منتدى الشاعر حسن محمد نجيب صهيوني

نرحب بجميع زوار هذا المنتدى ونأمل أن يطيب لكم البقاء ويحدونا الفخر بانضمامكم لأسرتنا


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى الشاعر حسن محمد نجيب صهيوني

نرحب بجميع زوار هذا المنتدى ونأمل أن يطيب لكم البقاء ويحدونا الفخر بانضمامكم لأسرتنا

منتدى الشاعر حسن محمد نجيب صهيوني

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى الشاعر حسن محمد نجيب صهيوني

ملتقى أدبي يهتم بفنون الأدب العربي من شعر قديم ومعاصر ويحوي عدداً من التراجم والسير الأدبية والمقالات والقصص والروايات

بعد التحية على الزوار الراغبين بالإنضمام لهذا المنتدى التسجيل بأسمائهم الحقيقية أو ألقابهم أو أي اسم أدبي يليق بالمنتدى بعيداً عن أي أسماء تخل بسمعة المنتدى وتسيء إليه، وسوف تقوم إدارة المنتدى بالرقابة على الأسماء غير اللائقة أدبياً ثم حجبها ..... إدارة المنتدى

المواضيع الأخيرة

» ملحمة شعرية مهداة الى الشاعرة عائشة الفزاري / د. لطفي الياسيني
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالسبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالسبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» وما غير الطبيعة من سِفر
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» طال ابتهال المصطفى
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني

» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
رحلة القلب الأخيرة  Emptyالأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني

التبادل الاعلاني


    رحلة القلب الأخيرة

    avatar
    حمزة سلق


    عدد المساهمات : 45
    نقاط : 26777
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 18/04/2010

    رحلة القلب الأخيرة  Empty رحلة القلب الأخيرة

    مُساهمة من طرف حمزة سلق السبت يوليو 02, 2011 8:50 am

    دخلت .. الساعة التاسعة إلا عشر دقائق . كان لتوِّه .. قد حضر مع السائق ، من صلاة التراويح . جسده الضعيف ، وقلبه المجهد ، لم يقفا حائلين ، أمام إصراره على حضور صلاة التراويح ، في المسجد مع الجماعة . سَلّمت .. قبلت رأسه ويده ، وكذلك فعلت مع والدتي ، وأخذت مكاني .. بجانبه .
    تبادلنا أحاديث خاصة ، ثم أخذ زمام الكلام . تحدث عن فلسطين ، ومعاناة المسلمين هناك ، من اليهود . ثم تحدث عن ( الفلــوجة ) .. والعراق ، وَلَعَنَ أمريكا ، التي يسميها ( أم اليهود ) . تحسر على العراق ، وأيام قضاها هناك . انتقل بعدها للحديث عن أحداث عامة .. قديمة . بعضها شارك فيها ، وبعضها مضى أصـــحابها .. لكنه يملؤها حياة .
    كنت أرقب كلماته ، التي ما فتئت أسمعها من سنوات .. لم تتغير ، لم يطرأ عليها نقص. عاديات الزمن ، ظلت تتساقط .. عند جدار ذاكرته الصلبة ، التي قاومت الاختراق ، ولم تستسلم لجحافل السنين ، التي زحفت .. تترك آثارها المدمرة ، على جسده المنهك ، ثم رفعت ( راياتها ) البيضاء .. عند أسوار عقله .
    كانـــت الكلمات تخرج ، من بين براثن ألم .. يجاهد أن يخفيه . لم تفلح عزيمته القوية ، وإرادته الصلبة ، في أن تواري أثار الوجع ، التي تتبدى على ملامح وجه .. قاوم صنوف البلاء ، وكان في ذروة ساعات المحنة ، يملك قدرة غير عادية ، على تغييب كل أحاسيس الألم ، وآثار المعاناة .
    وجه يبتلع كل مظاهر العناء ، وتبرق فيه عينان ، يغور فيهما الألم .. وجسد ظل ينتصب واقفاً .. كلما أوغلت فيه حراب البلاء .
    سألته .. مستدرجاً إيّاه للحظة مصارحة :
    - صوتك .. ما هو عاجبني ..!
    نهـــض برأسه إلى الأعلى قليلاً .. كأنما خشي أن ينسكب الألم من عينيه المجهدتين .. وقال ، وهو يشير بشاهد يده اليمنى ، إلى رأسه :
    - أبداً .. ما دام هذا سالم ، ويذكر الله .. فأنا بخير ..!
    ظل يتحدث لأكثر من ساعة ، وكان ثمة تـواقيع لألم .. بقيت متناثرة على محيّاه . هو نفس الرجل العملاق ، الذي جاءني في السجن قبل سنوات ، بُعَيد الرحيل الملحمي .. لعبد الله ( رحـــــــمه الله ) .. وكنت على شفير وحشة ، تدق قلبي مطارق الألم ، وتعصف بكياني أنواء الفجيعة . غرس قبضة يده في عضدي .. وقال :
    - اثبت ..
    لم يبق في الخيال ، من ذلك الموقف ، إلا قامته .. التي شمخت أمامي مثل جبل ، والصمود الذي ضخته عزيمته الجبّارة ، في روحي المأزومة .. وما زلت أقتات عليه من سنوات . كان مؤمناً ، قويا .. ومذهلاً .
    ودعته وخرجت .
    الجمعة 15 رمضان 1425هـ :
    الساعة الثالثة فجراً ، ينتفض جوّالي .. كنت قد جعلته على ( الصامت ) . بين يدي أوراق ، وضعتها جانباً .. والتقطته . تأملت الشاشة .. كانت أمي .
    - السلام عليكم .. هلا أمي ..
    - محمد .. أبوك تعبان ..!
    ارتديت ملابسي ، وانحدرت سريعاً . حين وصلت ، كان يجاهد ، لينتزع من فضاء واسع حوله .. نسمة هواء . يضع يده على صدره ، ويستجمع قوى جسد نحيل ، عصف به ثالوث التوحش : الشيخوخة ، والأمراض .. والابتلاءات . لم تكن مظاهر الشيخوخة ، وأعراض المرض لتتوارى ، أو يكن قادراً على إخفائها . بقيت تلك الأشياء .. التي يتحكم بها عظماء الرجال ، فتفتك بهم . سهام البلاء ، إذ تنشب نصالها ، بأفئدة الرجال وأرواحهم ، فيقاومون عواصفها الهوجاء ، بهامات لا تنحني .. وشيمة الصبر .. والألم المتشظي ، يمور في الحنايا .
    - ســــــــــــــــــــلامات ..
    لم يرد .. أومأ برأسه . أحضرت حذاءه ، وقلت :
    - نمشــــــــــــــــــي للمستشفى ..
    في الطريق إلى المستشفى ، كان الألم الهائل ، يجثم على صدره .. يدافعه بكفين معروقتين واهنتين ، يعاقب بينهما في الضغط على صدره .. كأنما يزيح بهما الألم الرابض على القلب . مجرى الهواء الذي بدأ يضيق .. قَسّمه بين ذرات الهواء القليلة .. التي ينازع لإدخالها إلى قلب .. ما زال يقاوم ، وبين ذكر الله . كان اسم الجلالة ، يَرِدُ بين كل شهقة وزفرة .
    التفت إليّ .. وفي عينيه رأيت رجاءً هائلاً :
    - محمد .. العيال ، تراهم من هاذي الرقبة إلى هاذي الرقبة .
    كان يشير إلى رقبته ، ثم يشير إليّ . عرفت أنه يقصد إخواني الصغار .. يوصيني بهم . خنقتني عبرة .. وقلت :
    - عمرك أطول .. يا أبي ..
    - هذا الحق .. يا محمد ..
    - لا تتعب نفسك بالكلام .. الله يحفظك .
    وصلنا إسعاف المستشفى .. كانت الساعة تقترب من الرابعة فجراً . نزل .. ومشى قليلاً . أحضرت له كرسياً متحركاً .. فجلس ، وأسرعت به . مظاهر الألم البادية على وجهه ، اختصرت الأسئلة التقليدية ، التي تثيرها الممرضات عادة ، عن حالة المريض .. قلت :
    - يعاني من ألم شديد في صدره .. وضيق في التنفس . أخشى أن يكون القلب ، لقد تعرض إلى جلطات في القلب ، أكثر من مرّه .
    أنهضته الممرضة من الكرسي ، ووضعته على سرير الفحص ، ثم تحدثت إلى الطبيب قليلاً . غابت لحظات ، ثم جاءت تدفع أمامها جهازاً ، قالت أنه جهاز تخطيط القلب . حين اضطجع ، وشرعت في وضع المحسّات والمجسّات ، المرتبطة بالجهاز على صدره .. فجأة انقلب لونه إلى الأزرق . صرخت هي .. والفريق الفني ، العامل معها ، وأخذت تنادي على الطبيب . جاء الطبيب مسرعاً .. واللون الأزرق ينتشر بســــرعة . مزّق الطبيب ثوبه ، والتقط جهازاً ، وصار يدفعه داخل مجرى الهواء في فمه .. وآخر وضعه على صدره ، يقوم أحد مساعديه بالضغط عليه . كان .. والفريق الذي معه ، يدفعون السرير إلى غرفة أخرى .. مجاورة .. وهو يصيح ، رداً على صراخي عليهم : ما الأمر .. ما الأمر .. ؟ :
    - انخفض الضغط ، امتنع الأكسجين عن الجسم ..
    ثم أكمل إعطاء توجيهاته ، للفريق الطبي معه .. باللغة الإنجليزية .
    في الغرفة الأخرى ، كان كل شيء يتم بسرعة : وُضع على التنفس الاصطناعي ، وَفُتِحَتْ له فتحة في الشريان .. وانتشرت الإبر في أوردته ، تصب الأمصال ، في جسده المجهد . الزرقة زالت .. لكن القلب كان ضعيفاً . ينبض .. لكنه معتمد على الأجهزة المساندة .. لا يقوى بنفسه.
    أمام حقيقة هائلة .. وقفت :
    القلب الكبير ، الذي كان مأوى الرجال ، والنساء ، والأطفال .. عاجز أن يقوم بأعباء الجسد النحيل . القلب الكبير ، الذي صمد أمام ( الأزمات ) الكبيرة ، وقاوم كل مظاهر القسوة والتوحش .. تتربص به الآن ( أزمة ) قلبية عارضة . يصارع من أجل ( ذرة ) أكسجين ، وهو الذي كانت من قبل ، تتنـــفس قلوب كثيرة .. أحزانها ، من خلاله .. !
    كان الأطباء والممرضات ، مشغولون بكتابة تقاريرهم ، ووضعها في الملف المعلق بالسرير ، الذي يرقد عليه . كنت أدور حول السرير .. ألمس جبهته ، أو أضع يدي على كفه ، أو قدمه . صدره يعلو ويهبط .. لكن الجهاز يقول ، أن قلبه ضعيف ، أن ضغطه منخفض . أريد أن أطمئن :
    - كيف هي حاله .. يا دكتور ..؟
    - حالته حرجة .. تعرض لأزمة قلبية ، لا ندري أسبابها بالضبط ..!
    لو تعلمون أي هموم يحملها ، أي توحش وقسوة ، صادفها هذا القلب ، لعرفتم الأسباب .. ربما . هل يحتفظ القلب بأرشيف لهمومه وأوجاعه ؟ هل لديه ملف ، يحتوي على قضايا الغدر ، والقسوة .. والظلم ، التي مورست ضده ؟ ربما لو أعملتم المشرط فيه ، لانداحت عليكم الملفات والقضايا .. ربما .
    لكنه لن يقبل .. حيث ستــــــخرج جماهير الـــــــــــناس ، من الرجال ، والنساء ، والأطــــفال ، ممن اتخذوا قلبه ( خيمة ) أخيرة . لن يقبل أن تمزقوا أوتار الخيمة .. فتنكشف عن أناس ، اتخذوه ملاذاً أخيراً .
    لن يقبل .. لأن القلوب الكبيرة ، تختار أن تسكت ، دون ضجيج .. ولا تتوقف عن العطاء ، أو تقطع أوتارها ، فتبوح للناس ، عما فيها .. من وجع ، وقسوة .. وأناس اتخذوها ملاذاً .. خيمة أخيرة .
    - هل سيطول بقاؤه على هذه الحالة ..؟
    - لا ندري .. الله أعلم . سينقل إلى وحدة العناية المركزة .. للمتابعة ، على أمل أن يستعيد القلب نشاطه الطبيعي .
    الساعة الثامنة الآن . أخبرتني الممرضة أنهم يجهزون له سريراً ، في مركز الأمير سلطان لجراحة القلب . أرادت أن تشعرني أن وجودي ليس له معنى .. وأن علي أن أذهب :
    - في الساعة العاشرة سيتم نقله إلى هناك .. حيث سيكون سريره جاهزاً . تستطيع أن تتصل لتطمئن عليه .
    طلبت منها رقم اتصال ، فكتبته على منديل ورقي ، ونظرت أمامها .. حيث ثمة ورقة مثبتة على الجدار ، تحمل مجموعة من الأرقام .. فقالت :
    - … وهذا رقم التحويلة ..
    وسجلته إلى جانب رقم التلفون . أخذت منها المنديل ، ثم اقتربت منه .. قبلت جبينه ، وخرجت .
    اليوم الجمعة .. الطرق خالية . هل استوحشته المدينة مثلي ، فَخَفَتَتْ فيها الحركة ، وَخَفَت بها نبض الحياة .. مثلما هو الفراغ ، الذي بدأت أشعر به ، مثل هوّة سحيقة ، تتشكل في وجداني ، تهوي في قعرها ، معاني الرغبة في الحياة ,
    بعــد الظهر اتصلت ، ردت ممرضة .. أعطيتها اسمه ، ورقم الملف الطبي ، وسألت عنه :
    - لم يتغير شيء .. حالته ما زالت حرجة . من المستحسن أن تسأل الدكتور .. يكون موجوداً أثناء وقت الزيارة .
    سألتها عن وقت الزيارة ، فأجابت ، أنها في الساعة الثالثة والنصف عصراً .. إلى الرابعة . جئت في وقت الزيارة .. سألت عنه ، فقالوا إنه في السرير رقم ( 9 ) . كانت الأجهزة هي التي تعمل ، وجوارحه تَبَعٌ لها . جسده ساكن ، وعيناه مغمضتان . لم يكن ثَمّةَ ( حياة ) .. إلا صدرٌ يعلو ويهبط ، موصول بعدد غير محدود من الأسلاك والأنابيب .
    خاطبت الممرضة الجالسة إلى جانب السرير ، تدوّن ملاحظاتها عن عمل الأجهزة ، في بيان متعدد الخانات :
    - أريد أن أسأل الطبيب عن حالته ..
    - سأعمل له نداء .. ليأتي .
    جاء الطبيب .. وذكر كلاماً عاماً ، لم يقنعني . أمام إلحاحي .. قال :
    - ضغطه منخفض .. ( 70 ) كما ترى . يجب أن يرتفع فوق ( 90 ) .. ليتجاوز مرحلة الخطر . هناك التهاب في الصدر .. أضعف القلب ، وساهم في أزمته ، التي أدت إلى انخفاض الضغط . البكتيريا قوية ، ونحن نحاول أن نقاومها ، بإعطائه مضادين حيويين .
    - …………………….
    - الأدوية .. صحيح أنها تعالج ، لكن لها مضاعفات . تؤثر في حموضة الدم ، وهذا له ..
    لاحظ أنه قد بدأ يدخلني في متاهات الأدوية ، عندما بدأت اقلب نظراتي ، بينه وبين الوالد .. فتوقف .
    في المساء .. جئت في وقت الزيارة الثاني ، العاشرة والنصف . ما زال في (غيبوبة ) .. جسده فقط . روحه كانت تحوم في المكان . في جسد كل من أحاط بالسرير ، من بناته ، وأبناء بناته ، وأبناء أولاده .. قبس منها .
    الوالدة وقفت إلى جانب سريره ، كأني بها تنادي .. ولا رجع صدى . في عينيها حديث طويل ، عبّرت عنه رعشة كفها ، وهي تضعها على جسده .. عند كتفه العاري .. تتحسس نبض الحياة ، لرجل طالما منحها الأمان .. و تَحَسَّتْ في كنفه طعم الرجــــولة . بدت .. بجـــــــــسمها الصغير ، وهـــــــــــي تنحني عليه ، مثل حـــــــــــمامة مبتـــــــــلة ، واقفة عــلى باب وكرها .. غادرها شريكها ، في ليلة سوداء شاتية ، مطيرة .. وحيدة لها نواح .
    السبت 16 رمضان 1425هـ :
    هذا صباح آخر .. يمضي بدونك ..
    أعتدت أن أمر عليه كل صباح ، أو أغلب أيام الأسبوع . الساعة العاشرة ، حين اتصلت أسأل عنه .. كان قد مرّ أكثر من 30 ساعة ، على دخوله حالة اللاوعي . ذكرت الممرضة ، أن حاله كما هي لم تتغير .. ما زالت حرجة ، وإن كانت تنحو نحو الاستقرار . ثم قالت كلاماً لم أتبيّنه ، بسبب حديثها بلغة إنجليزية ، تغلب عليها لهجتها المحلية .
    جـئت في موعد الزيارة الأول . وجدتهم يحيطون به .. الطبيب ، وعدد من المساعدين ، والممرضات . كانوا يتهيأون لنقله . سألت الطبيب عن الأمر ، فأجاب أن ضربات القلب غير منتظمة .. مما سبب له أزمة جديدة ، وأنه سيأخذه إلى غرفة العمليات ، لوضع منظم يضبط حركة القلب ، ويمنع تكرار المشكلة .
    ألقيت عليه نظرة ، وهممت أن أقبل جبينه .. لكن الممرضة دفعت السرير ، باتجاه المخــــرج ، الذي يـــــــــؤدي لغرفة العمليات . سِرْتُ إلى جانب السرير ، وأنا أتأمله : كم ذا .. لُذْتُ بهذا الصــــــــدر العامر ، الذي أصبح مرتعاً للألم .. ولأجهزة تمنحه الأمل .. بــ ( حياة ) . القلب الذي كان ( الأمل ) ، و( الحياة ) لكثيرين .. يفرّون إليه من الألم ، صار ( يلوذ ) بجهاز ، يمنحه ( حياة ) ، ليمنح ( الأمل ) لآخرين ..
    في المساء لم يتغير شيء . أخبرني طاقم التمريض ، أن الجهاز .. منظّم ضربات القلب ، الــــــذي تم غرسه في صدره ، يعــــــــمل بشكل جيد . وجدت عنده طبيب مقيم .. ( متدرب ) . دفعني القلق لأسأله .. فضاعفت إجاباته خوفي وقلقي :
    - ضغطه منخفض ، وهذا يجعل حالته حرجة . نسعى لتنشيط القلب ، من خلال الأدوية ، ليرتفع الضغط .. لأن انخفاض الضغط ، يؤدي إلى فشل وظائف بعض أعضاء الجسم الأخرى .. مثل الكُلى ..
    انتشر خبر إصابته ، فكثرت الاتصالات .. تسأل عنه . صرت أضيق ببعضها .. وأتحاشاها ، خصوصاً تلك التي تسأل عن تفاصيل الحالة . لم أعد قادراً على أن أقول ، أكثر من : حالته حرجة .. ويحتاج الدعاء .
    بعض اتصالات شقيقاتي ، كانت تؤلمني .. تُوغِلْ في طلب الشرح والتفصيل ، فيتوغّل الوجع في داخلي . كنت أراه في كــــل يوم .. ( يبتعد ) أكثر ، لكني لا أستطيع أن أقول ذلك . حينما أزوره ، وأضع كفي على جبينه ، أو يده .. كنت أقاوم شعوراً موحشاً بالفقد ، بدأ يخــــــــــــترقني . كنـــــــت أخدع ( الطفل ) في داخلي ، الذي يتعلق بالمحسوس .. دليلاً على الوجود . كنت أضع عنواناً ( وهمياً ) .. لروح دخلت في التيه .. إذ يرحل ملهمها و دليلها .
    الأحد 17 رمضان 1425هـ :
    الصباح الثالث .. مضى الآن أكثر من 50 ساعة ، وأنا ( وحيد ) . اتصلت كالمعتاد ، في حدود الساعة العاشرة . جاء رد الممرضة روتينياً : حالته مستقرة ، لم يتغير شيء .
    - هل ما زالت حالته .. تعد حرجة ..؟
    - نعم ..
    كيف تكون إذاً مستقرة .. تساءلت ؟ ارتبط ( الاستقرار ) في ذهني ، بوصفه مفهوماً ، وحالة ايجابية . صرت أكره أن أسمع كلمة ( مستقرة ) ، أو ( Stable ) .. كلما اتصلت ، أو سألت عنه . حالته حرجة ، وتكون مستقرة .. معادلة عجزت أن أقبلها .
    في العصر ، موعد الزيارة الأول .. جئت . أسحب خطاي ، داخل وحدة العناية المركزة .. باتجاه السرير رقم ( 9 ) . المرضى على يميني ويساري .. ساكنون . لاحظت أن المريض ، لا يكون مستقلاً بسرير وحده ، ليس معه أحد ، يشاركه ( الغــــرفة ) ، إلا إذا كانت حالته .. تستدعي مراقبة لصيقة ، كما هي حاله . في وحدة العناية المركزة ، ليس ثمة غرف . هناك مساحات ، تقسّم ، وتغلق بستائر ، تقوم بدور القواطع والأبواب . لا يوحي هذا الوضع بــ ( حميمية ) من أي نوع ، مقابل الجــــــدران والأبواب الصلبة .. ( الجامدة ) . أحسها تعبيراً ، عن حالة مفادها .. أن :
    كُــــــــــلّ شيء هنا .. عابر ، كل شيء مؤقت ..!
    حين وصلت إلى ( المساحة ) .. حيث يوجد السرير رقم ( 9 ) ، كانت الستارة ، نصف مغلقة . ما أن دخلت ، حتى ( صفع ) ناظري ، منظر لجهاز كبير ، بلون أصفر باهت . فاجأني .. و أنا استَقْبَحْتُه . وجه الجهاز مليء بالأزرار ، والشاشات الدائرية الصغيرة . اللافت فيه .. اسطوانة بلاستيكية شفافة صغيرة ، مملوءة بسائل .. كأنه دم ، ترتبط من الجهـــتين بأنبوب بلاستيكي . واحد متصل بالجهاز ، والآخر يخرج من تحت الملابس ، التي وضعت على جسده .
    شعرت بألم يعصر قلبي ، وجالت في خاطري أفكار حزينة . لم أشك لحظة ، بعد رؤيتي للجهاز ، بأن المحذور قد وقع . حاولت بأن أكذب ظني .. وبدايات نحيب ، شرعت تتعالى في أعماقي : ليل الرحيل ، هل آذن بالقدوم ..؟
    سألت الممرضة :
    - ما هذا ..؟!
    - جهاز ( ديلزة ) ..
    إذن بدأ غسيل الدم ..! هُرِعْتُ إلى رئيسة التمريض ، أسألها أن تطلب لي الطبيب . صرت أتأمل الجهاز ، وألقي نظرة .. على جسد صاحب القلب الكبير : ها هو جهاز آخر ، يضاف إلى منظومة ( نظام المساندة ) .. ليبقيك حياً .
    تأخر الطبيب . كان هناك شخص يروح ويجيء ، بين مكتب التمريض ، والأجهزة المرتبطة بالجسد المسجّى . معطفه الأخضر ، أوحى لي .. بأنه قد يكون مساعداً للطبيب . سألته عن الجهاز .. فقال :
    - لتنقية الدم ..
    - كــــــــــــــيف ؟
    - بعض أجهزة الجسم ، لا تقوم بوظائفها على النحو المطلوب . البــــكتيريا أدت إلى حدوث تسمم في الدم ، والجهاز يساعد على التخلص من السموم .
    نادته الممرضة .. فذهب . تحركه السريع نحوها ، بدا وكأنه فرصة وجدها ، ليتخلص من تساؤلاتي ، أكثر من رغبته في استطلاع الأمر ، الذي تدعوه من أجله .
    عدت للسرير أتأمله ، وأحدّق في الجهاز ، محاولاً فهم الأرقام والمعلومات ، التي تتبدل على شاشاته الصغيرة . الخوف عاد يقرع أبواب قلبي .. حين ألقيت نظرة على صاحب القلب الكبير ، وبدأت أحسب عدد الأجهزة ، المرتبط جسده بها .
    جاء الطبيب ، اعتذر عن التأخير .. ثم بادرني :
    - لعلك تسأل عن الجهاز .. ؟
    - ليس الجهاز فقط يا دكتور .. كيف حاله ؟
    - انخفاض الضغط يؤثر على عمل وظائف الجسم . هناك ( فشل ) في وظائف الكلى و الكبد ، لذلك تم اللجوء إلى الجهاز .. لتخليص الدم من السموم .
    - فشل .. ؟!
    لاحظ وقع الكلمة العنيف عليّ ، فحاول أن يضفي عليها تفسيرات تلطّفها . أسهب في الحديث ، عن أن هذا مصطلح طبي ، يراد منه ، عدم قيام العضو بوظيفته على الوجه الأكمل ، و بالتالي (عجزه) ، عن تلبية احتياجات اعضاء الجسم الأخرى .. التي تعتمد عليه . شعر كأنما وقع على اكتشاف غير مسبوق .. حينما نطق كلمة (عجز) ، و أحس أن (هذا) هو التفسير ، الذي كان يبحث عنه لـ(يرضيني) :
    - عجز ..! نعم .. نعم ، هو التعبير الصحيح ، أو ما يسمى بالإنجليزية ، failuer .. بعض الترجمات ، في المجال الطبي غير دقيقة ..
    عجز .. أو فشل ، لا فرق .. ! الألم الذي يعصر قلبي ، شعرت بوطأته تزداد ، و الخوف الذي يقرع أبوابه .. صار له دوي ، صرت أسمعه في أذني . تبدو الترجمة مخادعة و مخاتلة ، اكثر مما هي غير دقيقة . مثلما هي إجابته ، عندما سألته : هل يمكن أن يعود عمل الكلى و الكبد ، إلى الوضع الطبيعي .. إذا انتظم عمل القلب ، و تجاوز أزمة انخفاض الضغط :
    - نحن نركز الآن على تنشيط القلب ، و مقاومة البكتيريا .. و هو الآن على (maximum support) .
    إقتحمت الجملة الإنجليزية أبواب القلب ، فدخلت جحافل الخوف .. و طفقت تمزق حبال الأمل . اختصرت لي حالته ، التي كان الطبيب يحاول أن يخفيها :
    ” لا نستطيع أن نفعل له ، أكثر مما هو حاصل الآن .. فهو في وضع (المساندة القصوى) ..”
    معتمد كليا على الأجهزة .. و بكى القلب .
    أغمضت عيني ، و أشحت بوجهي عن الطبيب . تأملته .. كان صدره يعلو و يهبط ، و له صوت . الجهاز يمنحه التنفس .. و بكى القلب .
    .. و خرجت أسحب خطاي . المرضى على يميني و على يساري ، لم أنتبه لأحد . موظف الأمن نبهني ، أن الباب الذي أحاول فتحه .. لأخرج ، هو باب الطواريء ، و ليس المخرج . رفعت رأسي .. هناك لوحة إرشادية ، لم أتبيّن المكتوب عليها . العينان غائمتان ، فاحتجبت الرؤية . طأطأت .. و مسحت عينيّ ، لم أشأ أن يراهما رجل الأمن . هل عيب أن نبكي ، حينما يتألم من نحب .. أو يوشكون على الرحيل .. ؟!
    في المساء جئت ، لم يتغير شيء . إحدى شقيقاتي ، كانت موجودة . هالها مشهد الجهاز ، مثلما هالني . سألتني بهلع ، و هي ترى الدم (يجول) في الأسطوانة البلاستيكية ، و في الأنابيب .. ماذا يكون هذا (الشيء ) ، و ما هي وظيفته ..؟ نفس الإجابة (المتهرّبة) ، التي سمعتها من مساعد الطبيب ، و من الطبيب ، كررتها عليها . ردّت بعصبية على إجابتي ، غير المقنعة .
    لم يكن لدي ، ما أرد به ، و أنا ألقي بنظري عليه ، و أحس أن برزخا هائلا ، بدأ يتشكل .. و يفصل بيننا . قلبي يناديه من الأعماق .. يصرخ ، و يمد يدا ، لكنه لا يسمعني ، و لا يستجيب .. أو هو لا يقدر . أنا أهوي في لجّة حزن ، و يضيق الأفق نحوه ، حتى يغدو مساما .. و هو يترقّى في ملكوت . تمتصني الوحشة ، و الشعور بالفقد .. إلى حضيض ، فينتفض قلبي ، و يجأر برجاء :
    - اللهم اجمعنا في ملكوتك ، مع الغائب الحاضر .. (أبي عبد الرحمن) ، الذي صنع رحيله الملحمي ، الصدع الأول ، في القلب الكبير .
    افتعلت موقفا ، لأتقي (نصال) أسئلة أختي .. و اتجهت لمكتب رئيسة التمريض . وقفتُ قليلا أمامه ، أطرح على الممرضة أسئلة مفتعلة .. ثم غافلتها و خرجت . أبقيت جوالي مغلقا لفترة .. حتى لا تطاردني الأسئلة . لم يعد في القلب قدرة ، لاستقبال مزيد من التساؤلات (الجارحة ) ، ففؤادي في غشاء من نصالها .
    صرت أنتظر الغد ، بانتظار قلب لم يعد قادراً ، على أن ينتظرني . الغد الذي أتطلع أن (يقربني) ، من حبيب ، أراه كل يوم (يبتعد) .. لتهبط من بعده جيوش الوحشة و الظلام .
    الاثنين 18 رمضان 1425 هـ :
    فجر الاثنين .. يعني أنه مضى أكثر من 72 ساعة على إغماءته .. و بداية رحلة الغياب الطويل . كان الطبيب قد قال لي في اليوم الأول ، أن أي حالة صحية حرجة ، لا تستمر أكثر من 72 ساعة ، في الغالب . يتضح بعدها ، في أي اتجاه يسير الوضع الصحي للمريض . اتصلت في العاشرة .. كالمعتاد ، و جاءني الرد التقليدي :
    - وضعه مستقر ، لم يتغير شي .. لكن حدثت مشكلة في الضغط ، الطبيب يستطيع أن يشرح لك .

    منقول
    ويتبع لاحقاً بإذن الله
    أخوكم
    حمزة سلق

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء نوفمبر 26, 2024 6:02 pm