إن الشاعر لحظة إبداعه ونظمه لشعره لا يبدع من فراغ، بل إنه يرتكز على خلفيات ثقافية اكتسبها منذ أن كان يتعلم النظم، فمرّ بأشعار كثيرة لشعراء كثيرين، وأتقن علوماً أخرى غير الشعر، كحفظه القرآن والحديث، وغيرها من العلوم التي تشكل وجدانه ومعارفه، ويختزن ما خبره وتعلّمه في ذاكرته، ثم يستخرجها – بصورة مقصودة أو غير مقصودة – حال نظمه للشعر، فيتداخل أسلوبه مع أسلوب غيره من الشعراء، أو مع القرآن الكريم أو مع الحدث الشريف أو مع الحكم والأمثال، ويُعرف هذا التداخل بـ (التناص)، فالنص لا ينعزل عن غيره من النصوص بل يتداخل معها، فالنص – كما تذكر جوليا كريستيفا: " مجال لتقاطع عدة شفرات (على الأقل اثنان) تجد نفسها في علاقة متبادلة" ([1]) فالنص (القصيدة) يجد نفسه في حوار مستمر مع غيره من النصوص سواء من جنسه أو من غيره؛ لذلك فالتناص هو " العلائق النصية بين نصين على الأقل أو بين نص ونصوص أخرى تكون من جنسه أو من غيره جنسه"([2]) لذا نجد الإفادة بين الشعراء والقرآن أو الحديث أو التاريخ وغيرها، وجميعها تشارك في انتاجية النص الجديد من خلال قاعدة الإزاحة والاستبدال، إذ يزيح الشاعر بعضاً من الألفاظ ويستبدلها بغيرها مما يغير بعض الشيء من الدلالة المشتركة. ومن مظاهر هذا التداخل الأسلوبي: · الإفادة من القرآن الكريم. إذ يستحضر الشاعر بعض الآيات القرآنية ويضمن ألفاظها أو معانيها في شعره، وعلى رغم ما يدخله الشاعر من تغييرات على ما استحضره يبقى للنص القرآني المعجز غلبته وسيطرته ووضوحه على الأسلوب. ومن أبرز الإفادات الأسلوبية من القرآن الكريم: قول مروان بن أبي حفصة : ([3]) لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا كأن لم يدفعه من الناس حاضر وقوله : ([4]) إنّ أمير المؤمنين المنصفا قد ترك الصفصاف قاعاً صفصفا فالأسلوب القرآني جلي في البيتين، إذ استحضر الشاعر قوله تعالى: ] فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً _ لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [ ([5]). وتعددت الأبيات التي تصور ذل وانكسار شوكة نقفور والروم، حتى دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ومنه قول عبد الله بن يوسف التيمي([6]): أعطاك جزيته وطأطأ خده حذر الصوارم والردى معذور وقول مروان بن أبي حفصة: ([7]) وكل ملوك الروم أعطاه جزية على الرغم قسراً عن يد وهو صاغر حيث استحضر الشاعران المعنى وبعض الألفاظ من قوله تعالى: ) قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ( ([8]) فختام الآية استحضرها الشاعران ، ووصفا بها ملوك الروم ونقفور، إذ ذاقوا وبال أمرهم من نقض العهود مع هارون، ولتهديدهم حدود الدولة الإسلامية. · الإفادة من الحديث النبوي الشريف: حيث يستحضر الشاعر بعض ألفاظ أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – أو حديثاً كاملاً ويُدخل عليه بعض التبديلات اللفظية، ولكننا – مع هذا – نشعر بروح الحديث تسري في أوصال الأبيات. ومن هذا قول أشجع السلمي: ([9]) وليهنك الفتح والأيام مقبلة إليك بالنصر معقود نواصيها فقد استمد المعنى وبعض الألفاظ من قوله – صلى الله عليه وسلم - : "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"([10]). ومنه قول أبي العتاهية يستعطف هارون ، ليخلصه من حبسه وضيقه، ويفرج عنه في الدنيا، كي يفرج الله عن هارون في الآخرة، فقال: ([11]) وخلصني تخلص يوم بعثٍ إذا للناس برزت النجوم مأخوذ من قوله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه ابن عمر"..... ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة"([12]). ويتكرر عند بعض الشعراء كون هارون هو راعي الأمة والمدافع عنها، والراد عنها الشرور، فيرعى الأمة في دينها ودنياها. قال أشجع السلمي: ([13]) ما روعي الدين والدنيا على قدم بمثل هارون راعيه وراعيها وقال أبو العتاهية: ([14]) وراع يراع الله في حفظ أمة يدافع عنها الشر غير رقود فمعنى الرعاية والمسئولية مستمد من قوله – صلى الله عليه وسلم – "كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم ومسئول عنهم..." ([15]). فالحديث النبوي الشريف كان – وما زال – مصدراً ينهل منه الشعراء، ويستمدون منه الألفاظ والمعاني، حتى صار مكوّنا أساسياً من مكونات الإبداع عند الشعراء، فيتداخلون مع أسلوبه، ويُدخلون عليه بعض الاستبدالات اللفظية بالحذف والتعويض عن المحذوف بألفاظ من عندهم، ورغم هذا يبقى أسلوب النبي الكريم ظاهراً على أسلوبهم، وطاغياً على إبداعهم، ونحس بروح أسلوب النبي الكريم يسرى في الأبيات، ويدب في أوصالها، ويهب لها الحياة. · التداخل في شعر الشاعر أو بين الشعراء: قد يتكرر المعنى أو الأسلوب لدى الشاعر الواحد بتعدد المواقف، فيعيد ما سبق إليه عن وعي أو عن غيره، أو أن يتكرر المعنى والأسلوب بين الشعراء. ويعود هذا التداخل إلى وحدة الشخصية الممدوحة، فالشعراء جميعهم يتوجهون شطر هارون، وهم يعرفون صفاته وأخلاقه، ويجمعون عليها؛ لذا يقع حافر على حافر داخل شعر الشاعر أو بين الشعراء. نضيف إلى هذا أن لكل غرض من الأغراض معجماً شعرياً يستمد منه الشعراء ألفاظهم ومعانيهم، وللمدح معجم أدواته الكرم والسخاء والجهاد وطيب النسب، وغير هذا من الصفات الحميدة، لذلك يتكرر الأسلوب في كثير من معانيه وألفاظه. ومن التداخل الأسلوبي عند الشاعر الواحد: قول مروان بن أبي حفصة: ([16]) لقد ترك الصفصاف هارون صفصفاً كأن لم يدمنه من الناس حاضر وقال: ([17]) إنّ أمير المؤمنين المنصفا قد ترك الصفصاف قاعاً صفصفا فالتداخل الدلالي واللفظي بين البيتين واضح وجلي، إذ كرر مروان المعنى مستخدماً كثيراً من الألفاظ المشتركة بين البيتين. أما التداخل بين أساليب الشعراء فهو أشد جلاءً، إذ يجتمعون على وصف واحد لهارون، أو وصف حدثٍ قام به. ومن الأساليب التي تداخلت ألفاظها ومعانيها بين الشعراء: وصف حياة هارون أنها بين الجهاد والغزو في سبيل الله. قال أبو معلى الكلابي: ([18]) فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور وقال أبو نواس: ([19]) في كل عام غزوة ووفادة تنبت بين نواهما الأقران وقال أشجع السلمي: ([20]) ألف الحج والجهاد فما ينفك من سفرتين من كل عام إنها فكرة يلح عليها الشعراء ويرددون معناها وألفاظها ، مما يعني أن هذا الأمر كان حقيقة كائنة، لا كما يردد البعض أن عصر هارون كان عصر المجون والخلاعة. ومن هذه الأساليب وصف كرمه وجوده بالمطر الذي لا ينقطع، وهي من الصور التراثية التي رددها الشعراء القدماء، واستحضرها الشعراء العباسيون، ووصفوا بها هارون. قال أبو العتاهية: ([21]) إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا وأصبحت تسقي كل مستمطر ريّا وقال مروان بن أبي حفصة: ([22]) إذا فقد الناس الغمام تتابعت عليهم بكفيك الغيوم المواطر وقال منصور النمري: ([23]) إذا الغيث أكدى واقشعرت نجومه فغيث أمير المؤمنين مطير وما حلّ هارون الخليفة بلدة فأخلفها غيث وكاد يضير هكذا توارد الشعراء على وصف كرم هارون بالغمام المطير الذي يخلّف الخير والنماء، فما استسقاه أحد إلا زاده، وإذا بخلت السماء بمائها، فيده لا تبخل بالعطاء. ولعلنا ندرك التداخل الأسلوبي في المعنى والألفاظ، إذا اعتمد الشعراء على ألفاظ رئيسة مثل (الغمام – المطر – الغيث) ونسجوا حولها المعنى الذي تردد عندهم. ومن التداخل الأسلوبي بين الشعراء، وصفهم ما آل إليه نقفور والروم بعد هزيمتهم من جيش هارون والمسلمين، إذ ذلوا وخضعوا ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. قال عبد الله بن يوسف التيمي: ([24]) أعطاك جزيته وطأطأ خده حذر الصوارم والردى معذور وقال مروان بن أبي حفصة: ([25]) أطفت بقسطنطينية الروم مسنداً إليها القنا حتى اكتسا الذل سورها وما رمتها حتى أتتك ملوكها بجزيتها والحرب تغلي قدورها وقال أيضاً: ([26]) وكل ملوك الروم أعطاه جزية على الرغم قسراً عن يد وهو صاغر والتداخل الأسلوبي - كما اتضح آنفاً – لا يغض من شاعرية الشعراء ولا من مقدرتهم الفنية، بل إن قرائحهم لتنبت من منبت واحد، وتحركت عواطفهم حركة متقاربة تجاه هارون وأوصافه وأحداثه، واتفقت جميعها تجاهه وما يقوم به وما يتصف به، وكان كتاباً مفتوحاً أمام الرعية والشعراء، قلّبوه، فوجدوه مجاهداً في سبيل الله، حاجاً لبيته الحرام، كرمه كالغيث أو هو أكثر، أذل الشرك والمشركين، فكان نمطاً واحداً، فتشابهت أشعارهم فيه وتداخلت ألفاظها ومعانيها.
مع كل شكري
إنصاف مزني
مع كل شكري
إنصاف مزني
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني