أرسمُ وجهي أمام المرآة.. أنظر وأطيل، أرتّب شعري وأنسّقه بذات أنفاس الموجة.. للجنب قليلا ثمّ للوراء، كم وددت أن تكونوا معي الآن الآن! في عيني أراكَ، وأحسّكِ في قلبي نبضة لا تنتهي، ربطة العنق مائلة قليلا، وكلّما حاولت تعديلها زاد ميلانها.. كلساني! أفكّها وأعيدها ولا تعجبني، فككتها مرّة أخرى، فكّرت أن آخذها لجارنا أبو الحسن ليعقدها لي، تأملت السّاعة.. مازال معي وقت، أأخدها؟ أم أحاول وحدي؟ أنا لا أشغل نفسي لأبددكم من ذاكرتي! لكنّني في ذات (الأزمة) لا أريد النّسيان.. لن أحظ بأحد يشاطرني هذا الذي أشعر به لو كنتم حولي.. أو أنّني أعذب نفسي بالظّن لتكونوا معي! (كانا ولدين بين أربع بنات، توأم لم يلتقيا بغير رسمة العيون، حتّى لونهما مختلف) هكذا كنتُ معك، لم نحظَ بما يحظى به الذّكور بين الإناث، على العكس كنّا نحصل على عقاب مضاعف برغم أنّا الصغار بينهم! ولم نكن نرَ أنّ ذلك من العدل.. فموازين الصغار عادلة أكثر من موازين الكبار.. نحن نلعب من غير اكتراث بالنّتائج، وأمّي كانت أكثر قسوة علينا من أبي.. وفي لحظة مترددة كنتُ أشعر معك أنّنا لا نحبها بقدر ما نخاف منها! طرقات على باب غرفتي.. أعرفها جيدا، دخلَت بوجهها المعرورق المشرق.. تحوقلني وترشني بالملح لتدفع العين عني! أمسكت يدها أقبّلها.. يد ربّتني وانتشلتني من عقدي الصغيرة الكبيرة! رائحتها ذكّرتني! فغصصت بالذّكرى.. تلعثمت! وقبل أن أدمع أخذتني في عناق طويل! مرير! ثم هزّت كتفي.. وقالت (رجلا أريدك!) شددتُ على كلماتي حتى تخرج صحيحة من مخارجها - تـ تـ تربايتك! يا حجة كنا نحكي الأسرار الصغيرة التي يمنع علينا تداولها أمام أهلنا، ونتوعّد بعضنا بالخصام إن أفشى أحدنا سرّا منها.. ونرسم.. ونقلب المكان بالفوضى حتّى إذا ما حلّ المساء تدثرنا بدمع العقاب! ثمّ نضحك! وبهمس نعد أنفسنا أن نكمل في الغد والغد جاءني وحدي! من غيرك! أذكرنا جيدا ونحن نشدّ بعضنا ونتدافع فنهوي ونسقط على بلاط الغرفة.. فيبكي أحدنا ويعتذر الآخر ليواسيه أو ليكتم بكاءه قبل أن تسمعه أمي فتأتي بالعقاب! أذكرنا ونحن نتسابق في جمع (البنانير) ونتقاسم الربح ونبكي مرّة أخرى إن وجدها أبي معنا فيأخذها منا ويرميها في بالوعة الصّرف الصحي! لأنّه يراها مؤذية وتجلب المشاكل، نعم.. فقد كنا نغش! وكان أبي يخجل من الجيران إن شكونا إليه، ثمّ يبتسمون جميعا ويرددون: (قاضي الأولاد شنق حاله) جلَست جواري تتغزل في (زين الشباب) الذي تراه متألّقا ببدلة عرسه! والكلمات تخونني، لا أعرف كيف أجمعها.. طرقات أخرى زارت بابي، فدخل الرّجل المتعب.. قبّل يدها وربت على كتفي.. - مبروك يا عريس!! بقينا صامتين، فتناول ربطة عنقي ووقف قبالتي يهندمها لي! لم أكن أنظر إليه.. ولم ينظر قط لعينيّ، قد يكون خائفا مثلي أن يراهم فيها! وأدارني للمرآة ورأسه ينظر معي - ما رأيك؟ أفضل من ربطة أبو الحسن! - لـَ لـَ لم أكن أعرف أنّك تعرف - ليست هذه فقط.. أشياء كثيرة لا تعرفها عن أبيك وكأنّه نكأ الجرح من غير أن يدري! تذكرتُك! وأنا أقف جوارك لا أدري إن كنتُ حقيقة تمنّيت لو كنتُ مكانك! أتأمل الفوضى من حولك وأسأل نفسي.. أين أمي لترى كل هذا؟ لتندم على صفعة أطعمتها لنا بالأمس.. فأسمع صوت أبي يناديها فيبكيها وبناته! ثم يلقي نفسه جوار قدميك.. يحاول جرّك لقربه ثم يهوي مغمى عليه! فأظل أنظر لمسحة دم مشت خلف رأسك!! لم تنته هنا الحكاية! بقيتُ أياما بعد تلك الصورة لا أستطيع الكلام ولا البكاء، مذعورا أرتجف، فقدتُ في ذات اللحظة أمّي وأخواتي ومن شاطرني عتمة الرّحم والعقاب! بقيتُ هكذا.. ينقّلني أبي من طبيب لآخر، من مدينة لأخرى.. يزور بي أطباء أراضي النّكبة! أتعلّم الكلام من جديد.. أتأتئ وأظل! ولم تبدأ الحكاية من اليوم الذي تزوج فيه أبي وأصبحتُ فيه عدوّا لزوجته من غير أن أدري، كنتُ صغيرا لكنني أذكرها جيدا وهي تحشرني في زاوية الغرفة تضربني من غير أن تحدّد الاتجاهات! فأشيح بنظري وأكتم صوتي، أحاول أن أبحث عن وجه أمّي في الأركان الأخرى! أمدّ يدي لتنتشلني وأظل معها! كنتُ أيضا لا أحسن الشكوى! فيما كانت تحسن استغلالي بحذافير ضعفي وعقدي! تعيّرني! وتهزأ بي وتمعن، جعلتني أشتاق لأمّي وأحبّها حبا ليس خوفا! جعلتني اشتاق لضرب أمّي الذي لم يكن لهواء ومزاج معكّر! جعلتني أصمت خجلا وقشعريرة الخوف تسري في عروقي كلّما شعرت بوقع خطواتها تقترب مني.. كان أبي يصدّقني عندما يسألني عن اللون الأزرق الذي يحيط بجسدي فأقول له (وَ وَ وقعت!) حتّى رآها بعينه وهي تستبيح جسدي الصغير لوقع عصاها! يومها لم أمدّ يدي للفراغ! لطيف أمّي! مددته لأبي! فلم يمسكني! بل أمسك شعرها وجرّها من غير أن يعرف، رأيته وهو يضربها وكأنّ ثأرا قديما جعله ينتقم منها! فانفجر صراخي للمرّة الأولى وركضت حيث المساحات الشاسعة التي لا تعرف تلافيف الحارات الضيقة حافي القدمين أزرق! تركتهم خلفي واستمرّيت! وهدأت في حِجر جدّتي.. وبقيتُ ليومي هذا طرقات جديدة على بابي.. أخي غير الشقيق، وأختاي –أختاه- وأمّهم! سلّم عليّ سلام الرّجال للرّجال! واقتربت البنتان تقبلاني.. (الزّفة) ستبدأ بعد قليل أمسك أبي بيدي وأخي بيدي الأخرى.. وعندما خرجنا حملني على أكتافه وأمّه من الخلف تناديه (انتبه لظهرك!) وعندما انتهى كل شيء، سألني أبي - هل أنت سعيد؟ - جـ جـ جـ جدّا! فاقترب وهمس.. - سامحني يا ولدي! - يـَ يـَ يـَ يكفيني أنّك مازلتَ أبي، وَ وَ وَ هم اخوتي! لم تكن هذه قط الحكاية! لا في البداية ولا في النّهاية، الحكاية حكاية احتلال جرّني لما أنا عليه! رصاصه الذي سمّي في ذلك اليوم (طائشا) أصاب –قدرا!- مقتل أمّي! أخي! أخواتي الأربع! وأبقاني! شظّى الزّجاج في بيتي! في روحي! وجعل حقدي على امرأة أرادوها أمّا لي فلم تتقن ذلك! |
لكم مني التحيات
أحمد عز الدين
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني