من طرف د. ماهر علوان السبت أغسطس 14, 2010 1:52 pm
لقد جعلَ الله سبحانه وتعالى شهرَ رمضانَ مِضماراً لعبادِه، يتسابقون فيه إلى طاعته، امتثالاً لقوله عزّ وجلّ: (فاستبقوا الخيرات..)، فسبقَ قومٌ ففازوا، وتخلّفَ أقوامٌ فخابوا. وقد خابَ وخسرَ من أدركَ رمضانَ ولم يُغفَرْ له..
ولقد كتبَ اللهُ الصيامَ على عبادِه أمةً بعدَ أمة، تزكيةً لأرواحهم، وتربيةً لنفوسهم، وإجماماً لأجسامهم من الانكبابِ على العادات والشهوات، وجعلَ جُماعَ الخيرِ كلّه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وأساسُ التقوى كما أجابَ أبيُّ بن كعبٍ سيدَنا عمرَ بن الخطابِ رضيَ الله عنهما حيث قال: (أما سلكْتَ طريقاً ذا شَوْك؟! قالَ: بلى، قالَ: فما فعلْت؟ قالَ: شمّرْتُ واجتهدْتُ، قالَ: فذلك التقوى..)
شهرُ رمضانَ منحةٌ ربانية، وهو - إذ يعودُ - يمنحُ فرصةً جديدةً لناسٍ لم يتذكّرْ، ولغافلٍ لم يتنبّهْ، ولمقصّرٍ لم يشمّرْ، ولمتوانٍ لم يبادرْ. فربما لا يكونُ لبعضِنا بعدَه رمضان!! فكمْ من صائمٍ هذا العامَ لنْ يصومَ بعدَه، وكمْ من قائمٍ هذا العامَ لنْ يقوم بعدَه..
وأولُ أمرِ التقوى في رمضان، أنْ نجعلَ منه محطّةً للتوبة.. ربما يقولُ أحدُنا في غفلته: أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، دون أن يستحضرَ معنى الاستغفار، ودونَ أن يستحضرَ لنفسه ذنباً أو يذكرَ خطيئة!! وقد كان الصحابةُ رضوانُ الله عليهم يُحصُونَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم أكثرَ من مئةِ مرّةٍ قولَه: (اللهمّ اغفرْ لي وتُبْ عليّ، إنك أنتَ التوّابُ الرحيم). وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفرُ اللهَ في كلّ يومٍ مئةَ مرة). فتأملْ أخي.. هلْ تشعرُ أنه يُغانُ على قلبك؟ وهلْ تجدُ حالاً تدفعُك إلى أن تفزَعَ إلى الاستغفار، فتجلوَ به عن نفسكَ بعضَ الغَيْن؟ أو تُزيحَ عن قلبكَ بعضَ الران؟.
والتوبةُ بكاءٌ على خطيئة، وندمٌ على ذنب، وإقلاعٌ عنه، وعزيمةٌ صادقةٌ على أن لا نعودَ إليه. والتوبةُ من كبائر الإثم، ليستْ أقلّ في ميزان الله من التوبةِ من الفواحش (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِش..) فقد عطفَ القرآنُ الكريمُ كبائرَ الإثم على الفواحش في آيتين. وكبائرُ الإثمِ تشملُ في جملتها كلّ ما يُسخِطُ اللهَ عز وجل، من معاصي الجوارح ومعاصي القلوب التي تكونُ بين العبد وربه، الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدور..
والتوبة ينبغي أن تمرّ على هذه الوديان الخفيّة، فتطهّرَ القلوبَ من العُجْبِ والكِبْرِ، ومن الغلّ والحسَدِ، والكراهيةِ والبغضاء (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ؛ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِىَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدّينَ..)
ومن كبائر الإثم أن يُظَنّ بالله غيرَ الحقّ (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ، أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (يظنّون باللهِ غيرَ الحقّ ظنّ الجاهلية). ومن ظنّ الجاهليةِ اليأسُ من رَوْحِ الله، فاليأسُ من رَوْحِ الله كفر (إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وحسنُ الظنّ بالله عقيدةٌ نلقى عليها ربنا، (أنا عندَ ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء). حسنُ ظنٍّ بالله، تتبعُهُ عزيمةٌ، وتوكّلٌ، ومبادرةٌ، وجهدٌ، وعملٌ، وصبرٌ، ومصابرةٌ، وأمل..
ومن أول ما ينبغي أن نتوبَ منه في شهر التوبة.. حصائدُ الألسنة، تلكَ الحصائدُ التي تكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهم يومَ القيامة: الكذبُ، والغيبةُ، والبهتانُ، والنميمةُ، والسعيُ بالفتنةِ بين الناس، والسخريةُ من الآخرين.. (يا أيّها الذين آمنوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ.. كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا).
ورمضانُ شهرُ الصبر، والصبرُ نصفُ الإيمان، الصبرُ على ما نكره، والصبرُ عما نحبّ (وَعَسَى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، وعسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
والصبرُ الجميلُ هو الصبرُ الإيجابيّ الفاعل، الذي يجعلُ من حال الصابر مُنطلَقاً للعملِ والإنجاز، فالصبرُ لا يعني أبداً الاستسلامَ السلبيّ المنتظِرَ والمترقّب.
الصبرُ الجميلُ أن نجدَ في قلبِ المحنةِ فرجةً للنفوذ إلى العمل الإيجابي، فالمسلمُ أعظمُ من أن يقعدَ حائراً بائراً، لا يقدّمُ ولا يؤخّر، ينتظرُ ما يُفعَل به. وإنّ مغالبةَ الأقدارِ بالأقدار، والفرارَ من قضاءِ اللهِ وقدَرِه، إلى قضاءِ اللهِ وقدَرِه.. هي حقيقةُ الإيمانِ التي يجبُ أن تنتعِشَ في قلوبنا في شهرِ رمضانَ الكريم.
ومن الصبر الجميل يَنبعُ الرضى عن الله، وهو حالٌ ومقامٌ ما أحرانا أن نسعى إليه في هذا الشهر الكريم، ما أحرانا أن نستحضرَ فيه قولَ الله عزّ وجل: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا، هُوَ مَوْلانَا..)، ونتأمّلَ قولَه عز وجلّ (ما كتب الله لنا)، ولم يقلْ (ما كتبَ علينا)، لعلنا نرتقي إلى مقام الرضى عن الله في كل أحوالنا. إنّ الرضا عن اللهِ حالٌ تعيشُها القلوبُ المؤمنةُ في هذا الشهر الكريم، على طريقِ الرهطِ الذين أنزلَ اللهُ فيهم: (رضيَ اللهُ عنهم ورضُوا عنه).
أما حالةُ السّخطِ والتسخّطِ على الله والناس، التي يعيشُها بعضُهم في نفسه، أو في أسرته، أوبين إخوانه، أوفي إطار مجتمعه.. فهي من أعظم كبائر الإثم، التي ينبغي على أصحابها أن يبادروا إلى التوبة منها في هذا الشهر الكريم. هذا الإنسان الذي يكونُ دائماً ساخطاً، رافضاً، مُنكِراًً، لا يعجبُه شيءٌ، ولا يملأ عينَه أحد، يعيشُ حالةً من التذمّرِ الدائم وهو في أمن، ويشكو وهو في عافية، همّه أن يعيبَ العاملين، وينتقصَ المبادرين.. حالةً جديرةً أن تُثيرَ على صاحبها القلق، وتبعثَ على الإشفاق، حالةً تدعونا أن نضعَها تحت النظر والمعالجة في هذا الشهر الفضيل. متذكّرين قولَ اللهِ عزّ وجلّ: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، وقولَ الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم: (منْ رضيَ فلَهُ الرّضى، ومنْ سخِطَ فلَهُ السّخَط).
والرضى عن الله عزّ وجلّ، لا يتعارضُ مع واجب المراجعةِ والتقويم، وإعادةِ النظرِ في الأمور وتدبّرها، والمقارنةِ بين ما استقبلنا من أمرنا وما استدبرنا.. على صعيدِ الفردِ والأسرةِ والجماعةِ والحياة العامة، وعلى كل صعيد..
ورمضانُ شهرُ الجودِ والكرمِ والعطاء، وكانَ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضان، حينَ يلقاهُ جبريل، وكانَ يلقاهُ في كلّ ليلةٍ في رمضان، فيدارسُه القرآن..
(يقولُ ابنُ آدمَ مالي مالي.. وهلْ لكَ من مالِكَ إلاّ ما أكلْتَ فأفنَيْت، أو لَبِسْتَ فأبلَيْت، أو تصَدّقْتَ فأبقَيْت). إنها دعوةٌ للبذلِ والعطاءِ. ولا يُشترَطُ في البذلِ أن يكونَ عن سَعَة، فقد (سبقَ درهمٌ مائةَ ألف درهم).
ورمضانُ شهرُ القرآن، وكان جبريلُ عليه السلام يراجعُ القرآنَ مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ ليلة في رمضان، فعطّروا صيامَكم بتلاوةِ القرآن، وتدبّر آياته، والوقوفِ عند حدوده، وتعهّدوا أهليكم وأبناءَكم وبناتِكم بقراءته وفهمه، لنعشْ مع القرآن في شهر القرآن، فهو مأدبةُ الله التي مدّها بين أيدينا عبْرَ الزمان.
ورمضانُ شهرُ القيام، والقيامُ فريضةُ اللهِ الأولى على الدعاةِ المتجرّدين لله، وللعمل في سبيله عوناً على القيام بحقّ الدعوة (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً).
ولقد كان قيامُ الليل - وما يزالُ - شعارَ الصالحين من هذه الأمة، ما أحرانا في هذا الموسم الكريم، أن نراجعَ أنفسنا في أمر هذه الشعيرة، وأين نحن منها؟.
وصلاةُ التراويح شَعيرةُ رمضان، وفي أدائها في المساجد مع الجماعة، تعظيمٌ لشعائر الله، وتكثيرٌ لسواد القائمين القانتين. وصلاةُ التهجّد في ساعاتِ السَّحَر، من الخير الذي ينبغي أن لا يفوتَنا في هذه الليالي النضِرات.
ورمضانُ شهرُ الدعاء، والدعاءُ مُخّ العبادة.. وما أحوجَنا إلى الضراعة والدعاء، وتدبّر قولِ الله عز وجل في سياق آيات الصيام: (وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب، أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلّهم يرشُدون)، وقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عندَ فطره لدعوةٌ ما تردّ). لندْعُ اللهَ ونحنُ موقنون بالإجابة، أن يكشفَ الكرب، ويفرّجَ الغمّة، وأن يعزمَ لهذه الأمة أمرَ رشد، يعزّ فيه أهل طاعته، ويذلّ فيه أهل معصيته، ويؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر..
لقد أظلّنا رمضانُ، شهرُ خيرٍ وبركةٍ، وطاعةٍ وصبرٍ، وجودٍ وبذل.. شهرُ صيامٍ وقيامٍ وتجرّدِ وإخلاص.. منحةً ربانيةً جديدة، وفرصةً للانطلاق إلى عالمٍ من الطّهرِ والنّقاء.. وهذا المنادي ينادي فوقَ رؤوسنا الرحيلَ الرحيلَ.. ويا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرّ أقصرْ.
حريٌّ بنا أن نُحسِنَ استقبالَ هذا الشهر الكريم، واغتنامَ أيامه ولياليه، فنصومَه حقّ صيامه، ونقومَه حقّ قيامه، ونُريَ الله فيه من أنفسنا خيرا، فهو فرصةٌ للمراجعة والتوبة والتقويم والارتقاء، ومناسبةٌ لاستنهاض الهمم، وشحذ العزائم، والتنافس في الخير..
لنذكرْ في هذا المقام، إخوةً لنا صاموا معنا رمضاناتٍ كثيرة، ثم تصرّمَتْ آجالُهم، وانقضَتْ أعمارُهم، وطُوِيَتْ سِجلاّتهم.. نتذكّرُهم في رمضاننا هذا بدعوةٍ صالحة ..عسى ربنا أن يرحمَنا، ويغفرَ لنا، ويُعتقَ رقابَنا من النار.. في شهرٍ أولُه رحمة، وأوسَطُه مغفرة، وآخرُه عتقٌ من النار..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصياماً متقبلاً
د. ماهر علوان
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني