التجربة الإبداعية لإبراهيم إسحق , لهي تجربة غنية . تجعلنا نتوقف عندها طويلا , ونحن نحاول سبر أغوارها , العصية في لغتها وتقنيات سردها وتنوعها الحكائي, الذي يتقاطع فيه الأسطوري مع الواقعي مع السحري ..
القامة الإبداعية لإبراهيم إسحق لا تقل عن قامة الطيب صالح. فإسحق دون المبدعين الآخرين, الذين كتبوا منذ الستينيات. وعاصروا مرحلة التحولات الحداثية , شكلّت كتابته نسيجا حداثويا متميزا, منذ الوهلة الأولى : على مستوى إستخدامات اللغة والتقنيات. وربما طريقته المتفردة في إستخداماته للغة,هي ما يقف خلف عنايته, بشرح المفردات الواردة في متن روايته أخبار البنت مياكايا - على سبيل المثال - حتى لا تحول هذه الاستخدامات ومفرداتها في تلقي هذا النص الروائي المدهش.
الولوج إلى عالم إبراهيم إسحق إبراهيم الروائي, لهو أمر تحفه المغامرة , لذا لا نملك أمام أعماله الشاهقة, سوى أن نأمل في التمكن - فعلا - من الكشف عن بعض القواعد الأساسية , التي ينهض فيها عالمه الروائي الثر, من خلال واحدة من رواياته البارزة : أخبار البنت مياكايا والتي يقول عنها :" كل الذي فعلته أنني أخذت قصة شعبية صغيرة ,ووسعتها من خلال الدراسة التاريخية (..) ووضع صورة واقعية لتلك القصة الشعبية , ومواجهة الأسئلة الملحة التي تفرضها أحداث رواية كهذه , في كيفية الإستطاعة على التفاهم وقبول الإختلاف بين العرب والشلك (1 )" .. ويكشف هذا المجتزأ من كلامه عن الإدراك العميق في توظيف الأسطوري في العمل السردي, الذي يعتني بالتحليل , وما ينطوي علىه من أهداف نبيلة تعني بالحراك الإجتماعي , وعمليات التشكيل القومي,بين عرب وأفارقة البلاد الكبيرة(السودان), من خلال المعرفة الجمالية التي نتحصلها من هذا النص دون أي تواطوأت آيديولوجية ..
يحاول إبراهيم إسحق, عبر توظيفه للأسطورة. هدم هذا العالم - المحيط بمياكايا .. بنا - وإعادة بناءه من جديد , في محاولة لإبراز إسهام البسطاء البدائيين - إذا جازت التسمية - في صناعة هذا العالم الجديد والمعنى الإجتماعي العام لوجودهم ووجود الآخرين فيه! .
فهم, يمتلكون قدرة تامة على التفكير اللانفعي, وإذ يتحركون بدافع الحاجة, أو الرغبة في فهم العالم المحيط بهم .. وفهم طبيعته فهم يحاولون فهم مجتمعهم من الجهة الأخرى , كما نلاحظ - لاحقا - في علاقتهم بالتماسيح وأفراس البحر والأرواح , إلخ ..
وهكذا نجد هؤلاء الذين تخيم عليهم, أجواء الأساطير والوعي الأسطوري.. هؤلاء العالمثالثيون المنسيين , الذين عبرت عنهم أخبار البنت ماياكايا , أستطاعوا أن يمضوا في حياتهم, عبر وسائل فكرية ووجدانية , لا تقل أهمية عن وسائل الفيلسوف أو العالم (2).. وبهذا الوعي التام من قبل إبراهيم إسحق, لمعنى الأسطورة. وما تحمله من معرفة مختزنة, منذ آلاف السنوات , بما يصوغ الإنسان في اللحظة الراهنة. على نحو ما ,وفقا لما كان عليه أسلافه - بهذا الإسقاط - تعاصر الرواية فضاء البلاد الكبيرة - خاصة أن أحداثها ووقائعها تجري, في مساحة واسعة على امتداد النيل الأبيض بدء بقلبه , وصعودا إلى أدغال الجنوب.. فهذه المساحة الواسعة من الوسط والجنوب , هي جغرافيا التمازج بين السكان الأصليين(الزنوج الأفارقة) والوافدين(العرب المهجنين زنجيا) , ومنبع سؤال الهوية !! - بأساطيرها التي شكلّت وجدان إنسانها, وصاغت قوانين إستمراريته, وطرق تفكيره وممارسته اليومية !..
أن إعتناء إبراهيم إسحق بالأسطورة في أعماله الإبداعية المختلفة, يعكس الإهتمام الملحاح ,لتفسير الحاضرعبر هذا الماضي ,الذي ينطوي عليه حاضرنا بصورة من الصور , ولذلك نجد الأسطورة يتم توظيفها بطريقة أو أخرى , في بناء شخصيات مثل الزاكي ود بخيت, الذي اشتهر لدى الأتراك وأعوانهم, بإسم "راصد القيزان" ,وصار طريدا مطلوبا, من قبل السلطة المصرية -التركية (3) فالزاكي نموذج للبطل الخارج من قلب الجماهير الشعبية , والذي لديه القدرة على الإتيان, بضروب من الشجاعة والبسالة, الأسطورية التي تستعصى على سواه , والزاكي ببطولته هذه يتبدى عن قانون إجتماعي ونفسي, حول الشخصية السودانية وإستجاباتها للتحديات ولموضوعات صراعها الوجودي: قانون حكم مسيرة شعب( اللوّة) الجنوبي العظيم بقيادة نيكانج في هجرته البطولية ,مصارعا قوى الطبيعة وعابرا البحر الكبير , إلى أن وصل إلى تخوم الجنوب وشكل قبائله المختلفة! ..
ذات القانون يمكننا ملاحظته في شخصية أسطورية مثل مرين(4) الطفل الصغير الذي إتسم بالشجاعة, والجرأة إلى الحد الذي جعله يواجه المفتش الإنجليزي ..
هذا القانون الذي يتخذ مظاهر مختلفة يرتبط في أعمال إسحق بصراع الإنسان ضد قوى الطبيعة - الناهضة في قلب الليل ,بكل ما يحتوي من هيبة المبتدأ ,و رعب القرون الماضية - وتوسله للماورائيات والأسطورة والسحر ,لتفسير متناقضات واقعه اليومي , أو توسل حياته الروحية.. كما في أخبار البنت ماياكايا, أو بتصعيد البطولة في الأشخاص العاديين, الذين ينتمون إلى عامة الشعب - كالزاكي ودبخيت ومرين - وتحويلهم إلى أبطال, في الرواية نفسها ..
بهذه الاستخدامات أغنى إسحق نصوصه وأثراها .. وهو ما أشرت إليه فيما سبق . بل و أتصور أنه من السمات الأساسية, لعالم إبراهيم إسحق الروائي, الغني بالمعرفة بالتاريخ واللغة ,في بنيته الظاهرية. والرؤيا الثرية للعالم في بنيته الباطنية .
في أخبار البنت مياكايا على المستوى الظاهري للنص , نتعرف على كثير من الألفاظ غير المألوفة على مسامعنا, و التي شكلتها ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, ونتعرف على أسماء العديد من الأماكن, والمواقع الوظيفية في جهاز القيم الهرمي, بل ونكاد نمتلك شجرة نسب, نمضي على هداها مستكشفين أغوار شخصيات الرواية..
تماما مثلما نكتشف على المستوى الباطني : الرغبة في هدم هذا العالم, الناهض في قلب الظلام بسحره وشعوذته , وبناء عالم آخر جديد متحرر من سلطة الظلام المهيمن على كل شيء ! حتى قصص الحب الجميلة !!..
هذا الظلام الكثيف. الذي يخيم على فضاء الرواية - وهو ما لاحظه أيضا الصديق الناقد المصري المبدع ,و المميز أحمد الشريف - الذي هو مثير الذكريات , ومتكأ الإنسان عندما تهتاجه الإنفعالات والأشجان ..
هو ملك الزمان , وهو الرّحم الذي خرجت منه البشرية إلى فجرها.. وهو رمز الصراع الدائم على قاعدة الأضداد الثنائية : الظلمة / النور .. الخير / الشر ..
ولطالما أرتبط بالسحر والخرّافة والأساطير , وظل مكمن خوف الإنسان , ورمزية لا شعوره.. هذا الظلام الذي تكون فيه الإنسان جنينيا بمثابة الرحم أو الماتريكس, الذي ينطوي على النور .. بمثابة الرحم للوجود الإنساني في الصراع الدائم ,لأجل الإستمرارية والبقاء ..
لقد وظف إسحاق الليل والظلمة كثيرا, في هذه الرواية . على هذه القاعدة, التي يقابل فيها الأسود/ الأبيض ..العربي- الشلكاوي , إلخ من ثنائيات ..
ولقاء الأضداد عموما . ظل يشكل محورا هاما للإبداع الإنساني بأجناسه المختلفة ,ومن هنا يمكننا الزعم - على مستوى التأويل -أن الظلمة أو الليل ,في أخبار البنت مياكايا, تطرح سؤلا مستمرا : هل هو ليل الإنسان؟ أم أنه الليل الناتج ,عن الحركة الظاهرية للقمر المضيء ,حول الأرض !.. أم هي تلك الأفكار, التي تنبع ليلا من اللاشعور! والتي هي أشبه بالأساطير .فللأساطير ملامح حلمية ,والليل هو لا شعور السلطة ,كما الريف أيضا حيال المدينة , وكما بلاد المستعمرات حيال المراكز الإستعمارية؟! ..
لكن هل النهار هو مفتاح المعرفة ,ومشرع الرقي !! ..
تركيز إسحق على تعاقب الليل والنهار ,في هذه الرواية. لا يتوقف عند الإحالة إلى ليل الأساطير .. ليل مايكايا.. الكامن في أعماق اللاشعور, حيث القدرات العجائبية.. ربما هو ليل الإنسان الراهن , بعد وقت طويل من فجر مياكايا ..
أخبار البنت مياكايا:
اخبار البنت ميا كايا يأتي إختلافها عن أعمال إسحق , الروائية والقصصية الأخرى, في كون مسرحها هو النيل الأبيض , فأحداثها التاريخية, والمستلهمة من وقائع حدثت, في القرن السادس عشر, تجري على إمتداد واسع, من أطراف الجزيرة أبا, إلى مقرن السوباط وبحر العرب - ويمكن الإحالة هنا أيضا, إلى مقرن النيلين الأبيض والأزرق , موطن الشلك الأول " جزيرة توتي " - على عكس مسرح الأعمال الأخرى لإبراهيم إسحق : أم درمان أو قري و"حلالات" غرب السودان(دارفور)..
عالم هذه الرواية " أخبار البنت مياكايا ", محتشد و متشابك ومكثف . تنساب فيه اللغة بكل شاعريتها ومحتوياتها التاريخية , لتتدفق عبرها الأزمنة والحكايات, التي لا تخلو من شجن : عن أسلافنا وتاريخنا " الشخصي " - هذه الحكايات الخرافية والتي " في الحقيقة هي ليست خرافية "- والتي كانت جداتنا" تحجينا" بها كل مغرب, بعد أن نشرب الحليب إستعدادا للنوم..
مع إبراهيم إسحق في أخبار البنت مياكايا تتداعي إلى أذهاننا ,كل حكايا طفولاتنا , لنخرج من قلب هذه الطفولة إلى اللحظة الراهنة, التي أراد أن ينقلنا إسحق إليها, ليتركنا عند مفترق أسئلة :عن الأمس واليوم ونحن؟!!..
أن إبراهيم إسحق يستعيدنا إلى لحظات عزيزة علينا, تعود إلي عهد براءتنا ودهشتنا البكر , فنرقب معه الآن التحولات, التي طرأت علينا , ونشعر بالمرارة لإندثار مؤسسة الجدة "الحبوبة" .. صحيح أنها رواية قصيرة, لكنها متخمة بالأشياء الحميمة ,والعوالم التي تعبر عن البدايات الأولى, في قلب عالم يمور بالأساطير والخرافات, التي تعطي الحياة لكل شيء, في هذه الجغرافيا التي يرتبط فيها الإنسان بالطبيعة البكر ,حيث يعكس حال الأشجار والنهر , والهمس السري وهمس اللغة , ما يعتمل في النفوس " من جهة النهر هدأ الحال تماما , فلا شجار ولا غزل إلا غرغرة الماء على الجروف , كالأبد يهمهم الدّفاق بأسرار كونية كالطلاسم (5)".. يهدأ كل شيء وتبقى الطبيعة /الإنسان وحدهما , متحفزان للتواصل ..
أخبار البنت مياكايا غنية بنهوضها في اللغة والتاريخ والذاكرة الشعبية , التي عندما نقرأ تقاطعاتنا معها, نكتشف مدى ما فقدناه من حنين !.. فهي رواية تتستعيد , الحنين الهارب منا , مرة أخرى إلينا, ليتخذ شكلا معذبا وملتاعا, في الحكي المشحون بالرموز, والدلالات والأساطير والأقنعة ..
إذ يوظف إسحق كل ذلك وفقا لآلية التضمين, من خلال إقتراح عدد من الأساليب المحايثة , في السرد , حيث نجد أن الآراء حول طبيعة النفس الإنسانية ,التي يوحي بها لمعالجة فكرة الإنسان البدائي, وأزمة التواصل والتمازج بين العرب الهجين ,والسكان الأفارقة الأصليين.. حيث نجد كل ذلك دون تنظير أو تصورات فلسفية أو فكرية معقدة, إذ تتجلى المعرفة العميقة بالتاريخ والذاكرة الشعبية,على المستوى السردي .الذي يجعل من الأفكار الجافة ,كائنا حيا يمشي على قدمين , حاملا الرؤية الباطنية للرواية ..
ربما أن مرجع ذلك هو وطء الحاجة الملحة عند إسحق, في محاولة تدمير القوالب, والديمومات والرّتابة.. ربما أن ذلك ما دعاه لإقتراح هذا الشكل الروائي ,الذي تجسد في أخبار البنت مياكايا(6 ) ..
هذه الرواية المتمردة في شكلها ومضمونها على ما هو سائد ,تشكل بنضجها خط شروع جديد للرواية الإستيهامية , في السودان .. من خلال اللغة الإشارية بين غانم العربي, وماياكايا إبنة رث الشلك, اللذان يتعرفان على بعضهما- في الليل - وتنشأ العلاقة بينهما ,لتفضي في نهاية المطاف إلى الزواج . لتنهض في لغتهما الإشارية أسئلة اللغة/ و التنوع .. تنوع وتباين الثقافات والحضارات والعقائد في البلاد الكبيرة ..
مثلما تنهض لغة الرواية ذاتها, بتعابيرها غير المألوفة في ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, في بلاد السودان الكبيرة , التي ينتمي إليها غانم . لتفضي الرواية في التحليل النهائي ,إلى سؤال الهوية : هؤلاء العرب الوافدون, وإختلاطاتهم بالقبائل الأفريقية الأصلية , من خلال علاقة غانم بمياكايا . وحول هذا السؤال ي,خلق إبراهيم إسحق الحوار الداخلي للنص, بين مكونات الأنواع السودانية المختلفة , محيلا عبر لغة السرد الروائي ,إلى القوانين التي صاغت إنسان هذا المسرح الواسع , الممتد من الجزيرة أبا في قلب النيل الأبيض (جزيرة المهدي عليه السلام )حتى قلب الجنوب (حيث منابع النيل).
تحتشد أخبار البنت مياكايا ببنى حكائية - صغرى - عديدة تتشكل من الأساطير . مثل : أخذ التماسيح لجثة زوج أينابور " يقولون أن جدتهم تمساحة فهي تستلم أولادها من كل جرف .. وأهلها هن أفراس البحر(7) ".. الوعي الأسطوري أو الذاكرة الأسطورية يهيمنان على فضاءات الرواية, من خلال محاولات الإستفادة, من علاقة القرابة بأفراس البحر , إلخ " فرس البحر التي تمرّن أولادها على الشط الشرقي ,إغتاظت لمرورها . ترنمت أمامها وتعذرت لها بكلام حفظته عن أبيها , فما أجدى .. يقولون أنها وكل القرابات الدنيا , تنسى علاقتها أحيانا بالشولو(" .. إلخ من أساطير تشكل البنى الحكائية الصغرى, إلى جانب البنية الحكائية المركزية ( علاقة مياكايا بغانم ) ..
منذ أول فقرة في الرواية, نلحظ تشابك وتعدد الرواة والشخصيات, وهو ما أشارت إليه, دكتورة آسيا محمد وقيع الله, في بحثها القيم عن الأسطورة, في عالم إبراهيم إسحق الروائي (9) " كما نلاحظ الرّوي الذي يتوسل صيغة الراوي/ المتكلم " جليل يغالطني يا حازم, من الذي يعرف هذه الأعاجيب هنا غير عمر وعبدالقادر. يقول لي.. ولا أجدني أرضى.. أقول له يا جليل ..أقول لك حكاها لي رجل في محطة لواري على الرمال ,وراء ودعشانا, تحت القمر والليل صاف وحلة المساعد تكركر فوق اللهيب .. يحيكها لنا ذلك الحساني القادم من بادية الدويم(10)".. فهذه الرواية حاولت أن تلقي بكل أعباء المواقف والأحداث على شخصياتها , دون سلطة قابضة للراوي أو المؤلف , وقد نجحت فيما أطلقت عليه يمنى العيد ديموقراطية السرد ,في بحثها الروائي القيم (الراوي : الموقع والشكل) . نلاحظ أيضا أن نتؤات الجغرافيا وتعرجاتها الإجتماعية والنفسية , التي وسمت الإنسان, حملتها لغة السرد فاتسمت بها , فجاء السرد معقدا , وأنعكس ذلك وظيفيا على التقنيات المستخدمة ( أعني بوظيفيا هنا أو بالتفاعل الوظيفي ليس مفهومه ذاته في علم النفس "الشرطية" بل التأثير المتبادل بين السرد والتقنية السردية ) والإستخدامات اللغوية غير المألوفة- كما أشار الناقد السوداني الرّصين أحمد عبد المكرم في بحثه القيم عن فتح مغاليق عالم إبراهيم إسحق الروائي إلى وعورة السرد في أعمال إبراهيم إسحق , وهي ملاحظة قريبة الشبه من ملاحظتنا (11) . فنصوص إبراهيم إسحق تنزع بإستمرار- نحو البحث عن قيمة إكتشاف, أو تحليل شارح لواقع ما: كما يقول عبد المكرم - واقع ملتبس غائب أو معزول ,تسعى النصوص في تكاملها إلى تبيانه أو تجليته.. أسلوب إبراهيم اسحق,شديد الإيجاز والثراء ..
ثراء موضوع هذه الرواية , التي تنهض تيمتها في الطبيعة الفسيحة: جغرافيا - والمعقدة : إنسانيا , لكنها رغم ( كونها شائكة بهذا القدر) تختلف رؤيتها من زاوية أخرى, فهؤلاء الذين ارتبطوا بها "يتصارعون كالجواميس. وبشراتهم تجمرت مثل أكباد الإبل, ووجوههم عندما تشوّه.. تصبح كالذي تمضغ في أحشائه الأفاعي, وهم حذرون!. ينسابون على تعاريج الشط كالثعابين. يتحركون عندما تموت الشمس, ويهبط الظلام على الكون. يحيط بهم عواء الذئاب والثعالب والصقور, التي تداوم على خطف الأرانب والقطى والجديان. عندما ترجع الشمس وتكشف أماكن الأنهر والبحار ومجاري الأودية ,وغابات السنط والجبال وجذوع الأشجار والبردى ,في المستنقعات وطين الماء الضحل. يمكثون في قطياتهم حتى يظلم الليل, لمثل لون الغراب(12) هذه اللوحة التشكيلية , تشير إلى تقنية محددة لجأ اليها إسحق عبر توظيف الوصف في السرد التشكيلي بهذه الرواية , إذ نرى لوحة كاملة لإنسان بدائي وحياة برِّية , بطبيعتها الخلابة التي تنطوي على غموض الطبيعة وقوتها,وفي الوقت نفسه تنطوي على مخاوف الإنسان !!..
فكل شيء في هذه الرواية يحدث بإتفاق مع الطبيعة ,التي يحيطها الليل في رحمه.وظواهر هذه الطبيعة القابضة على فضاءات الرواية .. فحتى علاقة الحب بين غانم ومياكايا ,ترعاها هذه الطبيعة. إذ تنشأ في ليلها المدلهم .. حيث يتم كل شيء في الرواية ,على قاعدة الأضداد الثنائية, التي أشرنا إليها سلفا - على مستوى المضمون - كذلك على مستوى الشكل: نجد تزاوج التراثي والحداثي/ و الثقافي والشعبي/ التاريخي واليومي /و العامي والفصيح /و الإيقاعي والسردي.. وكل ذلك في سياق التفكك والتشظي وكسر النموذج !..
وزواج غانم من مايكايا هو الإيحاء بقصة كليلة ودمنّة عن الليل والنهار ,والجرذان اللذان يتناوبان قرض الحبل : الحياة والموت(13) فالحياة والموت كليهما مظهر من مظاهر هذه الطبيعة , وسمت به أبناءها فحملته حياتهم وسلوكهم .. ومثلما الشمس تموت لتحيا الدنيا بأسرها.. تولد من جديد "كأن الدنيا بأسرها ولدت من جديد عندما عوعّى الديك(14)".. هذا الثنائي في خروج الحياة من الموت.. والموت من الحياة . وخروجهما كليهما من مصدرهما الأساسي : الطبيعة , يدفعنا إلى المجازفة بزعم أن النص يقيم حوارا مع التفسير الديني للحياة! ..
تحياتي
عزة قادري
القامة الإبداعية لإبراهيم إسحق لا تقل عن قامة الطيب صالح. فإسحق دون المبدعين الآخرين, الذين كتبوا منذ الستينيات. وعاصروا مرحلة التحولات الحداثية , شكلّت كتابته نسيجا حداثويا متميزا, منذ الوهلة الأولى : على مستوى إستخدامات اللغة والتقنيات. وربما طريقته المتفردة في إستخداماته للغة,هي ما يقف خلف عنايته, بشرح المفردات الواردة في متن روايته أخبار البنت مياكايا - على سبيل المثال - حتى لا تحول هذه الاستخدامات ومفرداتها في تلقي هذا النص الروائي المدهش.
الولوج إلى عالم إبراهيم إسحق إبراهيم الروائي, لهو أمر تحفه المغامرة , لذا لا نملك أمام أعماله الشاهقة, سوى أن نأمل في التمكن - فعلا - من الكشف عن بعض القواعد الأساسية , التي ينهض فيها عالمه الروائي الثر, من خلال واحدة من رواياته البارزة : أخبار البنت مياكايا والتي يقول عنها :" كل الذي فعلته أنني أخذت قصة شعبية صغيرة ,ووسعتها من خلال الدراسة التاريخية (..) ووضع صورة واقعية لتلك القصة الشعبية , ومواجهة الأسئلة الملحة التي تفرضها أحداث رواية كهذه , في كيفية الإستطاعة على التفاهم وقبول الإختلاف بين العرب والشلك (1 )" .. ويكشف هذا المجتزأ من كلامه عن الإدراك العميق في توظيف الأسطوري في العمل السردي, الذي يعتني بالتحليل , وما ينطوي علىه من أهداف نبيلة تعني بالحراك الإجتماعي , وعمليات التشكيل القومي,بين عرب وأفارقة البلاد الكبيرة(السودان), من خلال المعرفة الجمالية التي نتحصلها من هذا النص دون أي تواطوأت آيديولوجية ..
يحاول إبراهيم إسحق, عبر توظيفه للأسطورة. هدم هذا العالم - المحيط بمياكايا .. بنا - وإعادة بناءه من جديد , في محاولة لإبراز إسهام البسطاء البدائيين - إذا جازت التسمية - في صناعة هذا العالم الجديد والمعنى الإجتماعي العام لوجودهم ووجود الآخرين فيه! .
فهم, يمتلكون قدرة تامة على التفكير اللانفعي, وإذ يتحركون بدافع الحاجة, أو الرغبة في فهم العالم المحيط بهم .. وفهم طبيعته فهم يحاولون فهم مجتمعهم من الجهة الأخرى , كما نلاحظ - لاحقا - في علاقتهم بالتماسيح وأفراس البحر والأرواح , إلخ ..
وهكذا نجد هؤلاء الذين تخيم عليهم, أجواء الأساطير والوعي الأسطوري.. هؤلاء العالمثالثيون المنسيين , الذين عبرت عنهم أخبار البنت ماياكايا , أستطاعوا أن يمضوا في حياتهم, عبر وسائل فكرية ووجدانية , لا تقل أهمية عن وسائل الفيلسوف أو العالم (2).. وبهذا الوعي التام من قبل إبراهيم إسحق, لمعنى الأسطورة. وما تحمله من معرفة مختزنة, منذ آلاف السنوات , بما يصوغ الإنسان في اللحظة الراهنة. على نحو ما ,وفقا لما كان عليه أسلافه - بهذا الإسقاط - تعاصر الرواية فضاء البلاد الكبيرة - خاصة أن أحداثها ووقائعها تجري, في مساحة واسعة على امتداد النيل الأبيض بدء بقلبه , وصعودا إلى أدغال الجنوب.. فهذه المساحة الواسعة من الوسط والجنوب , هي جغرافيا التمازج بين السكان الأصليين(الزنوج الأفارقة) والوافدين(العرب المهجنين زنجيا) , ومنبع سؤال الهوية !! - بأساطيرها التي شكلّت وجدان إنسانها, وصاغت قوانين إستمراريته, وطرق تفكيره وممارسته اليومية !..
أن إعتناء إبراهيم إسحق بالأسطورة في أعماله الإبداعية المختلفة, يعكس الإهتمام الملحاح ,لتفسير الحاضرعبر هذا الماضي ,الذي ينطوي عليه حاضرنا بصورة من الصور , ولذلك نجد الأسطورة يتم توظيفها بطريقة أو أخرى , في بناء شخصيات مثل الزاكي ود بخيت, الذي اشتهر لدى الأتراك وأعوانهم, بإسم "راصد القيزان" ,وصار طريدا مطلوبا, من قبل السلطة المصرية -التركية (3) فالزاكي نموذج للبطل الخارج من قلب الجماهير الشعبية , والذي لديه القدرة على الإتيان, بضروب من الشجاعة والبسالة, الأسطورية التي تستعصى على سواه , والزاكي ببطولته هذه يتبدى عن قانون إجتماعي ونفسي, حول الشخصية السودانية وإستجاباتها للتحديات ولموضوعات صراعها الوجودي: قانون حكم مسيرة شعب( اللوّة) الجنوبي العظيم بقيادة نيكانج في هجرته البطولية ,مصارعا قوى الطبيعة وعابرا البحر الكبير , إلى أن وصل إلى تخوم الجنوب وشكل قبائله المختلفة! ..
ذات القانون يمكننا ملاحظته في شخصية أسطورية مثل مرين(4) الطفل الصغير الذي إتسم بالشجاعة, والجرأة إلى الحد الذي جعله يواجه المفتش الإنجليزي ..
هذا القانون الذي يتخذ مظاهر مختلفة يرتبط في أعمال إسحق بصراع الإنسان ضد قوى الطبيعة - الناهضة في قلب الليل ,بكل ما يحتوي من هيبة المبتدأ ,و رعب القرون الماضية - وتوسله للماورائيات والأسطورة والسحر ,لتفسير متناقضات واقعه اليومي , أو توسل حياته الروحية.. كما في أخبار البنت ماياكايا, أو بتصعيد البطولة في الأشخاص العاديين, الذين ينتمون إلى عامة الشعب - كالزاكي ودبخيت ومرين - وتحويلهم إلى أبطال, في الرواية نفسها ..
بهذه الاستخدامات أغنى إسحق نصوصه وأثراها .. وهو ما أشرت إليه فيما سبق . بل و أتصور أنه من السمات الأساسية, لعالم إبراهيم إسحق الروائي, الغني بالمعرفة بالتاريخ واللغة ,في بنيته الظاهرية. والرؤيا الثرية للعالم في بنيته الباطنية .
في أخبار البنت مياكايا على المستوى الظاهري للنص , نتعرف على كثير من الألفاظ غير المألوفة على مسامعنا, و التي شكلتها ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, ونتعرف على أسماء العديد من الأماكن, والمواقع الوظيفية في جهاز القيم الهرمي, بل ونكاد نمتلك شجرة نسب, نمضي على هداها مستكشفين أغوار شخصيات الرواية..
تماما مثلما نكتشف على المستوى الباطني : الرغبة في هدم هذا العالم, الناهض في قلب الظلام بسحره وشعوذته , وبناء عالم آخر جديد متحرر من سلطة الظلام المهيمن على كل شيء ! حتى قصص الحب الجميلة !!..
هذا الظلام الكثيف. الذي يخيم على فضاء الرواية - وهو ما لاحظه أيضا الصديق الناقد المصري المبدع ,و المميز أحمد الشريف - الذي هو مثير الذكريات , ومتكأ الإنسان عندما تهتاجه الإنفعالات والأشجان ..
هو ملك الزمان , وهو الرّحم الذي خرجت منه البشرية إلى فجرها.. وهو رمز الصراع الدائم على قاعدة الأضداد الثنائية : الظلمة / النور .. الخير / الشر ..
ولطالما أرتبط بالسحر والخرّافة والأساطير , وظل مكمن خوف الإنسان , ورمزية لا شعوره.. هذا الظلام الذي تكون فيه الإنسان جنينيا بمثابة الرحم أو الماتريكس, الذي ينطوي على النور .. بمثابة الرحم للوجود الإنساني في الصراع الدائم ,لأجل الإستمرارية والبقاء ..
لقد وظف إسحاق الليل والظلمة كثيرا, في هذه الرواية . على هذه القاعدة, التي يقابل فيها الأسود/ الأبيض ..العربي- الشلكاوي , إلخ من ثنائيات ..
ولقاء الأضداد عموما . ظل يشكل محورا هاما للإبداع الإنساني بأجناسه المختلفة ,ومن هنا يمكننا الزعم - على مستوى التأويل -أن الظلمة أو الليل ,في أخبار البنت مياكايا, تطرح سؤلا مستمرا : هل هو ليل الإنسان؟ أم أنه الليل الناتج ,عن الحركة الظاهرية للقمر المضيء ,حول الأرض !.. أم هي تلك الأفكار, التي تنبع ليلا من اللاشعور! والتي هي أشبه بالأساطير .فللأساطير ملامح حلمية ,والليل هو لا شعور السلطة ,كما الريف أيضا حيال المدينة , وكما بلاد المستعمرات حيال المراكز الإستعمارية؟! ..
لكن هل النهار هو مفتاح المعرفة ,ومشرع الرقي !! ..
تركيز إسحق على تعاقب الليل والنهار ,في هذه الرواية. لا يتوقف عند الإحالة إلى ليل الأساطير .. ليل مايكايا.. الكامن في أعماق اللاشعور, حيث القدرات العجائبية.. ربما هو ليل الإنسان الراهن , بعد وقت طويل من فجر مياكايا ..
أخبار البنت مياكايا:
اخبار البنت ميا كايا يأتي إختلافها عن أعمال إسحق , الروائية والقصصية الأخرى, في كون مسرحها هو النيل الأبيض , فأحداثها التاريخية, والمستلهمة من وقائع حدثت, في القرن السادس عشر, تجري على إمتداد واسع, من أطراف الجزيرة أبا, إلى مقرن السوباط وبحر العرب - ويمكن الإحالة هنا أيضا, إلى مقرن النيلين الأبيض والأزرق , موطن الشلك الأول " جزيرة توتي " - على عكس مسرح الأعمال الأخرى لإبراهيم إسحق : أم درمان أو قري و"حلالات" غرب السودان(دارفور)..
عالم هذه الرواية " أخبار البنت مياكايا ", محتشد و متشابك ومكثف . تنساب فيه اللغة بكل شاعريتها ومحتوياتها التاريخية , لتتدفق عبرها الأزمنة والحكايات, التي لا تخلو من شجن : عن أسلافنا وتاريخنا " الشخصي " - هذه الحكايات الخرافية والتي " في الحقيقة هي ليست خرافية "- والتي كانت جداتنا" تحجينا" بها كل مغرب, بعد أن نشرب الحليب إستعدادا للنوم..
مع إبراهيم إسحق في أخبار البنت مياكايا تتداعي إلى أذهاننا ,كل حكايا طفولاتنا , لنخرج من قلب هذه الطفولة إلى اللحظة الراهنة, التي أراد أن ينقلنا إسحق إليها, ليتركنا عند مفترق أسئلة :عن الأمس واليوم ونحن؟!!..
أن إبراهيم إسحق يستعيدنا إلى لحظات عزيزة علينا, تعود إلي عهد براءتنا ودهشتنا البكر , فنرقب معه الآن التحولات, التي طرأت علينا , ونشعر بالمرارة لإندثار مؤسسة الجدة "الحبوبة" .. صحيح أنها رواية قصيرة, لكنها متخمة بالأشياء الحميمة ,والعوالم التي تعبر عن البدايات الأولى, في قلب عالم يمور بالأساطير والخرافات, التي تعطي الحياة لكل شيء, في هذه الجغرافيا التي يرتبط فيها الإنسان بالطبيعة البكر ,حيث يعكس حال الأشجار والنهر , والهمس السري وهمس اللغة , ما يعتمل في النفوس " من جهة النهر هدأ الحال تماما , فلا شجار ولا غزل إلا غرغرة الماء على الجروف , كالأبد يهمهم الدّفاق بأسرار كونية كالطلاسم (5)".. يهدأ كل شيء وتبقى الطبيعة /الإنسان وحدهما , متحفزان للتواصل ..
أخبار البنت مياكايا غنية بنهوضها في اللغة والتاريخ والذاكرة الشعبية , التي عندما نقرأ تقاطعاتنا معها, نكتشف مدى ما فقدناه من حنين !.. فهي رواية تتستعيد , الحنين الهارب منا , مرة أخرى إلينا, ليتخذ شكلا معذبا وملتاعا, في الحكي المشحون بالرموز, والدلالات والأساطير والأقنعة ..
إذ يوظف إسحق كل ذلك وفقا لآلية التضمين, من خلال إقتراح عدد من الأساليب المحايثة , في السرد , حيث نجد أن الآراء حول طبيعة النفس الإنسانية ,التي يوحي بها لمعالجة فكرة الإنسان البدائي, وأزمة التواصل والتمازج بين العرب الهجين ,والسكان الأفارقة الأصليين.. حيث نجد كل ذلك دون تنظير أو تصورات فلسفية أو فكرية معقدة, إذ تتجلى المعرفة العميقة بالتاريخ والذاكرة الشعبية,على المستوى السردي .الذي يجعل من الأفكار الجافة ,كائنا حيا يمشي على قدمين , حاملا الرؤية الباطنية للرواية ..
ربما أن مرجع ذلك هو وطء الحاجة الملحة عند إسحق, في محاولة تدمير القوالب, والديمومات والرّتابة.. ربما أن ذلك ما دعاه لإقتراح هذا الشكل الروائي ,الذي تجسد في أخبار البنت مياكايا(6 ) ..
هذه الرواية المتمردة في شكلها ومضمونها على ما هو سائد ,تشكل بنضجها خط شروع جديد للرواية الإستيهامية , في السودان .. من خلال اللغة الإشارية بين غانم العربي, وماياكايا إبنة رث الشلك, اللذان يتعرفان على بعضهما- في الليل - وتنشأ العلاقة بينهما ,لتفضي في نهاية المطاف إلى الزواج . لتنهض في لغتهما الإشارية أسئلة اللغة/ و التنوع .. تنوع وتباين الثقافات والحضارات والعقائد في البلاد الكبيرة ..
مثلما تنهض لغة الرواية ذاتها, بتعابيرها غير المألوفة في ثقافة الوسط الإسلاموعربي المركزي, في بلاد السودان الكبيرة , التي ينتمي إليها غانم . لتفضي الرواية في التحليل النهائي ,إلى سؤال الهوية : هؤلاء العرب الوافدون, وإختلاطاتهم بالقبائل الأفريقية الأصلية , من خلال علاقة غانم بمياكايا . وحول هذا السؤال ي,خلق إبراهيم إسحق الحوار الداخلي للنص, بين مكونات الأنواع السودانية المختلفة , محيلا عبر لغة السرد الروائي ,إلى القوانين التي صاغت إنسان هذا المسرح الواسع , الممتد من الجزيرة أبا في قلب النيل الأبيض (جزيرة المهدي عليه السلام )حتى قلب الجنوب (حيث منابع النيل).
تحتشد أخبار البنت مياكايا ببنى حكائية - صغرى - عديدة تتشكل من الأساطير . مثل : أخذ التماسيح لجثة زوج أينابور " يقولون أن جدتهم تمساحة فهي تستلم أولادها من كل جرف .. وأهلها هن أفراس البحر(7) ".. الوعي الأسطوري أو الذاكرة الأسطورية يهيمنان على فضاءات الرواية, من خلال محاولات الإستفادة, من علاقة القرابة بأفراس البحر , إلخ " فرس البحر التي تمرّن أولادها على الشط الشرقي ,إغتاظت لمرورها . ترنمت أمامها وتعذرت لها بكلام حفظته عن أبيها , فما أجدى .. يقولون أنها وكل القرابات الدنيا , تنسى علاقتها أحيانا بالشولو(" .. إلخ من أساطير تشكل البنى الحكائية الصغرى, إلى جانب البنية الحكائية المركزية ( علاقة مياكايا بغانم ) ..
منذ أول فقرة في الرواية, نلحظ تشابك وتعدد الرواة والشخصيات, وهو ما أشارت إليه, دكتورة آسيا محمد وقيع الله, في بحثها القيم عن الأسطورة, في عالم إبراهيم إسحق الروائي (9) " كما نلاحظ الرّوي الذي يتوسل صيغة الراوي/ المتكلم " جليل يغالطني يا حازم, من الذي يعرف هذه الأعاجيب هنا غير عمر وعبدالقادر. يقول لي.. ولا أجدني أرضى.. أقول له يا جليل ..أقول لك حكاها لي رجل في محطة لواري على الرمال ,وراء ودعشانا, تحت القمر والليل صاف وحلة المساعد تكركر فوق اللهيب .. يحيكها لنا ذلك الحساني القادم من بادية الدويم(10)".. فهذه الرواية حاولت أن تلقي بكل أعباء المواقف والأحداث على شخصياتها , دون سلطة قابضة للراوي أو المؤلف , وقد نجحت فيما أطلقت عليه يمنى العيد ديموقراطية السرد ,في بحثها الروائي القيم (الراوي : الموقع والشكل) . نلاحظ أيضا أن نتؤات الجغرافيا وتعرجاتها الإجتماعية والنفسية , التي وسمت الإنسان, حملتها لغة السرد فاتسمت بها , فجاء السرد معقدا , وأنعكس ذلك وظيفيا على التقنيات المستخدمة ( أعني بوظيفيا هنا أو بالتفاعل الوظيفي ليس مفهومه ذاته في علم النفس "الشرطية" بل التأثير المتبادل بين السرد والتقنية السردية ) والإستخدامات اللغوية غير المألوفة- كما أشار الناقد السوداني الرّصين أحمد عبد المكرم في بحثه القيم عن فتح مغاليق عالم إبراهيم إسحق الروائي إلى وعورة السرد في أعمال إبراهيم إسحق , وهي ملاحظة قريبة الشبه من ملاحظتنا (11) . فنصوص إبراهيم إسحق تنزع بإستمرار- نحو البحث عن قيمة إكتشاف, أو تحليل شارح لواقع ما: كما يقول عبد المكرم - واقع ملتبس غائب أو معزول ,تسعى النصوص في تكاملها إلى تبيانه أو تجليته.. أسلوب إبراهيم اسحق,شديد الإيجاز والثراء ..
ثراء موضوع هذه الرواية , التي تنهض تيمتها في الطبيعة الفسيحة: جغرافيا - والمعقدة : إنسانيا , لكنها رغم ( كونها شائكة بهذا القدر) تختلف رؤيتها من زاوية أخرى, فهؤلاء الذين ارتبطوا بها "يتصارعون كالجواميس. وبشراتهم تجمرت مثل أكباد الإبل, ووجوههم عندما تشوّه.. تصبح كالذي تمضغ في أحشائه الأفاعي, وهم حذرون!. ينسابون على تعاريج الشط كالثعابين. يتحركون عندما تموت الشمس, ويهبط الظلام على الكون. يحيط بهم عواء الذئاب والثعالب والصقور, التي تداوم على خطف الأرانب والقطى والجديان. عندما ترجع الشمس وتكشف أماكن الأنهر والبحار ومجاري الأودية ,وغابات السنط والجبال وجذوع الأشجار والبردى ,في المستنقعات وطين الماء الضحل. يمكثون في قطياتهم حتى يظلم الليل, لمثل لون الغراب(12) هذه اللوحة التشكيلية , تشير إلى تقنية محددة لجأ اليها إسحق عبر توظيف الوصف في السرد التشكيلي بهذه الرواية , إذ نرى لوحة كاملة لإنسان بدائي وحياة برِّية , بطبيعتها الخلابة التي تنطوي على غموض الطبيعة وقوتها,وفي الوقت نفسه تنطوي على مخاوف الإنسان !!..
فكل شيء في هذه الرواية يحدث بإتفاق مع الطبيعة ,التي يحيطها الليل في رحمه.وظواهر هذه الطبيعة القابضة على فضاءات الرواية .. فحتى علاقة الحب بين غانم ومياكايا ,ترعاها هذه الطبيعة. إذ تنشأ في ليلها المدلهم .. حيث يتم كل شيء في الرواية ,على قاعدة الأضداد الثنائية, التي أشرنا إليها سلفا - على مستوى المضمون - كذلك على مستوى الشكل: نجد تزاوج التراثي والحداثي/ و الثقافي والشعبي/ التاريخي واليومي /و العامي والفصيح /و الإيقاعي والسردي.. وكل ذلك في سياق التفكك والتشظي وكسر النموذج !..
وزواج غانم من مايكايا هو الإيحاء بقصة كليلة ودمنّة عن الليل والنهار ,والجرذان اللذان يتناوبان قرض الحبل : الحياة والموت(13) فالحياة والموت كليهما مظهر من مظاهر هذه الطبيعة , وسمت به أبناءها فحملته حياتهم وسلوكهم .. ومثلما الشمس تموت لتحيا الدنيا بأسرها.. تولد من جديد "كأن الدنيا بأسرها ولدت من جديد عندما عوعّى الديك(14)".. هذا الثنائي في خروج الحياة من الموت.. والموت من الحياة . وخروجهما كليهما من مصدرهما الأساسي : الطبيعة , يدفعنا إلى المجازفة بزعم أن النص يقيم حوارا مع التفسير الديني للحياة! ..
تحياتي
عزة قادري
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني