توتر الذات في( الخروج) للأديب فوزي غزلان
إن الذات التي يعبر عنها الأديب فوزي غزلان، هي ذات التوتر نتيجة لشعورها بالقلق، والضياع، والغربة، والتهميش، والإقصاء... وعيشها في فضاء محدود...
هذا الشعور الطافح الذي يقص جناحي النفس، ويمنعها عن التحليق، يؤدي إلى فقدان الإحساس بالتواصل مع المحيط، ومع الآخر، في بعديهما المكاني/الزماني، والإنساني...
- فهل هي نوع من السلبية في مجابهة هذا المحيط، وثقب هذا الواقع؟.
- هل هو نوع من فشل الذات في خلق نوع من التواصل الفعال مع المحيط، وفضائه؟.
- هل هو نوع من التعارض نتيجة التوتر الذي تحسه الذات؟.
هذا كله يكرس السلبية، والقطيعة. ويجعل من التوتر والقلق، والشعور بالغربة عند الأديب فوزي غزلان، تتحول إلى ثقافة مضادة، تقوم على دفع الذات إلى اختراق هذه الغربة، وتحويل التوتر إلى ردة فعل تثور على الكائن والموروث.
هذه الثورة نلحظها حتى في نمطية الكتابة عند فوزي غزلان، حيث يثور على الشكل لأنه يعتبره هو أيضا سجنا يخنق الكتابة الإبداعية.
إنها مفارقة سردية صعبة، يعيها الأستاذ فوزي غزلان، ويتخذها تعبيرا عن الذات والواقع في الآن نفسه.
إنه يتوق إلى الحرية والانعتاق. والكتابة عنده هي نوع من الانعتاق، والانطلاق إلى فضاءات أوسع:<< إنها كتابة القطيعة والنشاز بين الذات والواقع نتيجة للتغييب المفروض لإشكاليتها التاريخية المبنية على الرغبة كقوة مؤكدة للوجود الذاتي، وهو ما يؤدي إلى الإحساس بالاغتراب، ويجعل من التوتر حوارا ثقافيا عنيفا يرفض النسق المهيمن>> ( محمد الدوهو، حفريات في الرواية المغربية: الكتابة والمجال، نشر سعد الورزازي للنشر، الرباط، ط1، 2005، ص: 15).
إن التوتر عند الأديب فوزي غزلان توتر وجودي، يقوم على صراع نفسي بين السارد كفرد، وذاته. والبنية العامة التي توجهه، وتدبره، وتحدد أدواره وأفعاله... إنه صراع نفسي تولد نتيجة الصراع العام بين الفرد كذات، والمحيط الخارجي، الذي يريد أن يقزمه، ويجعله على المقاس.
إنه نوع من الصراع بين الداخل والخارج، وبين الباطني والظاهري أي بين الجواني والبراني. وبالتالي تصبح الكتابة متنفسا لهذا الصراع، وكوة تطل منها الذات الحبيسة على العالم.
إن فوزي غزلان يرفض الاستسلام، والاقتناع بالهزيمة، وتقبل الواقع. بل يحارب هذا الاغتراب، وهذه الغربة، وهذا التهميش، والإقصاء برد فعل، يمكن أن يكون على اقل تقدير شيئا من الحلم...
ففي الحلم يكتشف الشساعة، ويكتشف المطلق، ويكتشف الحقيقة، والوجود.
في الحلم يؤسس للزمان والمكان، ويخلق عوالم، فيها نسبة كبيرة من الطوباوية، والعجائبية.
إنه بواسطة الحلم يخرج من الدهشة. ومن خلاله يفكر في المستقبل، وما ستكون عليه قابل الأيام.
كما أننا نكتشف أمرا جديدا، وهو أن هذا التوتر الذي يحس به السارد، يولده الانتظار في الذي يمكن أن يكون غدا....انتظار لحظة الانطلاق، لحظة الخروج من هذه العزلة.
إن المسألة نوع من العبثية. لأن كل الأفعال مرهونة بفعل واحد... وهو متى تنتهي لحظة الانتظار. فانتهاؤها تنتج عنه مجموعة من المتغيرات.
إن الذات ومضة ( خروج) لا تستطيع أن تفعل شيئا. لأنها مقيدة، ومشروطة بالانتظار، الذي لا تعرف الذات متى سينتهي...
هذا الانتظار ينتج عنه الرفض لكل الوجود الذي يوجد داخل الانتظار، وبالتالي يصبح الخارج مناقضا للداخل، ويصبح الداخل سكونا، وقيدان وسلبية، ونوعا من الموت،بعكس الخارج الذي يصبح حركة وحيوية، وحياة، أملا وإشراقا جديدا...
هل نحن كبشر في مجتمعاتنا نعيش داخل أو خارج؟. وهل نحن في ذواتنا داخلا أو خارجا؟. وأين الذات من الحلم؟.
إن هذا يخلق نوعا من التفكير العصابي، وانخفاض التوازن النفسي، لأن هذا كله يغرق الذات في صمت سحيق...وإذا انغمست الذات في الصمت والسكوت القهري، آلت إلى الفقدان والجنون.
لذا يصبح الخروج، وانتظار الخروج نوعا من الحياة الثانية، في عالم ثان مغاير للأول. هذا كله يجعلنا نحس أن هذه الذات تتحول في لحظات قصيرة من ذات سوية إلى ذات مريضة غير قانعة أو على الأصح رافضة لما هو موجود. وهذا يسبب للذات نوعا من الشرخ، ونوعا من الانفصام في الشخصية. فتصبح الذات بشخصيتين: شخصية رافضة للكائن والموجود، أي رافضة للداخل. وشخصية مترقبة للخروج، حالمة بما تراه في هذا العالم الخارجي.
هذا الانتظار يعمي الذات المنتظرة عن رؤية الأشياء، والموجودات،ولا تقبل بها كما هي...لذا يعتمد آلة سيكولوجية للهروب نوعا ما من هذه الحقيقة المرة، وهذه الآلة هي الحلم.
فماذا يعني الحلم عند فوزي غزلان؟.
الحلم نوع من الانعتاق، سفر بعيد عن الضوضاء، والحركة الفوضوية، ووضع حد لحرقات الشمس اللاهية... إنه أيضا رؤية ما يريد أن يرى، لا أن يرى ما يفرض عليه رؤيته.
إنه في نهاية المطاف يعتمد هذه الوسيلة التي يعيد بها توازنه، ويزيل بها اضطرابه، وينهي بها لهفته. وهذا كله – كما أسلفت- يخلق نوعا من العصاب، الذي يحدث في الذات، ووعيها شرخا نفسيان يترجمه السارد إلى هذا الترقب، وهذا الانتظار، وهذا التطلع، وهذا الرفض...
ويتجلى :<< هذا الانشراخ الروحي في هيمنة خطاب الاستيهامات على تفكير الذات المحلوم بتحققها ، والموضوع المفقود في الزمان والمكان سبب الرغبة، ومرتكز الاستيهامات التي تتجسد كنقص وحرمان في لغة الذات>>( Dictionnaire de la psychanalyse, sous la direction de Roland, Schêmama, 1993,Article, Désire
<< يجلس/ على جبينه وشم شمس حارقة...
لا يرى ما يرى/ فقط...
يحلم باليوم الذي سيكون فيه خارج السجن>>.
لكن ...رغم الحلم بالخروج من هذا السجن، تعود الذات في لحظاتها الحالمة لتصطدم بجدار الواقع. هذا الواقع الذي يقف في انطلاق حلمه إلى ما لا نهاية، ليعيده إلى فضاء الاكتظاظ، والضجيج والفوضى، والانحباس...
ويقف بينه وبين التحقق الكامل، حيث يصبح التحقق رهين الخروج من هذا السجن.
هذا الخروج غير معلوم، والذي يزيد الذات غموضا واغترابا،وصمتان وانكماشا...
فهل تستطيع الذات أن تتعايش مع هذا الواقع/ الداخل؟.
إن الذات المحرومة، والرافضة لا يمكنها أن تتعايش مع هذا الوضع. وبالتالي ترفض التعايش، ورفضها هذا يتمثل في حلمها، وانتظارها وترقبها لحظة الخروج...وتحقيق هذه الأمنية ينتج عنه صراع نفسي حاد...
لماذا لا تستطيع التعايش مع هذا الواقع/ الداخل؟.
لأنه لا يمثل طموحات الذات.. ويحمل من الزيف ما لا تطيقه هذه الذات... كما أن هذا الواقع يحرمها من أهم شيء لها، وهو: الحرية والحلم، والانعتاق.
كما أن هذه الذات ترفض التناقض بكل أشكاله. فالضجيج مناقض للهدوء. والحركة الدائمة مناقضة للسكينة. وامتدادا الشوارع مناقض للنهاية، والمحدودية. والبنايات والشقق مناقضتان للحرية، واللاحواجز. والنوافذ مناقضة للأفق الرحب، وشساعته...
<< تتحول الذات الحالمة في سعيها الدؤوب للتحقق. وهي تواجه الواقع، إلى ذات دونكشوطية باحثة، على مستوى اللاوعي عن تشابه للكلمات مع الأشياء. بيد انتفاء الثقة بين الذات والمجتمع يجعل التعايش بينها مستحيلا في الزمان والمكان>> ( محمد الدوهو، المرجع نفسه، ص: 17).
إن قصة ( الخروج) للأديب فوزي غزلان تؤكد على تجاذب المكان والزمان. بل إن الانتظار للحظات الخروج يجعل المكان يخضع لسلطة الزمان وديناميته. وبالتالي يرتبط المكان بالزمان ارتباطا وطيدا. وبالتالي تصبح ميكانيزمات القصة القابلة للتأويل والانفتاح خاضعة لهذا التجاذب المكاني/ الزماني:<< وهذا لن يتحقق إلا بالمرور عبر بوابة الكرونطوب>> (Henri Mitterand : Chronotopies romanesques , Germinal,Revue poétique, Février, 1990, seuil, No : 81)
وهذا الكرونطوب، نجده عند فوزي غزلان يقوم على ثنائية التوتر والرفض، والانتظار والحلم، والداخل والخارج.
والنص الذي أمامنا( الخروج) نص كاشف، وفاضح، وواش. إنه يفضح واقعا موبوءا يريد أديبنا كشفه ن وتعريته.
والأديب فوزي غزلان من خلال هذه الومضة، والتي هي فن قصصي يعتمد على الحذف، والتكثيف، والإبراق السريع، والمكثف، يخرق الشكل، ومفهوم الأجناسية. حيث تتخذ شكل الأسطر الشعرية:
<<يجلس على الرصيف..
يرحل بعيدا في الضجيج واستعصاء الأجوبة.
الحركة في الشارع لا تهدأ.
كان الشوارع لا تفضي إلى نهاية.
البنايات والشقق والداخلون والخارجون إلى المقفلات
تتصالح مع الامتداد المالح للصحراء
والشبابيك تطل على الشمس وروائح الأحلام
ثم تطل على الشبق الليلي وبكارات المهول...
يجلس...
على جبينه وشم شمس حارقة...
لا يرى ما يرى
فقط
يحلم باليوم الذي سيكون فيه خارج السجن....>>.
وبذلك يخرق ويهدم الشكل، وذلك باعتماده التأثير المشهدي، والحركة، والتكثيف بالصورة، والمشاهد،والتبليغ الإشاري والمجازي، والترميز.
ففي هذه الومضة( الخروج) تقفز قضية الشكل والمضمون، طارحة إشكالية كبيرة. فعلى مستوى الكتابة، نجد فيها نوعا من الهدم المنهجي للشكل التقليدي المعروف. و خرقا يتمثل في رهان الشكل القصصي ككل. حيث يذيب الفوارق الشكلية، والخصائص النوعية بين الومضة والقصيدة. وبالتالي جاءت كتابته( الخروج) قائمة على صراع ثابت بين الوظيفة المرجعية والوظيفة الشعرية.
وهو صراع يفتح الأفق القصصي أمام المزج والخلط بين القصة والقصيدة( النثر والشعر).
وهذا يبين وعي فوزي غزلان بالتحول في مفهوم الكتابة القصصية ، ووظيفتها. وبذلك يتحقق لديه مبدأ التداخل النوعي، والأجناسي، ويتصل الشعري بالنثري ضمن بوتقة النوع القصصي.
إنه بذلك يكسر رتابة الحكي، وثقل السرد، ويخرج عن المألوف والموروث.
إنه تمرد على الشكل المعروف والمتبادل، أي رفض للنموذج القصصي المعروف، فيكسر البناء الدرامي الأرسطي المستند إلى المقدمة والعرض والخاتمة ( محمد داني، الكتابة والرهانات، ص:16).
كما أن ( الخروج) تحضر فيها النهاية القوية، والمعبرة والموحية.
وهذا كله يشكل الرفض عند فوزي غزلان لكل ما يعيق حريته، وانعتاقه. فكتابته انفلات من ربقة الموروث، ومن نير الكلاسيكية وقوانينها العتيقة.
لقد أصبحت الكتابة عنده ميثاقا حداثيا تطوريان ثوريا على الموروث، حيث يخرج المكتوب عن حدود خطيته إلى آفاق لا متناهية، خاصة وان الدور الأساسي للأدب ، يكمن في فعل طرح الأسئلة ، وعلامات الاستفهام( حسن بورقية، وهج الكتابة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص:6).
هكذا نجد فوزي غزلان يهتم بالشكل على حساب اللغة،حيث لم تواكب اللغة تجديده الشكلي..ولم تحمل من الإقناع الفني، والأسلوبي، والجمالية الكثير.
ورغم ذلك يبقى فوزي غزلان واحدا من عشاق الكتابة القصصية، وواحدا من مبدعيها، يمكن له أن يعطي الكثير...





طاب نهاركم
د. ماهر علوان