لقد عبر الإنسان منذ طفولته الأولى بوساطة الشعر عن وجدانه وعمَّا يختلج في نفسه من ألم وغبطة ومن فرح وترح، ومن إحساس بالسعادة وشعور باليأس والإحباط، فكان الشعر- إذن في حياة الإنسان- تعبيراً عن تنازع البقاء، وعن صيرورة هذا الإنسان في الوجود. وإذا كانت أحواله تختلف من حيث الغبطة والرضا والتفاؤل والتشاؤم-مثلاً- فإن هذا الشعر بدوره يعاني من الوحشة والانقباض فهو تارة يحب ويلين، وأخرى ينقم ويحقد ويقسو على تصرفات الناس من حوله.
وقد تتحول تلك النقمة والوحشة أو الحقد والعداوة من مجرد إحساسات وجدانية داخلية تتفاعل في نفس الشاعر وتتعقد لتضاعف وتتطور ثم تنصهر في أعمال الوجدان الفردي، ثم يخرجها الشاعر إلى العالم الخارجي، بهجاء مشفوع بكثير من الملامح المشوّهة التي هي في الواقع ((تعبير مادي محسوس عن تلك الظلال الشعرية الموحشة الغائرة في أبعاد النفس))
فالهجاء بناء على هذا المنظور غرض شعري أصيل واكب الإنسان منذ الوهلة الأولى التي نطق فيها شعرا، أو هو –على الأقل- من أقدم الأغراض الشعرية في الجاهلية "ومما يدل على أن الهجاء كان أصلاً من أصول الشعر، وغاية منشودة يتطلبها البناء الاجتماعي التهديد بالهجاء ووصف الشعر بالصلابة وأدوات الحرب والنزال ونعت قصائد الهجاء بالأوابد".
وهكذا، فحين نتفهرس بعض الكتب النقدية القديمة نجدها في تقسيمها لأغراض الشعر العربي القديم لا تهمل غرض الهجاء، كأن يقسم بعضها تلك الأغراض إلى خمسة أقسام مدح فهجاء فغزل فوصف فرثاء، وقد قال أبو هلال العسكري في هذا الشأن: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيب والمراثى حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الاعتذار فأحسن فيه".
وعلى الرغم من إيماننا بأن الهجاء يمثل غرضاً أصيلاً في الشعر الجاهلي بعامة، إلا أن هذا الغرض لم يكن غرضاً يمتاز بغزارة المادة الشعرية كما هو الأمر بالقياس إلى الفخر والتشبيب-مثلاً- فالشاعر الجاهلي لم ينصرف-فيما يبدو- انصرافاً ظاهراً إلى فن الهجاء، وإنما كان هناك نوع من التهاجن الذي كان يعقب الأيام الجاهلية، يحفل بصور مما تشهدها في شعر الفخر، حيث تتحول إلى النقيض من الرذائل والمنكرات.
ولعل نظرة عجلى إلى المعلقات، وهي أصفى وأقدم ما وصلنا من الشعر الجاهلي تجعلنا نقف على أغراض الفخر والغزل والخمرة والوصف في حين يندر التعرض لغرض الهجاء.
ولعل حاجة الجاهلي إلى الفخر بالذات الفردية والجماعية كانت أمسّ من الحاجة إلى الهجاء، لذا فقد غلب غرض الفخر وطغى في البيئات البدائية على الهجاء. "فالبدائي يكاد لا يغشى إلاّ سطح الأشياء، ويقتصر غالباً، على الهموم المادية، لذا نراه يسرف بالتفاخر لأنه في زهوه واطلاعه الجديد على الوجود، يؤخذ بالدهشة والاستغراب ويترنّح بالانتصارات الصاخبة الشديدة الانفعال متجاوزاً عن التحديق بهاوية الفراغ والعتمة والوحشة التي تدلهم في نفس الحضري الذي لم يعد يرضى من الحياة بأن يحيا، بل يريد أن يفض لغز نفسه ولغز الوجود".
ويحاول أحد الدارسين أن يقيم وزناً بين نوعية الهجاء في البيئات البدائية وبين هذا الهجاء في البيئات الحضرية فيلاحظ أنّ الهجاء في البيئات البدائية غالباً ما يكون مرتبطاً بالفخر بحيث يكون امتداداً له، في حين يختلف الأمر في البيئات الحضرية بحيث يمثل الهجاء غايات أخرى، كأن يقول: ولا تحسبن أن الهجاء يقوم في البيئات الجاهلية البدائية، بل على العكس فإنه قد يظهر في أحيان كثيرة إلى جانب الفخر، لأنه امتداد له ومبالغة فيه، لكن هذا النوع من الهجاء هو هجاء سلبي، لا يظهر فيه رأس الإنسان، ولا سويداؤه المتجهمة، ولا أحداقه الفارغة المظلمة في جمجمة الوجود، لهذا فإننا نقبل على الهجاء الجاهلي ونكاد لا نشهد فيه إلا صورة من حياة الإنسان في سبيل اكتشاف الغاية الكبرى التي تجعله يشعر أن لحياته معنى، وتحرره من الشعور بالتفاهة والعقم واللاجدوى".
ومما تجدر ملاحظته، ونحن بصدد مناقشة مناحي الهجاء في الشعر الجاهلي أنَّ هناك علاقة جدلية بين المدح والهجاء تمثل-في الواقع- تصارع القيم الإنسانية في عمق الكائن الإنساني، فحين يتسم المدح بكونه بحثاً عن المثل الإنسانية السامية، ومطمح الشاعر لأن يضفي على الممدوح- وربما يعني نفسه- أنبل الصفات وأسماها، فإن الهجاء يتكئ على المدح في جل صوره لأنّه يمثّل الضد لتلك الصور والصفات، فالشاعر الهجّاء ينقض تماماً ما يصوره في المدح.
وقد قلنا-فيما سبق- إن الشاعر حين يفتخر بنفسه أو بقومه، فهو يصور تطلعه إلى أرقى ما هنالك من قيم إنسانية محبذة، فهو ينشد مُثلاً عليا تجسّدها تلك القيم الحميدة، وحتى إن قلّت نظائر تلك القيم في الواقع الذي يحياه منشدها فإنها تظل غاية إنسانية سامية يتشبّث الإنسان بكل الوسائل المؤدية إلى بلوغها.
وكذلك الأمر في مجال المدح، إذ هو من الأغراض الشعرية التي عرف بها الشعر القديم أكثر من غيره في شعر الأمم الأخرى، وحين نتأمل هذه الظاهرة الشعرية، قد لا نجدها مقتصرة على مجرد إبداء المهارة الفنية في خلق الاستعارات والتشبيهات وإضفاء الصفات المثالية على الممدوح بل نجدها أعمق من ذلك بكثير.
فالمدح قد يبدو مجرّد وسيلة للتكسب ونيل الحظوة لدى الملوك والأمراء الممدوحين، ولكنه ليس دائماً كذلك، فصفات الممدوح هي رغبة وجودية تعيش في لا شعور الإنسان (الشاعر) ويوطن النفس على بلوغها لنفسه، وما دامت السبل والوسائل غير مهيّأة لتمكينه من ذلك فإنه يكتفي-على الأقل- بتصويرها مقترنة بغيره، أما إذا كان هذا الشاعر فارساً، أو من ذوي النفوس المتطلعة إلى المعالي، فإنَّ الممدوح-حينئذ- يتحول إلى المادح نفسه أي أن الشاعر يمدح غيره تصريحاً، ويقصد نفسه تلميحاً، فشاعر مثل المتنبي لا نخاله حين يمدح سيف الدولة-مثلاً- إلاّ قاصداً نفسه لأنه يرى في شخصية ذلك الأمير صورة عن شخصه من جهة، ولأن نفس الشاعر جُبلت على حب المعالي وركبت المخاطر والأهوال قصد بلوغ غايات سامية ومراتب عُليا من جهة أخرى، وإذا لم يكن ذلك ليتحقّق على أرض الواقع، فإن تلك القيم التي عبر عنها الشاعر من خلال غرض المدح هي –على الأقل- قاسم مشترك بين المادح والممدوح.
خالد أبزاخ
وقد تتحول تلك النقمة والوحشة أو الحقد والعداوة من مجرد إحساسات وجدانية داخلية تتفاعل في نفس الشاعر وتتعقد لتضاعف وتتطور ثم تنصهر في أعمال الوجدان الفردي، ثم يخرجها الشاعر إلى العالم الخارجي، بهجاء مشفوع بكثير من الملامح المشوّهة التي هي في الواقع ((تعبير مادي محسوس عن تلك الظلال الشعرية الموحشة الغائرة في أبعاد النفس))
فالهجاء بناء على هذا المنظور غرض شعري أصيل واكب الإنسان منذ الوهلة الأولى التي نطق فيها شعرا، أو هو –على الأقل- من أقدم الأغراض الشعرية في الجاهلية "ومما يدل على أن الهجاء كان أصلاً من أصول الشعر، وغاية منشودة يتطلبها البناء الاجتماعي التهديد بالهجاء ووصف الشعر بالصلابة وأدوات الحرب والنزال ونعت قصائد الهجاء بالأوابد".
وهكذا، فحين نتفهرس بعض الكتب النقدية القديمة نجدها في تقسيمها لأغراض الشعر العربي القديم لا تهمل غرض الهجاء، كأن يقسم بعضها تلك الأغراض إلى خمسة أقسام مدح فهجاء فغزل فوصف فرثاء، وقد قال أبو هلال العسكري في هذا الشأن: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيب والمراثى حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الاعتذار فأحسن فيه".
وعلى الرغم من إيماننا بأن الهجاء يمثل غرضاً أصيلاً في الشعر الجاهلي بعامة، إلا أن هذا الغرض لم يكن غرضاً يمتاز بغزارة المادة الشعرية كما هو الأمر بالقياس إلى الفخر والتشبيب-مثلاً- فالشاعر الجاهلي لم ينصرف-فيما يبدو- انصرافاً ظاهراً إلى فن الهجاء، وإنما كان هناك نوع من التهاجن الذي كان يعقب الأيام الجاهلية، يحفل بصور مما تشهدها في شعر الفخر، حيث تتحول إلى النقيض من الرذائل والمنكرات.
ولعل نظرة عجلى إلى المعلقات، وهي أصفى وأقدم ما وصلنا من الشعر الجاهلي تجعلنا نقف على أغراض الفخر والغزل والخمرة والوصف في حين يندر التعرض لغرض الهجاء.
ولعل حاجة الجاهلي إلى الفخر بالذات الفردية والجماعية كانت أمسّ من الحاجة إلى الهجاء، لذا فقد غلب غرض الفخر وطغى في البيئات البدائية على الهجاء. "فالبدائي يكاد لا يغشى إلاّ سطح الأشياء، ويقتصر غالباً، على الهموم المادية، لذا نراه يسرف بالتفاخر لأنه في زهوه واطلاعه الجديد على الوجود، يؤخذ بالدهشة والاستغراب ويترنّح بالانتصارات الصاخبة الشديدة الانفعال متجاوزاً عن التحديق بهاوية الفراغ والعتمة والوحشة التي تدلهم في نفس الحضري الذي لم يعد يرضى من الحياة بأن يحيا، بل يريد أن يفض لغز نفسه ولغز الوجود".
ويحاول أحد الدارسين أن يقيم وزناً بين نوعية الهجاء في البيئات البدائية وبين هذا الهجاء في البيئات الحضرية فيلاحظ أنّ الهجاء في البيئات البدائية غالباً ما يكون مرتبطاً بالفخر بحيث يكون امتداداً له، في حين يختلف الأمر في البيئات الحضرية بحيث يمثل الهجاء غايات أخرى، كأن يقول: ولا تحسبن أن الهجاء يقوم في البيئات الجاهلية البدائية، بل على العكس فإنه قد يظهر في أحيان كثيرة إلى جانب الفخر، لأنه امتداد له ومبالغة فيه، لكن هذا النوع من الهجاء هو هجاء سلبي، لا يظهر فيه رأس الإنسان، ولا سويداؤه المتجهمة، ولا أحداقه الفارغة المظلمة في جمجمة الوجود، لهذا فإننا نقبل على الهجاء الجاهلي ونكاد لا نشهد فيه إلا صورة من حياة الإنسان في سبيل اكتشاف الغاية الكبرى التي تجعله يشعر أن لحياته معنى، وتحرره من الشعور بالتفاهة والعقم واللاجدوى".
ومما تجدر ملاحظته، ونحن بصدد مناقشة مناحي الهجاء في الشعر الجاهلي أنَّ هناك علاقة جدلية بين المدح والهجاء تمثل-في الواقع- تصارع القيم الإنسانية في عمق الكائن الإنساني، فحين يتسم المدح بكونه بحثاً عن المثل الإنسانية السامية، ومطمح الشاعر لأن يضفي على الممدوح- وربما يعني نفسه- أنبل الصفات وأسماها، فإن الهجاء يتكئ على المدح في جل صوره لأنّه يمثّل الضد لتلك الصور والصفات، فالشاعر الهجّاء ينقض تماماً ما يصوره في المدح.
وقد قلنا-فيما سبق- إن الشاعر حين يفتخر بنفسه أو بقومه، فهو يصور تطلعه إلى أرقى ما هنالك من قيم إنسانية محبذة، فهو ينشد مُثلاً عليا تجسّدها تلك القيم الحميدة، وحتى إن قلّت نظائر تلك القيم في الواقع الذي يحياه منشدها فإنها تظل غاية إنسانية سامية يتشبّث الإنسان بكل الوسائل المؤدية إلى بلوغها.
وكذلك الأمر في مجال المدح، إذ هو من الأغراض الشعرية التي عرف بها الشعر القديم أكثر من غيره في شعر الأمم الأخرى، وحين نتأمل هذه الظاهرة الشعرية، قد لا نجدها مقتصرة على مجرد إبداء المهارة الفنية في خلق الاستعارات والتشبيهات وإضفاء الصفات المثالية على الممدوح بل نجدها أعمق من ذلك بكثير.
فالمدح قد يبدو مجرّد وسيلة للتكسب ونيل الحظوة لدى الملوك والأمراء الممدوحين، ولكنه ليس دائماً كذلك، فصفات الممدوح هي رغبة وجودية تعيش في لا شعور الإنسان (الشاعر) ويوطن النفس على بلوغها لنفسه، وما دامت السبل والوسائل غير مهيّأة لتمكينه من ذلك فإنه يكتفي-على الأقل- بتصويرها مقترنة بغيره، أما إذا كان هذا الشاعر فارساً، أو من ذوي النفوس المتطلعة إلى المعالي، فإنَّ الممدوح-حينئذ- يتحول إلى المادح نفسه أي أن الشاعر يمدح غيره تصريحاً، ويقصد نفسه تلميحاً، فشاعر مثل المتنبي لا نخاله حين يمدح سيف الدولة-مثلاً- إلاّ قاصداً نفسه لأنه يرى في شخصية ذلك الأمير صورة عن شخصه من جهة، ولأن نفس الشاعر جُبلت على حب المعالي وركبت المخاطر والأهوال قصد بلوغ غايات سامية ومراتب عُليا من جهة أخرى، وإذا لم يكن ذلك ليتحقّق على أرض الواقع، فإن تلك القيم التي عبر عنها الشاعر من خلال غرض المدح هي –على الأقل- قاسم مشترك بين المادح والممدوح.
خالد أبزاخ
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني