الرسول إليه مثل ما عاد من دمشق رسولي
ثم يعقبه بالتصريح إلى مطل النواب:
منعوه الذي تطولتَ يامو لاي بعد المطال والتطويل[5]
فالشعراء يشاكلون بين هدف القصيدة، ومضمون النسيب، فسبط التعاويذي يغضب منه الوزير عضد الدولة لمدح منافسه، فيستعطفه ويعتذر إليه بهذه القصيدة فيستهل بالاعتذار لمحبوبته التي أضناه شوقها، وأعتراه الأسى بعد هجرها وأنها تناست العهد القديم، وكان يرجو دوام الود في القرب والبعد:-
أبثكم أني مشوق بكم صبُّ وأن فؤادي للأسى بعدكم نهبُ
تناسيتم عهدي كأني مذنب وما كان لي لولا ملالكم ذنبُ
فكأنه يشير إلى أن الممدوح نسي المدائح التي دبجها التعاويذي فيه ويقول:تناسيتم عهدي كأني مذنب وما كان لي لولا ملالكم ذنبُ
وقد كنت أرجو أن تكونوا على النوى كما كنتم أيام يجمعنا القرب
وقد كانت الأيام سلمى وشملنا جميع فأمست وهي لي بعدها حرب
وما أدعى أني على الحب صخرة وأن فؤادي لا يحنُّ ولا يصبو
ولكنها الأيام تعصف بالفتى إلى غير ما يهوى زعازعها النكب
وقد يصحب القلب الأبي على النوى ويسلو على طول المدى الهائم الصِّبُّ
وفي كل دار حلّها المرء جيرة وفي كل أرض للمقيم بها صحبُ
وزير إذا اعتل الزمان فرأيه هناء به تشفى خلائقه الجرب[6]
فهو إذن يريد عطف الأمير ووصله ورضاه، فوظف الاستهلال كي يرمز لمضمون قصيدته، فصدود الوزير يشبه صدود المعشوق، واعتذار الشاعر لهما متشابه.وقد كانت الأيام سلمى وشملنا جميع فأمست وهي لي بعدها حرب
وما أدعى أني على الحب صخرة وأن فؤادي لا يحنُّ ولا يصبو
ولكنها الأيام تعصف بالفتى إلى غير ما يهوى زعازعها النكب
وقد يصحب القلب الأبي على النوى ويسلو على طول المدى الهائم الصِّبُّ
وفي كل دار حلّها المرء جيرة وفي كل أرض للمقيم بها صحبُ
وزير إذا اعتل الزمان فرأيه هناء به تشفى خلائقه الجرب[6]
وهم أجادوا في حسن التخلص كما هو واضح من الأبيات السالفة.
ومن حسن التخلص أيضاً وصف المحبوبة بالبخل والانتقال منه إلى كرم الممدوح كانتقال بسط التعاويذي في مجد الدين بن الصاحب فقال بعد اثنين وعشرين بيتاً:
ولئن بخلتِ وما على البي ض الحسان البخل عاب
فالصاحب الخرق الجوا د له العطايا والرغاب[7]
ومنه قوله في مدح الخليفة بعد ثلاثين بيتاً في المقدمة:فالصاحب الخرق الجوا د له العطايا والرغاب[7]
صب إذا ذكر الفراق تصاعدت أنفاسه وتحادرت عبراتهُ
ومن العجائب أن أثواب الصِّبا بليت فزادت جدَّة صبواتُهُ
ولقد أعاد له الشباب قشيبةً أبراده موشية حبراتُه
بذل الخليفة للنوال وعطفة وحنوه متتابعاً وصلاته[8]
ومنه حسن تخلص ابن عنين في مدح العادل بعد خمسة عشر بيتاً:ومن العجائب أن أثواب الصِّبا بليت فزادت جدَّة صبواتُهُ
ولقد أعاد له الشباب قشيبةً أبراده موشية حبراتُه
بذل الخليفة للنوال وعطفة وحنوه متتابعاً وصلاته[8]
وكم ليلة كالبحر جبت ظلامها عن واضح الصبح المنير فأسفرا
في فتية مثل النجوم تسنموا في البيد أمثال الأهلة ضُمَّرا
قالو وقد خاط النعاس جفونهم أين المناخ فقلت جدوا في السُّرى
لا تسأموا الإِدلاج حتى تدركوا بيض الأيادي والجناب الأخضر
في ظل ميمون النقيبة طاهر ال أعراق منصور اللواء مظفرا
العادل الملك الذي أسماؤه في كل ناحية تشرِّف منبرا[9]
وهم يعددون أغراضهم، ويستطردون في الأوصاف ولاسيما في التغزل والرحلة، ومحاسن الممدوح، ويختمون القصائد بالدعاء للممدوح بثبات المجد، والملك، وطول العمر:في فتية مثل النجوم تسنموا في البيد أمثال الأهلة ضُمَّرا
قالو وقد خاط النعاس جفونهم أين المناخ فقلت جدوا في السُّرى
لا تسأموا الإِدلاج حتى تدركوا بيض الأيادي والجناب الأخضر
في ظل ميمون النقيبة طاهر ال أعراق منصور اللواء مظفرا
العادل الملك الذي أسماؤه في كل ناحية تشرِّف منبرا[9]
وعش مُخْلِقاً ثوب الليالي مُجددًا لباس المعالي في بقاء وتخليد
مظاهر عزٌ لا يرثُ جديده وملكٍ على رغم العدى غير مجددِ[10]
وكثر ختم القصائد بذكر محاسن القصيدة والقوافي، وأنه مدح بقصيدة جديدة.مظاهر عزٌ لا يرثُ جديده وملكٍ على رغم العدى غير مجددِ[10]
نطقت بعلم فيك لا بفراسةٍ فلم أطر في وصفي ولم أتزيد
فمن كان في مدح الرجال مقلداً فإني في مديحك غير مقلد[11]
والشعراء المحترفون المقلدون حافظوا على الذوق السلوكي الأخلاقي، وعلى روح الغزل الذي يتواصل مع الاحتشام، ويجنح إلى العذرية، فهم لجأوا إلى محاكاة الأقدمين في ذكر الأسماء والأماكن، ووقفوا معهم على الأطلال حيناً، وأكثروا من استحضارهم لصبا نجد، وعبير خزاماه، والتمتع برياضه، وهذه كثيرة الشواهد[12].فمن كان في مدح الرجال مقلداً فإني في مديحك غير مقلد[11]
ومن محامد تلك الشريحة إعراضهم عن المجون، والغزل بالمذكر، بل إن بعضهم أعرض عن الغزليات كأبي الفوارس (حيص بيص)، كقوله في مدح صدر الإِسلام:
أظلما ورمحي ناصري وحُسامي وذلاً وعزمي قائدي وزمامي
ولي بأس مشبوح الذراعين مغضب يصاول عن أشباله ويُحامي
كذبت لقد أستسهل الوعر في العلى وأكرم نفسي أن يهون مقامي
هجرت الثغور اللامعات وشاقني بريق المواضي تحت كل قتام[13]
فهو مغرم بذاته وبقيمه ويعلن هجر الغزل وذكر الثغور. وهذا اللون كثير في شعره.ولي بأس مشبوح الذراعين مغضب يصاول عن أشباله ويُحامي
كذبت لقد أستسهل الوعر في العلى وأكرم نفسي أن يهون مقامي
هجرت الثغور اللامعات وشاقني بريق المواضي تحت كل قتام[13]
وفي ميادين الجهاد أعرضوا عن المقدمات فأبو المجد المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي يمتدح عماد الدين زنكي عام 532هـ فيباشر المدح ويستهل قصيدته بقوله:-
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الروم لما تبين أنك الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلاً كأن الجحفل الليل البهيم[14]
وفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائه يمدح القيسراني عماد الدين زنكي بفتح حصن بادين ويستهل قصيدته:-ألم تر أن كلب الروم لما تبين أنك الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلاً كأن الجحفل الليل البهيم[14]
حذار منا وأنَّى ينفع الحذر وهي الصوارم لا تبقي ولا تذر
وأين ينجو ملوك الشرك من ملك من خيله النصر لا بل جنده القدر[15]
وله في فتح الرها عام 539هـ قصيدة يمدح بها عماد الدين استهلها بقوله:-وأين ينجو ملوك الشرك من ملك من خيله النصر لا بل جنده القدر[15]
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده وهل طوق الأملاك إلا نجاده[16]
وله أيضاً:أما آن يزهق الباطل وأن ينجز العدة الماطل
فلا تحفلن بصوت الذئا ب وقد زأر الأسد الباسل[17]
وابن منير أيضاً يعرض في المقدمات ويستهل قصائده بالمدح مباشرة ولاسيما ما يشير إلى الجهاد شأنه شأن القيسراني، فهو يمدح نور الدين بعد معركة الجولان بقصيدة أولها:-فلا تحفلن بصوت الذئا ب وقد زأر الأسد الباسل[17]
ما برقت بيضك في غمامها إلا وغيث الدين لا يتسامها[18]
وقوله في مستهل قصيدة:-لعلائك التأييد والتأميل ولملكك التأبيد والتكميل[19]
وأرباب شعر الاحتراف يميلون إلى الأوزان الطويلة التي تحوي نفساً طويلاً، ومضموناً وافراً، وهي أيضاً تمثل الوقار الذي يتلائم مع تكوين الشاعر القدير، ومقام الإِنشاد أمام السلطان، وتساعد على التنغيم الخطابي الذي يلونه الشاعر؛ فيكثر عندهم بحر الطويل، والبسيط، والكامل ثم الخفيف ثم الوافر والرجز كما هو الشأن في ديوان الأبيوردي الذي بلغت قصائده 246 احتوى الطويل منها ثلاثاً وثلاثين ومائة قصيدة. والبسيط منها ستاً وأربعين والكامل خمساً وثلاثين. والبقية موزعة على الأبحر الأخرى[20].
وقد أحصيت أبحر القصائد المطولة في ديوان الأرجاني؛ فشم الطويل عنده خمساً وأربعين قصيدة، الكامل بلغ ثمانياً وثلاثين قصيدة، والبسيط بلغ ثمانياً وعشرين، والوافر ست عشرة، والمتقارب ثلاث عشرة، والخفيف ثلاث عشرة، والرجز تسع قصائد، والمنسرح ثلاث، وبلغ السريع اثنتين، والرجز اثنتين، وواحدة لكل من المتدارك والهزج[21].
وابن منير أيضاً يكثر عنده بحر الكامل والطويل، والمتقارب، والخفيف وقد اتضح ذلك من نماذج أوردها أبو شامة له في مقدمة كتابه الروضتين، وأيضاً فإن النماذج التي أوردها أبو شامة للقيسراني في مدح نور الدين من بحر الكامل والخفيف والوافر[22].
وقصائد أسامة بن منقذ تكثر الشكوى فيها، وتحتل مساحة كبيرة من الديوان، وقد بلغت القصائد على بحر الكامل ستاً وثلاثين وعلى بحر الطويل تسعاً وعشرين، وعلى البسيط عشرين، والرجز خمس قصائد، والمنسرح أربع قصائد، وقريباً من هذه النسبة في سائر الأغراض[23].
وأطول الشعراء نفساً في هذه الفترة، الأرجاني، فجل شعره قصائد طويلة من أربعين إلى سبعين بيتاً، وكثير منها تجاوز السبعين، فقد بلغت قصائد تلك تسعاً وثمانين قصيدة.
فالقصائد التي تجاوزت أبياتها 70 إلى 79 بلغت إحدى وعشرين قصيدة.
والقصائد التي تجاوزت أبياتها 80 إلى 89 بلغت تسعاً وثلاثين قصيدة.
والقصائد من 90 إلى 99 بلغت أربعة عشرة قصيدة.
والقصائد من 100 إلى 160 بلغت خمس عشرة قصيدة[24].
والشاعر ابن الخياط له مطولات كقصيدته في مدح عضب الدولة أبق التي بلغت اثنين وسبعين بيتاً[25].
وقافيته التي بلغت ستاً وسبعين بيتاً ورائيته التي بلغت سبعين بيتاً[26].
وهناك مطولات أشار إليها أبو شامة وأنه اقتطف منها أبياتاً كشعر ابن منير الطرابلس، والقيسراني.
وأيضاً فإن أسامة بن منقذ له مطولات غير أنه وزعها على أغراض شعره.
وسبط التعاويذي من الشعراء المداحين، فكثر عنده القصائد المطولة، وقد أحصيت عدد القصائد التي تجاوزت السبعين، فبلغت ثمان وعشرين قصيدة أطولها قصيدتان إحداهما. بلغت واحد وثلاثين ومائة بيت والأخرى أربعة وثلاثين ومائه بيت في مدح القاضي الفاضل، ولها من مطوله أربع علي روي البناء وثلاث على روي الدال، وخمس على روي الراء، وخمس على روي اللام وأربع على روي النون[27].
يتبع لاحقاً بمشيئة الله تعالى
الشاعر ناظم عزت
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني