في منتصف القرن التاسع عشر أصدر الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير عمله الأدبي الأول: مدام بوفاري. بعد ذلك بفترة زمنية تراوح سبعة عشر سنة أصدر الروائي الروسي تولستوي عمل من أشهر أعماله: آنا كارينينا. وبعد ذلك بفترة زمنية تقارب خمسين سنة أصدر الروائي الإنجليزي ديفيد لوانس أشهر أعماله: عشيق الليدي تشاترلي.
قبل سنتين قرأت آنا كارينينا, والسنة الماضية قرأت عشيق الليدي تشاترلي, وبدأت هذه السنة بمدام بوفاري. أكملت سلسلة الأعمال التي تحمل ثيمة واحدة هي الخيانة الزوجية. لن أبالغ إذا قلت أن مدام بوفاري لم تعجبني بعد أن أتممتها. هل يعود ذلك إلى أسلوب فلوبير؟ بالتأكيد لا. بل يستحق فلوبير أن يوصف بالروائي الذي يفكر بالكلمة قبل أن يضعها في مكانها الصحيح. كل كلمة وكل سطر كتب بدقة متناهية إلى درجة أن إزالة كلمة واحدة قد تعطي معناً آخر غير المعنى الذي يقصده المؤلف. هل يعود ذلك إلى واقعية فلوبير؟ ربما يكون هو السبب الرئيس. ولكن لماذا لم تعجبني؟ عندما نتحدث عن أي رواية قد نسمع هذا الرأي: جمالها في واقعيتها, وعند قراءة مدام بوفاري والتي هي أشد واقعية من مثيلاتها الآخريات أقول لم تعجبني! مع أنها شديدة الواقعية ورسم فلوبير شخصيات هي أقرب للحقيقة من أي عمل آخر. لا أعرف بماذا أفسر هذا السؤال الغريب. ربما يتضح ذلك بعد قراءة ردود الفعل والتصريحات التي صدرت من المؤلفين أنفسهم بعدما كتبوا هذه الأعمال التي قوبلت بثناء شديد وهجوم لا يقل حدة عن الثناء.
بعد أن أغلقت الصفحة الأخيرة من
آنا كارينينا قبل سنتين تمنيت لو أن الرواية كانت أطول من ذلك بكثير, لم يفارقني قط جمال هذه الرواية, والتي هي من أجمل ما قرأت في الأدب. عمل إعجازي فني لا يجود الزمن بمثله. قوة هذا العمل في تلك الشخصيتين: آنا كارينينا, وقسطنطين ليفين. قدرة تولستوي الفذة في رسم شخصياته عبر اقتياد القارئ إلى أماكن شاسعة في النفس البشرية, إلى درجة أن كل قارئ لا يستطيع أن يصدر حكماً على أي من الشخصيات. قتل تولستوي مِلكة الحكم الأولي على الشخصيات وسرنا معه في الطريق مع آنا كارينينا وهي تسأل لماذا؟ وبموازة ذلك كنا نتبع الطريق مع ليفين الذي يبحث عن سر الحياة وجعل الحياة محتملة مع تلك الآلام التي تعذب الروح. رغم أن كل شخصية تعبر عن أفكارها إلا أن سلطة الرأي لدى القارئ تتجه لدى المجتمع وليس إلى الشخصيات نفسها. رد الفعل الذي أتبع آنا كارينينا هي في
اعترافات تولستوي. من يقرأ الاعترافات سيجد روح قسطنطين ليفين هي نفسها روح تولستوي في بحثها عن الله والإيمان بعد مروره بعدة مراحل فنية وشعرية حتى لا يصل إلى ما وصل أخيه الذي توفي بداء السل. يرى كونديرا أن تولستوي كسر حاجزا شاسعاً في الرواية عبر تحطيمه لسيرة البطل الذي بموته ينتهي العمل الأدبي, فهو لم يتوقف بعد أن حطم أعظم شخصياته بل استمر في الخط الثاني وأضحت سيرة البطل مجرد صدى يتلاشى وخطى رشيقة لذكرى تبتعد.
في
عشيق الليدي تشاترلي رد الفعل الذي تلقاه ديفيد لورانس هو نفس رد الفعل الذي تلقاه جوستاف فلوبير, وإن كان أشد وطأة: المحاكمة بتهمة الفساد الأخلاقي في العمل الأدبي. رواية ديفيد لورانس منعت لعقود وتم وصف الكاتب بالمؤلف الإباحي نظراً لحديثه الصريح عن الجنس. بعد ذلك بعدة عقود تم فسح الرواية في انجلترا ووصفت بالعمل الأخلاقي وكاتبها بالمؤلف الذي يضع العلاقة الجنسية في إطار من القدسية والجلال والاحترام. كان لورانس يتحدث بصراحة في الرواية ولا يسلك طريق الرمز في وصف العلاقة. وحتى خيانة الليدي تشاترلي لم تكن بهدف تجميل الخيانة أو شيء من هذا القبيل. الجنس في عمل لورانس هو وسيلة لرسم صورة حية وصادقة للجنس الحقيقي, الجنس الذي تم تدميره تحت غطاء العاطفة المزيفة والحب الكاذب, ذلك الذي سقطت فيه إيما بوفاري بكل مافيها. لم يسمح الزمان للورانس بأن يقف في قاعة المحكمة يدافع عن عمله هذا. ولو وقف فأنا متأكد بأن لن يقوم بأي دفاع للرواية, بل سيقرأ المقال الذي كتبه عن الرواية والمعنون برؤية ذاتية عن عشيق الليدي تشاترلي. وفي نظري أن المحكمة ستعطيه الفسح اللازم لنشر روايته بعد أن يقرأ هذا الجزء من مقاله: هم يتهمونني بالبربرية, وبأنني أريد العودة بإنجلترا إلى البدائية, ولكن ما اعتبره بربرياً وبدائياً هو البلاهة والموت فيما يتعلق بالجنس. الرجل الذي يجد أكثر أجزاء المرأة إثارة ملابسها الداخلية هو الذي يكون بربرياً. يقول السيد برنارد شو أن أعظم عاهرة في أوروبا هي من يجب أن تستشار في أمور الجنس. وهو في ذلك على حق, العاهرة الأعظم ستعرف عن الجنس ما يعرفه السيد برنارد شو نفسه, الجنس المزيف الذي يمارس بالتحايل والخداع, لا تعرف عن الجنس الذي له إيقاع الفصول والسنين ودفء الشتاء وعاطفة الربيع, لن تعرف عن هذا الشيء أبداً, لأنها لكي تكون عاهرة يجب أن تفقده أولاً.
تولستوي أدان المجتمع وأضحت آنا كارينينا بريئة في نظر القارئ الذي غاص في نفسية هذا المجتمع وانكشف كل الزيف والخداع الذي غلف هذه العلاقات الإجتماعية. لورانس لم يكن مهتماً بإدانه الليدي تشاترلي, فهي تحمل فكرة يريد أن يوصلها المؤلف إلى كل القراء وأفراد المجتمع الصناعي الذي أضحت علاقة أفراده مع بعضهم البعض مادية بحتة. أما جوستاف فلوبير في مدام بوفاري فهو لم يتردد بإدانه إيما بوفاري وإن لم يقل ذلك صراحة. مجمل العمل الفني بشكل عام ينطبق في أي مجتمع من المجتمعات. إيما بوفاري فتاة لمزارع عاشت في حضن المؤسسة الدينية لثلاثة عشر سنة. لم تكن تحفل بأي علاقة قد تقودها إلى درب يحمل سمة الخطيئة, وإن كان تتمنى أن ترتكب الأخطاء حتى تذهب وتطلب المغفرة والرحمة نظراً لحرارة تدينها ولتأثير المكان الذي تربت فيه. عند أول اصطدام لها مع العالم الخارجي مع زوجها الذي يحمل صفات عادية ولا يستطيع التعبير عن نفسه كما يجب, تتفاجئ بهذا العالم الذي لا تعرف عنه شيئاً وأصبح بابا مشرعاً لسعادتها. لم تلبث أن انساقت إلى اقناع نفسها بأن حب زوجها خال من الحرارة. أصبحت أوقات انطلاقه وتحلله منتظمة. يقبلها في مواعيد معينة وكأنه يمارس عادة من العادات, أو كأنه يتناول حلوى بعد عشاء ممل. كانت أفكارها لا تلبث أن تهيم بلا غاية: لماذا تزوجت؟ تركت رحلتها الأولى إلى عالم ليس من عالمها, وإلى طبقة ليس من طبقتها ثغرة في حياتها كتلك الثغرات الواسعة التي تخلفها العاصفة في الجبال أحياناً في ليلة واحدة. هي تعتقد أن الحب يأتي فجأة مصحوباً برعد وبرق كما لو كانت عاصفة تنقض من السماء على الأرض, فتقلب كيانها وتنتزع الإرادات انتزاعها لأوراق الشجر, وتجرف القلب, ولم تعلم إلى أن المطر يحيل الشرفات إلى بحيرات إذا كان الميازيب مغلقة, حتى اكتشفت ذات يوم صدعاً في الجدار.
أين جمال الرواية الذي ابحث عنه؟ بصراحة لم أجده في عمل فلوبير, وإنما في دفاع المحامي انطوان ساير الذي أعد مرافعة دفاع عن الرواية في محاكمة جوستاف فلوبير وناشر روايته, والتي اعتبرها نقد أدبي جميل وممتع يكشف جمال الرواية في كل صفحة. لم استمتع قط بقراءة الرواية, رغم مقدرة فلوبير الجميلة القادرة على جمع الجمال والقبح في سطر واحد وفي كلمات معدودة. وفي مرافعة محامي الدفاع التي أجدها أجمل من الرواية يحلل المحامي النص الأدبي ويكشف كيف يتم تحويل النص الذي يُقال أنه مثير للشهوات إلى نص صريح في إدانه لهذه الأفعال, بالإضافة لتحليل شخصيات العمل الفني الواقعية ويقارن بعض المقاطع بمقاطع أخرى مقتبسة من فلاسفة فرنسيين تلقى القبول في المؤسسات الرسمية والشعبية, بينما في عمل فلوبير تتلقى الهجوم وتحاكم بتهمة الفساد الاخلاقي والديني. من أكثر أجزاء الرواية التي استند عليها الإدعاء العام في دعواه تجاه فلوبير بتهمة الفساد الأخلاقي هي هذه الجزئية التي اقتصها المدعي العام بشكل جزئي ولم يظهرها بشكل كامل: كانت تعد نفسها بسعادة عميقة في كل رحلة مقبلة. ثم كانت تعترف بأنها لم تحس بشيء خارق للعادة. وأمحت هذه الخيبة تحت تأثير أمل جديد. عادت إليه إيما بوفاري أكثر اشتعالاً ونهماً, فكانت تتعرى في عنف, وتنزع شريط صدرها الرفيع الذي يدور حول ردفيها كما يتسلل الثعبان, وكانت تذهب على أطراف أصابعها العارية لكي تتأكد مرة أخرى من أن الباب مغلق, ثم تسقط ملابسها كلها بحركة واحدة, وتتهالك على صدره شاحبة صامتة في رعشة طويلة.
في هذه الجزئية يثني المدعي العام على موهبة فلوبير التصويرية, لكنه يتهمه – عبر هذا التصوير الفني – بأنه ملعون من حيث الأخلاق ويجمل علاقات الخيانة. بينما محامي الدفاع أكمل عند النقطة التي توقف عندها المدعي: ومع ذلك فقد كان فوق جبينها المغطى بقطرات العرق الباردة, وفوق شفتيها المتمتمتين, وفي حدقتيها الضالتين, وفي ضمة ذارعيها, شيء مسرف وغامض, مقبض, يلوح لليون أن ينساب بينهما في تسلل, وكأنه يقود أن يفصل بينهما .. أيها السيد محامي الإمبراطورية, تقول أن هذا لوناً شهوانياً ويثير ويحرك الحواس .. لكن ها هنا الموت في هذه الصفحات! الموت في هذه الصفحات!.
في مقالة ديفيد لورانس كان لورانس يهاجم عاطفة الحب المزيف والمتعة الآنية الخالية من العواطف البشرية الصادقة والحارة, والتي تقود لاحقاً إلى تفجر الكراهية بين الزوجين بشكل غريب وغير ظاهر الأسباب. لم يذكر لورانس أمثلة من التاريخ ليدلل على ذلك, ولو استعان بشخصية مدام بوفاري للتدليل على ذلك سيكون واضحاً بشكل مرعب. في الوقت الذي تقترف إيما بوفاري الخطيئة تعترف – وهي في قوة غمرتها وسعادتها مع عشيقها – أن هناك خطأ ما, هناك خطأ في هذه العلاقة. هذا الخطأ يمتد إلى كل حياتها الزوجية ويتأثر بذلك زوجها وابنتها, يقودها هذا الزيف إلى الكذب على نفسها بأنها تعيش سعادة غامرة بينما هي تؤجل تفجر الأمر لوقت لاحق حتى يتم الإعلان في شوارع الريف أن المنزل الذي تسكنه أصبح مصادراً بسبب ارتفاع فوائد القروض التي أخذتها إرضاءً لنزواتها.
كنت قد تحدثت سابقاً عن جمال التصوير الفني للموت في آنا كارينينا. وكيف أن تولستوي غاص في نفس آنا حتى كتب مشهد تصويرياً للموت لا مثيل له. هذا الجمال التصويري صادم, خلاق, يشرك تولستوي قارئه مع آنا في طريقها نحو سكة القطار. حتى كونديرا عندما نشر كتابه الستارة خصص مقال للحظات الأخيرة من حياة آنا بعنوان جمال الموت. وهو صادق في هذه الجملة. بينما في مدام بوفاري لا أظن كونديرا أو أي قارئ آخر سيقول جمال الموت, بل قبح الموت: ذلك الزرنيخ الأسود الذي يطل من اللسان كوحش منتقم من بشاعة الإنسان في حياته الواقعية.
شاهدت فيلم كلود شابرول Madame Bovary 1991, رغم أني انتصر للرواية ولكن هذه المرة سأقول أن الفيلم كان أكثر وضوحاً وخفة من تفاهة تفاصيل الحياة اليومية التي يقذفها فلوبير في كل سطر من سطور الرواية. قال أحدهم أن ردة الفعل التي ترفض الرواية لعدم جمالها, على رواية تشاؤمية مثل مدام بوفاري, فهذا يعني أن المؤلف نجح نجاحاً تاماً في إيصال ما يريده إلى القارئ بكل دقة. إن كان هذا هو ما يريده المؤلف فيجب أن يعرف فلوبير أنه أوصل وجهة نظره إلي بالتمام, وبالتأكيد لن أقرأ له مرة أخرى.
منقولة
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني