وقفة مع القصيدة العبقة (في الحب لستُ بمسرف) للشاعر حسن محمد نجيب صهيوني
بقلم: أريج الريحاوي
تحية طيبة وبعد،،
لكم أطربتني هذه القصيدة العصماء في زمن خلت فيه النصوص الشعرية من أي سياقات مشرأبة الطلعة البهية وحاضرة برسخوها في أذهاننا، غير مجرد رتل كلمات زعمت بانها شعراً، وليست كذلك.
أعود أدراجي ثانية لأقف على مطلع القصيدة بقراءة متأنية، حينما يبدأ الشاعر بقوله:
أدرِكْ بجـودك سُهـدةَ المتلهِّـف حسبُ الفـؤادِ وصابُـه المتعصِّـف
أدَّيتُ وصلَـك كالفـرائض وافياً فعـلام أحظـى بالتمنُّع مجحِفـي؟!
وهذا ما عودنا عليه الشاعر الكريم من قوة البدايات التي نصب نفسه إماماً للظهور فيها لنجده توشح المطلع بفعل الأمر (أدرك)، حيث يقول نقاد البلاغة أن للكلام درجات أقواها الطلب وأضعفها الالتماس، وقد كان الطلب الدال على الأمر سبغة سبغ بها مطلع القصيدة فجاءت بذلك قوية الحضور من مطلعها.
ثم اعتماد الشاعر لإمارة البحور وهو البحر الكامل أضفى على القصيدة جواً حسياً رائعاً مستساغ الطعم في القراءة شهي الحسن العروضي لما للبحر الكامل من جمال كمل به.
ونرى الشاعر هنا اعتمد أسلوب الالتفات البين في قصيدته لنراه ينتقل برهة ما بين المخاطب إلى المتكلم إلى الغائب وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على قوة البديعية الحاضرة في ذهنه. ثم راجح الشاعر امراً ما يزال شغل فكره وهو التمنع المجحف الذي كان الاستفهام الاستنكاري فيه نقطة الصراع التي يعيشها الشاعر لحظة الكتابة التي أردفها بالأمر مرة أخرى بقوله (أسعف)، فيعود بها من جديد عودة الزحافات العروضية ليقول (وما من مسعف)، هنا تكمن براعة النص حينما يجرد الشاعر من نفسه شخصاً ينشده مساعفة ليدرك أخيراً حاله غارقة في لجج الصراع مع النفس مرة أخرى إذ أيقن أنه ما من مسعف سوى الحبيب الذي يطوف في خواطره وهمساته حين يقول:
مـا بين خـاطرةٍ تجيءُ وهمسةٍ أسعفْ بهـا قلبي، فمـا مِن مُسعِف
وما أجمل ما أردفه الشاعر حسن بعد هذا البيت إذ افتقر إلى صدق العواذل الذين هام مجلسهم باللوم والعتاب وحال نواياهم كان خلافاً ونقيضاً مع ذلك. وبذا سألهم مستنكراً مرة أخرى بقوله (أين العواذل؟) وهنا تظهر كلمة (أناشدهم)، فنقف برهة ونتساءل لماذا لم يقل الشاعر (أنشدهم) وإنما استعاض عنها بكلمة (أناشدهم)، هنا الإجابة تكمن في قول الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة) بقوله: إن الصيغة التي تأتي على وزن أُفاعل تكون أقوى بزيادة الألف من التي تكون على وزن أفعل ومثلها نقول: أحضر وأحاضر وأجهر وأجاهر فأجاهر بالفعل أقوى حضوراً لتأكيد المعنى من جملة أجهر بالفعل لعلة حرف الألف المستبينة.
ثم يعود الشاعر ليؤكد خطأ العواذل الذين أجمع النقاد على اشتمال كلمة العواذل على صيغة المذكر والمؤنث على نقيض من كلمة (العاذلات) التي كانت حكراً على جمع المؤنث.
يعود الشاعر ليدرأ عنه خطأ العواذل بلومه في إسرافه بالحب، وهو أعلمهم بحال نفسه حينما قال (لست بمسرف) وما أروع هذا الرد !! وهذه الجملة وحدها كفيلة برده، لكنه أتبعها بحكمته التالية:
أَوَمسرفٌ مَن كـان مَلْكُ فـؤاده في كف من يهوى رهيـن تَقَشُّف؟!
وإلام عـذلُ العـاذلين؟!، وإنهم أرزى بهـم عـذلٌ لقـارِف مَنْكَف
ثم نرى الشاعر استعان بأسلوب الطباق حينما طابق بين كلمتي (أغيض) (يفيض) كما في قوله:
هو ذاك صب في الهوى وأغيضه فيفيضني في سـاحة المستطـرَف
لنرى أن الشاعر حاول تحجيم صبوه عبثاً، فكان الفيض من هذا الصب أن استطرفه جم الاستطراف المركون بعيداً عن غايته.
يرجع الشاعر ويسأل شخصه المجرد، سؤال القابع في أدراج العتمة:
ألِحسنـه العـاتيِّ إنْ أشقى بـه حينـاً، ويؤنسُني إِماض تـزلُّفي؟!
فيمـا إذن أَشْقى بهَوْل غرامه؟! ونعيمُـه زُلفـى بمــاءِ تكلُّفـي
ولمنْ سهادي كان، لا عُدِم الكرى إنْ طاف جنّيُّ الهوى في مَطْرَفي؟!
ولمنْ سبيلي كـان كـلَّ رجائه وله السبيـلُ إلى صدودٍ أعْنَـف؟!
وما أجملها من لحظات يحاكي فيها الشاعر نفسه بهذا الحس الحنون!! وهنا كانت العقدة (الحبكة) ظاهرة جلية بالفكرة المستوحاة مما ينشده الشاعر من قصيدته، فالمناسبة كانت قريناً متلازماً جاء من وحي المطلع وهي الحنين والتحنان إلى عودة محبوبه، لكن العقدة اقتضت أن يكون الحسن العاتي وإماض التزلف والشقوة بالسهاد اللليلي وجني الهوى أردفاف مصابه وحنوه.
ثم يبدو الجمال ساحراً أخاذاً حينما نادى الشاعر محبوبه بقوله:
يا متعِبي، رُحماك، كم أتعبتني!! يا شـاغِلي بالفكـرِ فيـكَ ومُتلِفي
وأكاد أعرف صفات محبوبه من هذا البيت.
وهنا يعود الشاعر ليخلع عن نفسه رداء اليأس مصارحاً محبوبه بقوله:
تحتاج كل صراحتي، فاسمعْ لها ما كان من شأن الصراحة مُحْصِف
حـاولتُ كَبْحَ صبـابتي متحدياً قصفَ الهوى لأضالعي إنْ يقصِف
وزهدت كالصوفيِّ في دحضـاضةٍ فيهـا انقطـاعُ تعفُّـفٍ وتصوُّف
ورغبتُ لا أبغـي الهوى أذياله تـأتي بـلا إذنٍ ... ولا بتصرُّف
لكنـه التهيـام كيف أصـده؟! يَثْني بِعِطْفِ المنكبيـنِ بمِعْطفـي
وأمـامَ بابي قـابـعٌ أطيـافُه كالسحْـرِ بـاقٍ لا يغادر مَطْرَفي
والغـرفةُ الظلماءُ يخبو نورُها وتأنُّ في جُـدُرٍ لتُسمـعَ مَلْحَفـي
والقهوة السمـراءُ فـي فنجانها بَرَدَتْ، فليستْ تُستطـاب بِمَرشَف
كانت لـه ودعاً تلامس صَفْحَه بشفـاهِ لَثْـمٍ كـالأديـم المُدْلِـف
وقِـداحُ تحنو كالشقائق صبوةً يَنْـداحُ مَلْسَمُهـا لِكفَّـيْ أهيـف
وأسـاورٌ ... وقـلادةٌ تَـوَّاقةٌ للجِيْدِ ...أو للمِعْصَـم المتَـورِّف
بكيتْ رحيلِك كالصغيرة أدمعـاً لمّـا تَزَلْ تُدمي الأسى المستنزَف
فنرى اعتراف الشاعر البين أمام محبوبه بمصابه، عل المحبوب تأسره فياضة الحزن الخارجة من لثم الشاعر فيترجمها إلى لغة (العوْد) ويسعف حال الشاعر. ونرى تذكير الشاعر بما درس من توابع المحبوب وما كان يحن إليه من فنجانه وقهوته السمراء وأساوره وقلادته وهي توابع تذكر الحبيب بما كان من صفاء الأيام الخوالي ونقاوة العيش الهني، فآثر إلا الغياب فاستفقدته بذلك هذه التوابع المادية التي ارتأى الشاعر تذكيره بها علها تكون سبباً منشوداً وغاية ملحة في عودته.
يقول الأستاذ أبو هلال العسكري في كتابه (معاني الحروف) هناك كلمات بها فوارق وأضداد تستعمل لتشتيت العلة التي خلص بها الكاتبن والكاتب هنا كانت علته غياب محبوبه فاستعمل عدة كلمات تكون مدعاة لعودة الحبيب مثل (فنجان القهوة) (الأساور) (القلادة) (الغرفة) ... إلخ من الكلمات التي فاض بها النص الشعري.
ونرى هنا أسلوب التورية الكائن في هذا النص:
أيَِبِينُ من دعوى الأنـام لسانُهم عن جَمْهَرٍ يَنعى لِمَـا لم تعرِفي؟!
وتكذِّب الأحـداثُ منك مواجعاً لمّـا هَوَتْ في قلب ذاك المُتلَف؟!
حيث تحدث الشاعر بأمر قصد غيره، عندما قال (أيبين من دعوى الأنام لسانهم)، فقد قصد الشاعر هنا – من وجهة نظري- سؤال نفسه وليس السؤال موجهاً إلى محبوبته- فيقول: أيرضيك أن يبين كلام الناس عنا في جمهرهم بصورة تنعى ما تنعى لنا؟! وهذا جلي من الوهلة الأولى من خلال قراءة البيت السابق، لكن المقصود – ومن وجهة نظري خلاف ذلك_ فلربما قصد الشاعر هنا كذب العواذل حين تجمهروا وافتروا عليه إفكاً وزوراً، ومصداق كلامي أو مؤيده هو البيت الثاني حينما قال (الحوادث)، والتي قصد بها ادعاء العواذل عليه عوضاً عن لومه، تلك الادعاءت التي (هوت) -ولم يقل سقطت فالهويّ أشد تحدراً من السقوط- في قلبه المتعلف المعطل عن الإعمال كما قال.
وهنا تعود نزعة المخلص الودود حينما أراحها بقوله تصديقاً لما افترى العواذل:
اللـه يعلم من سيُصدِقه الهوى فتأفّفـي مـا شئتِ أنْ تتـأففـي
وتعقّلي، لبيـكِ، كـاسرتي فما طـابت لكِ أُكُلٌ سوى من مَغْرَفي
فالله يعلم حال صدقي، فتأففي ما طاب لك التأفف من تلك الأقاويل الواهية الداحضة.
وما أجملها وما أقواها من لحظة يستجمع بها الشاعر نفسه ليعود بعصمائه على محبوبه بحال المتحدي العنيد صعب المراس الذي لا تخضعه أهوال الأحداث ولا نزول القدر، فيرجع لها بقوله:
هـذا العناد، وإنْ عَلَت أمواجُه تبقـى غُثـاءً فيـه زَبَدٌ قد نَفِـي
إنْ كنتِ مُـؤثرةَ العنـاد طبائعاً فإليـكِ أبلـغُ مِن عنـادٍ أَجْحَـف
إني أزفُّ إليـكِ تَبشـاري بمـا قد طـال من صمتي وَرَام تَوَجُّفي
أنا لستُ أيْأسُ ما حييتُ مَـواجعاً فلتُـدركي، وأشدُّ منهـا مـا خَفِي
ثم يؤكد لها نزعة المحب المتطرف في حبه المتشدد في غايته، حينما أيقن أنه إذا كان هو والحال هذه في شدة المناب من هول مصابه فله أن يهوى بصورة متطرفة تتناسب وشدة المصاب الذي يعيشه في محبوبه. كيف لا وهي التي وصفها بالحرة المختالة كالخيل الجامحة التي لا يكبح جماحها ولا يسوسها إلا متطرف في حبه، يحاول جاهداً تطوي نفسه والمصاب الذي ألم به في هيئة المتكيف الذي تكيف مع حال لا مفر منه غير التكيف.
ثم اختتم الشاعر قصيدته بدعوة المحبوب للعودة والرجوع بصيغة (الالتماس) وليس الطلب كما كان في مطلع القصيدة، لأن البيت كان له الالتماس أحرى بوقع رنينه في أذني محبوبه بداعي الرجاء الذي أعقبه الشاعر بحكمة شهيرة إذ يقول : (والعود يبقى منك أجمل موقف)
عُـودي إلى المشتاق لا أملٌ له فالعَـوْد يبقى منكِ أجمـلَ مَوْقِف
كانت هذه قراءة نقدية ووقفة مع هذه القصيدة التي أتحفتنا وأطربتنا.
فللشاعر حسن محمد نجيب كل شكرنا وامتناتنا
بقلم: أريج الريحاوي
تحية طيبة وبعد،،
لكم أطربتني هذه القصيدة العصماء في زمن خلت فيه النصوص الشعرية من أي سياقات مشرأبة الطلعة البهية وحاضرة برسخوها في أذهاننا، غير مجرد رتل كلمات زعمت بانها شعراً، وليست كذلك.
أعود أدراجي ثانية لأقف على مطلع القصيدة بقراءة متأنية، حينما يبدأ الشاعر بقوله:
أدرِكْ بجـودك سُهـدةَ المتلهِّـف حسبُ الفـؤادِ وصابُـه المتعصِّـف
أدَّيتُ وصلَـك كالفـرائض وافياً فعـلام أحظـى بالتمنُّع مجحِفـي؟!
وهذا ما عودنا عليه الشاعر الكريم من قوة البدايات التي نصب نفسه إماماً للظهور فيها لنجده توشح المطلع بفعل الأمر (أدرك)، حيث يقول نقاد البلاغة أن للكلام درجات أقواها الطلب وأضعفها الالتماس، وقد كان الطلب الدال على الأمر سبغة سبغ بها مطلع القصيدة فجاءت بذلك قوية الحضور من مطلعها.
ثم اعتماد الشاعر لإمارة البحور وهو البحر الكامل أضفى على القصيدة جواً حسياً رائعاً مستساغ الطعم في القراءة شهي الحسن العروضي لما للبحر الكامل من جمال كمل به.
ونرى الشاعر هنا اعتمد أسلوب الالتفات البين في قصيدته لنراه ينتقل برهة ما بين المخاطب إلى المتكلم إلى الغائب وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على قوة البديعية الحاضرة في ذهنه. ثم راجح الشاعر امراً ما يزال شغل فكره وهو التمنع المجحف الذي كان الاستفهام الاستنكاري فيه نقطة الصراع التي يعيشها الشاعر لحظة الكتابة التي أردفها بالأمر مرة أخرى بقوله (أسعف)، فيعود بها من جديد عودة الزحافات العروضية ليقول (وما من مسعف)، هنا تكمن براعة النص حينما يجرد الشاعر من نفسه شخصاً ينشده مساعفة ليدرك أخيراً حاله غارقة في لجج الصراع مع النفس مرة أخرى إذ أيقن أنه ما من مسعف سوى الحبيب الذي يطوف في خواطره وهمساته حين يقول:
مـا بين خـاطرةٍ تجيءُ وهمسةٍ أسعفْ بهـا قلبي، فمـا مِن مُسعِف
وما أجمل ما أردفه الشاعر حسن بعد هذا البيت إذ افتقر إلى صدق العواذل الذين هام مجلسهم باللوم والعتاب وحال نواياهم كان خلافاً ونقيضاً مع ذلك. وبذا سألهم مستنكراً مرة أخرى بقوله (أين العواذل؟) وهنا تظهر كلمة (أناشدهم)، فنقف برهة ونتساءل لماذا لم يقل الشاعر (أنشدهم) وإنما استعاض عنها بكلمة (أناشدهم)، هنا الإجابة تكمن في قول الزمخشري في كتابه (أساس البلاغة) بقوله: إن الصيغة التي تأتي على وزن أُفاعل تكون أقوى بزيادة الألف من التي تكون على وزن أفعل ومثلها نقول: أحضر وأحاضر وأجهر وأجاهر فأجاهر بالفعل أقوى حضوراً لتأكيد المعنى من جملة أجهر بالفعل لعلة حرف الألف المستبينة.
ثم يعود الشاعر ليؤكد خطأ العواذل الذين أجمع النقاد على اشتمال كلمة العواذل على صيغة المذكر والمؤنث على نقيض من كلمة (العاذلات) التي كانت حكراً على جمع المؤنث.
يعود الشاعر ليدرأ عنه خطأ العواذل بلومه في إسرافه بالحب، وهو أعلمهم بحال نفسه حينما قال (لست بمسرف) وما أروع هذا الرد !! وهذه الجملة وحدها كفيلة برده، لكنه أتبعها بحكمته التالية:
أَوَمسرفٌ مَن كـان مَلْكُ فـؤاده في كف من يهوى رهيـن تَقَشُّف؟!
وإلام عـذلُ العـاذلين؟!، وإنهم أرزى بهـم عـذلٌ لقـارِف مَنْكَف
ثم نرى الشاعر استعان بأسلوب الطباق حينما طابق بين كلمتي (أغيض) (يفيض) كما في قوله:
هو ذاك صب في الهوى وأغيضه فيفيضني في سـاحة المستطـرَف
لنرى أن الشاعر حاول تحجيم صبوه عبثاً، فكان الفيض من هذا الصب أن استطرفه جم الاستطراف المركون بعيداً عن غايته.
يرجع الشاعر ويسأل شخصه المجرد، سؤال القابع في أدراج العتمة:
ألِحسنـه العـاتيِّ إنْ أشقى بـه حينـاً، ويؤنسُني إِماض تـزلُّفي؟!
فيمـا إذن أَشْقى بهَوْل غرامه؟! ونعيمُـه زُلفـى بمــاءِ تكلُّفـي
ولمنْ سهادي كان، لا عُدِم الكرى إنْ طاف جنّيُّ الهوى في مَطْرَفي؟!
ولمنْ سبيلي كـان كـلَّ رجائه وله السبيـلُ إلى صدودٍ أعْنَـف؟!
وما أجملها من لحظات يحاكي فيها الشاعر نفسه بهذا الحس الحنون!! وهنا كانت العقدة (الحبكة) ظاهرة جلية بالفكرة المستوحاة مما ينشده الشاعر من قصيدته، فالمناسبة كانت قريناً متلازماً جاء من وحي المطلع وهي الحنين والتحنان إلى عودة محبوبه، لكن العقدة اقتضت أن يكون الحسن العاتي وإماض التزلف والشقوة بالسهاد اللليلي وجني الهوى أردفاف مصابه وحنوه.
ثم يبدو الجمال ساحراً أخاذاً حينما نادى الشاعر محبوبه بقوله:
يا متعِبي، رُحماك، كم أتعبتني!! يا شـاغِلي بالفكـرِ فيـكَ ومُتلِفي
وأكاد أعرف صفات محبوبه من هذا البيت.
وهنا يعود الشاعر ليخلع عن نفسه رداء اليأس مصارحاً محبوبه بقوله:
تحتاج كل صراحتي، فاسمعْ لها ما كان من شأن الصراحة مُحْصِف
حـاولتُ كَبْحَ صبـابتي متحدياً قصفَ الهوى لأضالعي إنْ يقصِف
وزهدت كالصوفيِّ في دحضـاضةٍ فيهـا انقطـاعُ تعفُّـفٍ وتصوُّف
ورغبتُ لا أبغـي الهوى أذياله تـأتي بـلا إذنٍ ... ولا بتصرُّف
لكنـه التهيـام كيف أصـده؟! يَثْني بِعِطْفِ المنكبيـنِ بمِعْطفـي
وأمـامَ بابي قـابـعٌ أطيـافُه كالسحْـرِ بـاقٍ لا يغادر مَطْرَفي
والغـرفةُ الظلماءُ يخبو نورُها وتأنُّ في جُـدُرٍ لتُسمـعَ مَلْحَفـي
والقهوة السمـراءُ فـي فنجانها بَرَدَتْ، فليستْ تُستطـاب بِمَرشَف
كانت لـه ودعاً تلامس صَفْحَه بشفـاهِ لَثْـمٍ كـالأديـم المُدْلِـف
وقِـداحُ تحنو كالشقائق صبوةً يَنْـداحُ مَلْسَمُهـا لِكفَّـيْ أهيـف
وأسـاورٌ ... وقـلادةٌ تَـوَّاقةٌ للجِيْدِ ...أو للمِعْصَـم المتَـورِّف
بكيتْ رحيلِك كالصغيرة أدمعـاً لمّـا تَزَلْ تُدمي الأسى المستنزَف
فنرى اعتراف الشاعر البين أمام محبوبه بمصابه، عل المحبوب تأسره فياضة الحزن الخارجة من لثم الشاعر فيترجمها إلى لغة (العوْد) ويسعف حال الشاعر. ونرى تذكير الشاعر بما درس من توابع المحبوب وما كان يحن إليه من فنجانه وقهوته السمراء وأساوره وقلادته وهي توابع تذكر الحبيب بما كان من صفاء الأيام الخوالي ونقاوة العيش الهني، فآثر إلا الغياب فاستفقدته بذلك هذه التوابع المادية التي ارتأى الشاعر تذكيره بها علها تكون سبباً منشوداً وغاية ملحة في عودته.
يقول الأستاذ أبو هلال العسكري في كتابه (معاني الحروف) هناك كلمات بها فوارق وأضداد تستعمل لتشتيت العلة التي خلص بها الكاتبن والكاتب هنا كانت علته غياب محبوبه فاستعمل عدة كلمات تكون مدعاة لعودة الحبيب مثل (فنجان القهوة) (الأساور) (القلادة) (الغرفة) ... إلخ من الكلمات التي فاض بها النص الشعري.
ونرى هنا أسلوب التورية الكائن في هذا النص:
أيَِبِينُ من دعوى الأنـام لسانُهم عن جَمْهَرٍ يَنعى لِمَـا لم تعرِفي؟!
وتكذِّب الأحـداثُ منك مواجعاً لمّـا هَوَتْ في قلب ذاك المُتلَف؟!
حيث تحدث الشاعر بأمر قصد غيره، عندما قال (أيبين من دعوى الأنام لسانهم)، فقد قصد الشاعر هنا – من وجهة نظري- سؤال نفسه وليس السؤال موجهاً إلى محبوبته- فيقول: أيرضيك أن يبين كلام الناس عنا في جمهرهم بصورة تنعى ما تنعى لنا؟! وهذا جلي من الوهلة الأولى من خلال قراءة البيت السابق، لكن المقصود – ومن وجهة نظري خلاف ذلك_ فلربما قصد الشاعر هنا كذب العواذل حين تجمهروا وافتروا عليه إفكاً وزوراً، ومصداق كلامي أو مؤيده هو البيت الثاني حينما قال (الحوادث)، والتي قصد بها ادعاء العواذل عليه عوضاً عن لومه، تلك الادعاءت التي (هوت) -ولم يقل سقطت فالهويّ أشد تحدراً من السقوط- في قلبه المتعلف المعطل عن الإعمال كما قال.
وهنا تعود نزعة المخلص الودود حينما أراحها بقوله تصديقاً لما افترى العواذل:
اللـه يعلم من سيُصدِقه الهوى فتأفّفـي مـا شئتِ أنْ تتـأففـي
وتعقّلي، لبيـكِ، كـاسرتي فما طـابت لكِ أُكُلٌ سوى من مَغْرَفي
فالله يعلم حال صدقي، فتأففي ما طاب لك التأفف من تلك الأقاويل الواهية الداحضة.
وما أجملها وما أقواها من لحظة يستجمع بها الشاعر نفسه ليعود بعصمائه على محبوبه بحال المتحدي العنيد صعب المراس الذي لا تخضعه أهوال الأحداث ولا نزول القدر، فيرجع لها بقوله:
هـذا العناد، وإنْ عَلَت أمواجُه تبقـى غُثـاءً فيـه زَبَدٌ قد نَفِـي
إنْ كنتِ مُـؤثرةَ العنـاد طبائعاً فإليـكِ أبلـغُ مِن عنـادٍ أَجْحَـف
إني أزفُّ إليـكِ تَبشـاري بمـا قد طـال من صمتي وَرَام تَوَجُّفي
أنا لستُ أيْأسُ ما حييتُ مَـواجعاً فلتُـدركي، وأشدُّ منهـا مـا خَفِي
ثم يؤكد لها نزعة المحب المتطرف في حبه المتشدد في غايته، حينما أيقن أنه إذا كان هو والحال هذه في شدة المناب من هول مصابه فله أن يهوى بصورة متطرفة تتناسب وشدة المصاب الذي يعيشه في محبوبه. كيف لا وهي التي وصفها بالحرة المختالة كالخيل الجامحة التي لا يكبح جماحها ولا يسوسها إلا متطرف في حبه، يحاول جاهداً تطوي نفسه والمصاب الذي ألم به في هيئة المتكيف الذي تكيف مع حال لا مفر منه غير التكيف.
ثم اختتم الشاعر قصيدته بدعوة المحبوب للعودة والرجوع بصيغة (الالتماس) وليس الطلب كما كان في مطلع القصيدة، لأن البيت كان له الالتماس أحرى بوقع رنينه في أذني محبوبه بداعي الرجاء الذي أعقبه الشاعر بحكمة شهيرة إذ يقول : (والعود يبقى منك أجمل موقف)
عُـودي إلى المشتاق لا أملٌ له فالعَـوْد يبقى منكِ أجمـلَ مَوْقِف
كانت هذه قراءة نقدية ووقفة مع هذه القصيدة التي أتحفتنا وأطربتنا.
فللشاعر حسن محمد نجيب كل شكرنا وامتناتنا
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني