نحاول هنا أن نوثق الحركة المسرحية في قطاع غزة من خلال نشر ما وجدناه في أوراقنا المبعثرة ، (تحليل مسرحية إبريق الزيت ، المسرحية لبنة نحو مسرح فلسطيني جاد ) كتبناه في شهر سبتمبر 1992.مسرحية إبريق الزيت باكورة أعمال فرقة كنعان المسرحية . يدور موضوع المسرحية حول صراع طويل الأمد وشاق بين أهالي كفر كنعان وبين العربيد الأسود الذي استولى على أراضي أهل البلد وممتلكاتهم فحرمهم طعم النوم والراحة . القصة في حد ذاتها رمزية سهلة الكشف والإدراك – باستثناء رقصة المقنعين – وإذا طالعنا النص الأصلي للمؤلف جهاد سعيد نجد أنه نص درامي فيه خميرة طيبة يبشر بظهور كاتب مسرحي جاد ، وأهم تعليق نورده على هذا النص بطرح التساؤل التالي :لماذا اختار الكاتب شخصية كنعان أو بالأحرى لفظة كنعان ؟ لقد استطاعت فرقة كنعان تجسيد فكرة المؤلف بصورة ملائمة ، حيث أدى الممثل فتحي عمر دوره (سيد كنعان) بجدارة فكان لحضوره الخاص هيبة تتوافق مع حسه الحضاري والتاريخي ، وقد ساعده على ذلك قوامه الممشوق وصوته المميز ،عميق أجش ،كذلك أدى الممثل محمد أبو كرش دوره (أبو النص) بانطلاق وحرية ، فقد استطاع تجسيد الضمير الفلسطيني وإن كنت أظن أن دوره يقترب من دور المهرج على شكل بائع اسكيمو متجول يبرد الصدور الحارة التي أرهقتها ملاحقة العرابيد السوداء من أطفال ورجال ونساء فهو، يعمل على توحيد العلاقة بين شخصيات المسرحية ، ويعمل كذلك على إثارة الضحك ، وهذا عنصر تفتقر إليه المسرحية ، وكانت تعليقات أبو النص تنطوي على الحكمة أحيانا وأحيانا أخرى لا يؤخذ بكلامه وذلك عندما يتهم سيدي كنعان بالتخريف 0 كذلك أجاد الممثل فوزي عابد ( أبو أسعد ) وإن كان الماكياج لم يساعده فلم تظهر على وجهه علامات الكبر وتجاعيده ولا تكفي أن يكون الحواجب بيضاء للإيهام بكبر السن للشخصية . الجمهور وهو راض عنها كل الرضا إلا أن لدينا بعض الملاحظات على أدائها ،حيث كان ينقصها الحركة الموائمة للحدث فلم تطوع حركاتها وملامح وجهها أثناء الدهشة والانفعال الحاد فهي لم تحسن أداء لحظتي التدلل والغضب أمام زميلها الممثل أكرم عبيد الذي كان دوره قصيرا وقد استطاع بهذا الدور طرح قضية علاقة المتعلمين بالمجتمع فهو شاب درس إدارة الأعمال في أوروبا وحصل على درجة الدكتوراه وعند عودته فوجئ بمطالب المجتمع وهي المشاركة الفعالة في ملاحقة العرابيد واستثمار الأرض إلا أنه عارض ذلك وبشدة وآثر الهجرة . وأرى أن هذا الحدث بالذات لم يستطع المخرج استغلاله جيدا فقد كان حدثا عاديا لم يجذب انتباه المشاهدين لأن المخرج لم يوظف أبناء المجتمع للتفاهم مع هذا المتعلم (طارق) فتركه يخرج دون مبالاة ليهاجر، فليس بهذه الحدية تقطع العلاقات بين المجتمع والشباب المتعلم .أما الممثل نصر الدين الذي قام بدور(الحاج ) فهو بحاجة إلى حركات مسرحية ملائمة لتكون أكثر واقعية مع حركات زملائه . ولي ملاحظة أخيرة على الإخراج وهي طريقة ظهور كنعان على خشبة المسرح من الباب العادي وبما أن إحياءه وتواجده بيننا أمر خارق للعادة أرى أن يكون حضوره أيضا بطريقة غير عادية كأن يظهر من خلال شق في ستارة سوداء أو تكون الستارة على شكل معبد كنعاني ، ويظهر في لحظة ظلام مع إضاءة خاصة كلحظة توهج وانبهار . أما سعيد البيطار فكفاه فخرا أن يكون مخرجا .والديكور كان تراثيا كنعانيا يحتوي على نقوش وحروف كنعانية وهو يمثل البيئة التي كان بها الحدث . وقد ساعدت كلمات الشاعر محمود عفانة الغنائية في جذب انتباه المشاهدين وكانت كلماته ملائمة للجو العام المعاش في الصالة لأنها كتبت وفق تصور الحدث . أما الملابس فكانت بلا شك منبثقة من التراث الفلسطيني خاصة ملابس كنعان . تعد هذه المسرحية لبنة جديدة وخطوة واسعة نحو خلق مسرح فلسطيني جاد في قطاع غزة .

وفي شهر اكتوبر1992 كتبنا مقالا بعنوان (حول مسرحية المنبوذ0000؟)مسرحية المنبوذ من أصعب وأعقد أنواع المسرح إنه (الموندراما)أي مسرحية متكاملة تعتمد على ممثل واحد .وهي من تأليف مصطفى النبيه وإخراج معين الحلبي .وهذه المسرحية قائمة على مجموعة من اللوحات الخطابية الصغيرة والتي لا يربطها أي خط درامي .وهي في النص الأصلي عبارة عن كلام خطابي انفعالي لا يحتوي على حدث . لكن المخرج قام بإعادة تشكيل النص الأصلي ، فأضاف إليه مقدمة أوجدت رابطا بين الجمهور والممثل خاصة إضافة عنصر الشجرة على شكل خارطة للوطن والتي هي الطرف الثاني التي أعطت للممثل مقدرة على أن يحاور ويتحرك ويناور ، فالإخراج كان جيدا والموسيقى والأغاني كانت لها تأثير كبير في جذب المشاهدين ، فهي أغان تمس مشاعر المتلقي فتثيره وتتلاءم أيضا مع طبيعة الأداء 0 المسرحية رمزية تبين علاقة الفلسطيني بالأمة العربية من حوله حيث لا ملجأ في النهاية إلا أرض الوطن ، وإن كنت أرى أن النظرة التشاؤمية الموغلة في السوداوية مع عدم إعطاء أمل للمشاهد أمر غير مرغوب ، ناهيك عن التناقض الفكري في المسرحية ، فهو يتحدث عن السلام الفاسد حينما يخاطب المرحوم ناجي العلي ، وفي مكان آخر يفضل اختيار طريق الحمامة . إجمالا كان هناك تصفيق من الجمهور ومرد هذا التصفيق إلى أمرين 1-الضغط على مشاعر الجماهير بطرح عذاب الإنسان الفلسطيني ومأساته 2- نجاح الممثل مصطفى النبيه في تجسيد هذه المعاناة وتلك المآسي . وهذا ليس غريبا عليه لأنه يعايش المشكلة ويتجرع كأس مرارتها شخصيا .
أراد مصطفى النبيه لنفسه الخوض في هذا النوع من المسرح فالتمثيل المنفرد يحتاج إلى طاقة تمثيلية هائلة والمقدرة على تقليد الأصوات وتقمص عدة شخصيات في آن واحد دون اللجوء إلى الانفعال الحاد المتوتر والمستمر طيلة عرض المسرحية كما فعل ممثل المنبوذ ، فليس هناك خطا دراميا يصعد به الممثل في انفعالاته وفي حركاته ، وأرى أن التوجه الدائم إلى خارطة الوطن وتقبيلها أصبح أمرا ممجوجا ، وقد تلذذ الممثل بذلك نتيجة للتصفيق الحاد عند معانقته خارطة الوطن . وكان للإضاءة الدور الأكبر في مساعدة الممثل على انجاز مهمته الصعبة . يكفي القائمين على هذه المسرحية فخرا أنهم أقدموا على عمل صعب ومعقد يحتاج إلى نص يدرك معنى الموندراما وهو نص نادر ليس في الأراضي الفلسطينية المحتلة فحسب وإنما في الوطن العربي تقريبا . ولعل مسرحية مضار التبغ لأنطوان تشيكوف من أفضل النماذج في هذا المجال.



تحياتي

سالي القباعي