ما من شاعر من الشعراء المعاصرین الاّ وعَقَدَ مرة تفعيلاته ندّاً أو فكرة ناهيك بالذين قصدوا هذا الفن لمزاجهم المرح أو لاسباب أخري، فاجادوا فيه وأكثروا. وعنددراستنا لهذا الموضوع وجدنا فریقین من الادباء یتخذون الکتابةالساخرة:
أ- فريق اتّسم بالروح المرحة دائماً فتجلّت في كل كتاباتهم ويعرفون بمزاج ساخر في كتاباتهم و نظمهم كله، وقد تنالوا السخرية من وجهتين:
1- في نظم مداعبة أو نادرة أو في ردٍّ شعري ساخر يختصر نكتة أو التفاتة طريفة.
2- توسعها في أغراض الشعر علي تنوعها أسلوباً يساعد في إظهار المعاني الطف وأذكي بخاصة في الهجاء حيث للسخرية باب واسع –كما هومعلوم.
ب- و فريق ثانٍ أفاد من الفكاهة في بعض كتاباته للنقد والهجاء. يستخدم الفريق الثاني فنون السخرية للنيل من الخصوم، أو لنقد مذهب أو أسلوب أدبي، فهي أمضي سلاح هجومي لا يخرق الاعراف و لا يتحدّي القوانين إذا أُحسن استعماله ظاهراً أو باطناً في عبارات والتفاتات ذكية.
ونحن فی هذا المقال بصدد الاشارة الی السخریة فی الشعرالحروقد وقع اختیارنا علی شاعر من الرواد فی الشعرالحر ألا وهوشاعرنا الفذ نزارقبانی، وانه لایخفی علی دارس للادب العربی مکانة هذا الشاعربین شعراء العربیة فی العصر الحدیث. وقد تحدثنا اولا عن بداية الشعر الحّرفي الأدب العربي ثم تطرقنا الی السخریة والشعر الحر، وتحدثنا حول علاقة السخریة بالسیایة، وبعد ذلک دخلنا فی صلب الموضوع وهو دراسة فی السخریة السیاسیة عند الشاعر نزار قبانی. بداية الشعر الحّر في الأدب العربي:
«ليست مشكلة التجديد في الشعر العربي حديثة العهد، بل هي قديمة ترجع إلي القرن الثامن (من الميلاد).
كان النقاد، آنذاك يعتبرون الشعر العربي، من هذه الناحية، عهدين:
يبدأ الأول قبل الاسلام بنحو مئة سنة، أي في أوائل القرن السادس، و ينتهي بعد الإسلام بنحو مئة سنة كذلگ. و تسمي هذه الفترة فترة الشعر القديم، أما العهد الثاني فيبدأ بقيام الدولة العباسية في أواسط القرن الثامن حيث بدأت فترة الشعر المحدث.»[1]
وهكذا نري التجديد و الإتيان به يتكرر فترة بعد فترة في الشعر العربي حتي نصل إلي آخر جيل من هؤلاء المتجددين الذين يعرفون بشعراء مدرسة «الشعر الحّر» و كانت علي رأسهم الشاعرة و الناقدة العراقية «نازك الملائكة»، [2] حيث تقول عن هذه الحركة: [3]
« كانت بداية حركة الشعر الحّر سنة 1947، في العراق. و من العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة و امتدّت حتي غَمرت الوطن العربي كله و كادت، بسبب تطرّف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخري جميعاً. و كانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المُعَنْوَنة «الكوليرا».
و قد ذكر بعض النقاد و الشعراء ميزات لهذا الشعر، منها:
« 1- الخروج من الزمن الشعري العربي الواقف إلي زمن تمتد أجزاؤه و تتسع كل لحظة.
2- تحررت القصيدة الحديثة موسيقياً من الجبرية و من حتميّة البحور الخليلية و وثنية القافية الموحدة.». [4]
یذکرمحمدحمودفی کتابه«الحداثةفی الشعرالعربی»عن بناءالقصیدة قائلاً: «فالقصيدة الجديدة لن تسكن في أي شكل وهي جاهدة ابداً في الهَرَبِ من كل انواع الأنحباس في أوزان أو ايقاعات محدودة بحيث يتاح لها أن توحي بالإحساس.» [5]
«و قد سيطرت هذه التغييرات في القافية كما سبق و رأينا علي الشعر العربي خلال فترة الكلاسيكية الجديدة و الرومانسية حتي بدأت تجارب الشعر الجديد في أواخر الأربعينات، و أحس الشاعر الحديث بمدي ثقل القافية كنوع من الإلزام الخارجي، فطرحها ضمن ما طرح من شكليات الوزن الشعري». [6]
من أشهر رُوّاد هذه المدرسة الشعرية: نازك الملائكة، و بدر شاكر السياب،[7] و البياتي [8]، و بلنـــــد الحيــــدري[9] من العــــراق،و صــــلاح عبدالصبـــور[10]و عبدالمعطي حجازي[11]،و أمل دنقل[12] من مصر، و أدونيس [13]، و نزار قباني الذي سنرکزفی هذه المقالةعلی سخریته السیاسیة من سوريا و خليل حاوی [14]من لبنان، و محمد الفيتوري [15]من السودان، و محمود درويش و سميح القاسم من فلسطين، و….
السخرية و الشعر الحرّ:
رغم التغيير الحاصل في الشكل و المضامين الشعرية عند الشعراء الجُدد لم،نلاحظ تغييراً هاماً في مجال استخدام الفن الساخر عند الشعراء، فما زالت المواضيع نفسها التي كانت تستخدم في الشعر الكلاسيكي إلاّ أننّا نري قد تغيّر الأسلوب من المباشر إلي الغير مباشر و في بعض الأمعان و التدقيق.
و عندما نتصفّح دواوين هؤلاء الشعراء، نجد السخرية قد أخذت حيّزاً واسعاً من الشعر الساخر بالنسبة لأنواع السخرية الشعرية المستخدمة في شعرهم، و قد ساهمت السخرية السياسية في تمثيل الواضع الراهن في العالم العربي حيث تمنحنا صوراً واضحة عن قضاياه و تساعدنا في الإصلاع علي خفاياه من مختلف جوانبه، المحليّة و العربيّة و العالميّة، رابطة الأحداث بما يدور حولنا.
طبعاً، لم تقتصر السخرية عند هؤلاء الشعراء علي هذا اللون فقط، بل نجد في مجالات أخري قد استطاعت السخرية أن تصوّر من خلالها معالم حياة العالم العربي لأن السخرية تنبثق مع كل حركة أو كلمة و لا تُحدّد نبوع خاص أو مجال محدود، و بالأحري نستطيع أن نقول:كلّ موضوع يصلح أن يكون محطّة للسخرية.
و لو أردنا أن نقسم الشعراء في مجال استخدم السخرية لجعلناهم في جماعتين: جماعة قد اتخذت السخرية أسلوباً في شعرها فتجلّت في كل شعرها، مِنْ أمثال:نزار قباني و أحمد مطر،
فإنّ هذین الشاعرین أستطاعا أن يستخدما ألوان السخرية بغزارة في شعرهما لا سيّما في المجال السياسي، فالسخرية عندهما سلاح هجومي لا يخرق الاعراف، و لا يتحّدي القوانين إذا أحسن استخدامه ظاهراً أو باطناً في عبارات و التفاتات ذكيّة. و جماعة ثانية أفادت من السخرية في بعض أشعارها للنقد و الإعتراض،فنري قصائد ساخرة هنا و هناك في دواوينهم و أنهّم قد استخدموا السخرية في مجالات متنوّعة، دون أن تطفي السخرية علي شعرهم، من هؤلاء الشعراء: البياتي و صلاح عبدالصبور، و أمل دنقل و غيرهم.
علاقة السخرية بالسياسة:
«ترجع المعاني اللغوية للكلمة»السياسة«كما وردت في المعاجم إلي تدبير شئون الناس،و تملك أمورهم، و الرياسة عليهم، و نفاذ الأمر فيهم». [16]
«هذه هي السياسة، و يكون الشعر السياسي إذاً، هو هذا الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدول الداخلي أو بنفوذ ها الخارجي و مكانتها بين الدول».[17]
و حسب هذه التعاريف تكون بين السخرية و السياسة علاقة و طيدة، لأنّ السياسة هي فن الحكم و يحتاج من يتعاطاها أن يكون ذكياً في معاملته مع الآخرين، و في السخرية أيضاً يجب علي من يكتبها أن يتمتع بذكاء و لباقة –كما بيننّا –لكي يستطيع الربط المطلوب و الموجود،و بين الظاهر المستور.
و من ناحية أخري- كما نعلم-انّ السخرية سلاح في أيدي المظلومين و المضطهدين و المغبونين لنقد الساسة و كشف عيوبهم، و قد تكون سلاحاً في أيدي الطبقة الحكامة لينصحوا أو يشيروا ساخرين للوصل إلي الحقيقة.
وهكذا نعرف أن السخرية متصلة بالسياسة منذ القدم حتي يومنا هذا، و لدينا لون خاص من الأدب الساخر يُعرف بالسخرية السياسية. واستهوي الكثير من الشعراء منذ القديم حتي يومنا هذا و خاصة في هذه الأيام أصبح هذا اللون من السخرية أكلةً يوميّة يستعذبونهاويتداولونها، حتي نجد الشاعر يكتب دوواين من الشعر في هذا المجال، و كما يقول الشاعر:
قُلْتُ يا هندُ دَعيني وَ اجري
يَغَــلِبُ الــلائِذ بـــالصَبرِ ابتئاسَهْ
إنّما يا هندُ دَعيـــني وَ اجري
تمـلِكُ الــرأسَ مَـــعَ ربِّ الرئاسه
قَدْ دَعَـانــا للهـوي نــاظـِرُها
فــاستـجَبَنَا بــانقيــادٍ وَحمــاسَه
فأجـابتني و مـا تـُـدْعَي التي
قَدْ سَباكم حُسْنُها ؟قلت السياسة» [18]
و قد نري أن هذا الأسلوب أكثر شيوعاً و استعمالاً عند شعوب دول العالم الثالث و ذلك يرجع إلي أن هذه الشعوب لا تستطيع أن تنتقد ما يجري في بلدها بصراحة و دون خوف، فنراها تلتجي إلي طريقة ساخرة غير مباشرة و في بعض الاحيان لاذعة، لتصوّر ما يمرّ عليها من المصاعب و المصائب من قِبَل هذه الشعوب.
و في دراستنا هذه سنقف عندالشاعرالکبیرنزارقبانی الذي أورد الكثير من هذا اللون في شعره هومن الشعراءالذین امتهنوا السياسة و عاشوا فترات طويلة من عمرهم يمارسونها. نزار قباني والسخرية السياسية: [19]
«تميّز شعرنزار قباني بعد نكسة حزيران 1967 بالغضب العنيف، و برفض جميع المؤسسات، و الأفكار، و الخرافات القديمة، و مارس علي نفسه، و علي قومه، أجرأَ عمليّة نقد ذاتّي مارسها شاعر من قبل، و بشَّرَ بولادة إنسان عربيّ جديد، يتخلّص من أوهامه و خدَرِه، و رومنطيقية، و يواجه القرن العشرين بمنطقه و أسلحته».[20] أسلوب نزار متميز يعرفه قراؤه و ان كانت أشعاره بلا توقيع، في شعره الغزلي، و في شعره السياسي، و لكننّا نركّز علي شعره السياسي الذي يختص بمجال دراستنا و هو حافلٌ بالشواهد المضيئة علي ظاهرة السخرية. فهو قد رَفعَ العِذار بنيه و بين السياسة والسياسيين، فاختار أكباشه من بينهم و قلّما نجد مَنْ نجا من حدّة لسانه الساخر، حتي اختلف النقاد مرة أخري في شأنه بعد أن اختلفوا فيه سابقاً في أشعاره و الغزليّة، فأعتبر بعضهم «نزارَ مناضلاً يسنِّ القلم في خندق واحد مع المناضلين بالرشاش و الكلاشينكوف، وبعضهم اعتبرة مزايداً استثمر النكسة و آلام الجماهير العربية، و البعض الآخر أغضبه الهجاء نزار بالشعوبية لأنه يهاجم كل ما هو عربي و يتهم العرب بالتخلّف و الجهل و الجاهليّة و الغدر و يسخر من تاريخهم و أفكارهم و أدبهم و يهزأ بكل ما يقدسه العرب….
والبعض الآخر إتّهم نزار بالسادية والرغبة في جلد الذات العربية في محاولة للتشفي واتخذوا من انتحار شقيقته (وصال) سبباً سيكلوجياً لدعوي السادية التي اتهموا بها نزار و أنه كان يحاول جلد الذات العربية التي تسببت برجعيتها و صلفها في مقتل شقيقته التي حرمتها التقاليد العربية من الزواج ممن تحب فانتحرت.».[21]
مهما كانت الأسباب فنحن لا نريد الاّ أن ندرس جانباً من شعر نزار السياسي و هو الجانب الساخر من شعره. و كما ذکرنا في بداية هذا البحث قلّما نجد أحداً نجا من حدّة لسانه الساخر، بداية بالزعماء و الساسة حتي المخبرين و الشُرطة.
«يری ( ماندل) أن في الانسان قوة استثنائية من نزوات العدوانية يمكن ارجاعها الي ما سميناه الجرح النرجسي الأصلي الذي يتغذَّي من مجموع احباطات الطفولة و قيودها و تبعيتّها. والعدوانية إذن جواب (الأنا) عن معاناة آلام النرجسية.[22]
فهي تبغي الهرب من القلق و الضعف بالصطناع القوة و الجبروت. و ربّما عَمَد صاحبنا الي السخرية يتوسّلها قفاعاً من أقفعة التستر يخفي بها حقيقة ضعفه، كي لا ينفجر باكياً مثل النساء. هكذا بعد حزيران،حين يلتفت الشاعر حوله و لا يري شيئاً تغيّر. كأنّ المعركة لا تخصّنا بل تعني سوانا، نراه يوغل في التشفي الساخر » [23] من خلال قصائده. و من أشهر هذه القصائد، قصیدةتحمل عنوان «هوامش علي دفتر النكسة» يقول في بعض أبياتها:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر و الهجاء و الشتمية
أنعي لكم … أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلي الهزيمة
* * *
يا وطني الخرين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب و الحنين
لشاعر يكتب بالسكين
* * *
لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا
لابد أن نخجل من أشعارنا
* * *
إذا خسرنا الحرب … لا غرابه
لأننا ندخلها …
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
لأننا ندخلها
بمنطق الطلبة والربابه
السرّ في مأساتنا
صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا أطول من قاماتنا
* * *
خلاصة القضية
توجز في عباره
لقد لبسنا قشرة الحضاره
والروح جاهلية
* * *
بالناي و المزمار
لا يحدث انتصار
كلفنا ارتجالنا
خمسين ألف خيمة جديدة
* * *
لو أحد يمنحني الأمان
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
و مخبروك دائماً ورائي
أنوفهم ورائي
أقدامهم ورائي
كالقدر المحترم … كالقضاء
يستجوبون زوجتي
و يكتبون عندهم
أسماء أصدقائي
يا حضرة السلطان
لأنني اقتربت من أسوارك الصماء
لأنني
حاولت أن أكشف عن حزني و عن بلائي
ضربت بالحذاء
أرغمني جندك أن آكل من حذائي
يا سيدي
يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين… [24]
« و نزار في قصيدة «هوامش علي دفتر النكسة »يوّجه رسالة غضب إلي زعیم من الزعماء وَ يقلِب المائدة عليه و هو عندما يلومه يلوم كل العرب و هو عندما يسبه و يشتمه،يشتم فيه كل الواقع العربي المرير و هو عندما يهيل عليه التراب يهيل التراب علي كل العرب مجتمعين و مجسدين في ذلک الزعیم … حتي عندما يسخر منه و يهجوه هجاء مقذعاً يهجو فيه الانسان العربي و الممارسات العربية المستفزة ما يريد أن يوبخ الأنظمة العربية و القمع العربي والسلبية و التواكلية و الانهزامية لا يجد أمامه وسيلة إلا أن يقذف ذلک الزعیم بالبيض الفاسد في موجة المظاهرة العربية الغاضبة».
و اما بالنسبة للصورة الساخرة المستخدمة في هذه القصيدة فنجد الكثير منها في هذه القصيدة، مثل تشبيهه اللغة العربية القديمة وكتبها بأحذية مثقوبة قديمة التي لا تساوي شيئاً عندالجميع، و لكن اكثر ما نجد من هذه الصورة فنجدها في المقطع الرابع حسب ما أوردناه – فيسخر نزار من الخطابات التي تُلقَي من قِبل زعماء العرب، فهي لا تتجاوز حدَّ الكلام، أو هذه الصورة الساخرة التي تصوّر البطل في ساحة الحرب و هو يحمل سيفاً يفوق قامته طولاً، فدون شكٍ هذه الهيئة تثير الضحك بدلاً من الهيبة والرهبة في داخل الأعداء.
و من الاسماء التي تكرر ذكرها في شعر نزار، أسم الحاكم فهو عندما يتكلم في شعره عن الحاكم يقصد به الحاكم العربي و لا يتخلف عنده أن يكون أميراً، أو سلطاناً،أو ملكاً،أو رئيساً،أو صاحب جلالة، لأن الحكام كلهم علي شاكلة واحدة من المحيط إلي الخليج و إن تغيّرت العناوين فنري ميلاً الي السخرية في حديث نزار عن الحاكم العربي. فهو القائل:
نحن بغايا العمر كل حاكم
يبيعنا و يقبض الثمن
نحن جواري القصر يرسلوننا
من حجرة لحجرة
من قبضة لقبضة
من هالك لهالك
من وثن إلي وثن
نركض كالكلاب كل ليله
من عدن … لطنجه
من طنجه إلي عدن [25]
«و يتكي الشاعر علي كل الممارسات المشبوهة للحكام و كيف أنّ الرعية دائماً هي التي تدفع الثمن و يطلب في سخرية ان يتوقف الكتّاب و الشعراء في نصيحة خبيثة عن الإشاره إلي خطايا الحاكم:
لا تتعرض للسلاطين إذا تقهّروا
أو قامروا… أو تاجروا …فهذه مسألية شخصية»[26]
«والحكام العرب كما يصورهم نزار في كل قصائده يعيشون في بذح و رفاهية منعمين مترفين يمارسون كل المتع الحسية كما كان يعيش الملوك الذين يحيطون أنفسهم بالجواري و الحرائر و العبيد و المغنين و الراقصات كل ذلك داخل قصر منيف مثل قصور ملوك و سلاطين أساطير ألف ليلة:
هذا بلاغ من بلاط صاحب الجلالة
الأخضر اليدين … و المكتمل الصفات … و المبجل الألقاب
تحسساً من ملك الملوك
بحاجة الشعب إلي العدالة » [27]
المفردة التالية التي لها صلة بالحاكم و بسخرية نزار الشعرية، هي مفردة «الحكومة» أو «الدولة» عند العرب، فقد انتقد نزار الدول و الحكومات العربية بأسلوب لاذع و مقذع فللدولة في هذا القرن، تعريف خاص:
الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسيم الطّبْلَه:
«العدل أساس الملك»
«الشوري – بين الناس – أساس الملك»
« الشعب – كما نصَّ الدستور – أساس الملك».
يا ربَّ الكون شبعنا من ضرب الطّبْلَهْ…
لا أحد يرقُصُ بالكلمات سوي الدولَهْ …
«القَمعُ أساس الملكْ»
«شَنْقُ الانسان أساس الملك»
«تأليهُ الشَخصِ أساس الملك»
«تجديد البَيْعَه للحكام أساس الملك». [28]
شعارات مثل «العدل أساس الملك» و غيرها من هذه الشعارات معروفة عند العرب و المسلمين، و كانت حقاً أساساً للملك و السيادة، و لكن قد انقلبت جميع الشعارات و أصبح «القمع» و «الشنق» و «تأليه الحكام» و … مفردات قد أخذت تُعْرَف من قبل الحكّام علي طبلة السياسة و علي الشعوب أن ترقص علي هذا الإيقاع، فإذا أراد أن يخرج عن ايقاع هذا العزف و لو بضحكة، فالويل له:
أوقفوني
و أنان أضحك كالمجنون وحدي
من خطاب كان يلقيه أمير المؤمنين
كلفتني ضحكتي عَشْرَ سنين
سألوني
عمّن حرّضوني فضحك
قال عنّي المدّعي العام…
و قال الجندُ حين اعتقلوني …
إنني ضد الحكومة…
لم أكن أعرف أن الضحك
يحتاج لترخيص الحكومه… [29]
والصور التي يرسمها لنا نزار قباني في شعره عن حكام العرب هي دائماً صورة حاكم متخاذل أناني، لا يحتمل الرأي المخالف أبداً. فالحكام هو الأول و الآخر. و هو المسؤول عن كل شيء حتي الأحكام و الأشعار:
لا أحد يقرؤنا
في مُدُنٍ
صارت بها مباحث الدولة
عرّاب الأدب … [30]
فإذا أراد أن يصبح شخص ما في بلدٍ عربي كاتباً أو شاعراً،فيقدّم له نزار نصائحاً ذهبيةً لكي يصبح شاعراً مرقوماً «في أدب الكتابة النفطية»[31]منها:
لو شاءت الأقدار أن تكون كاتباً
يجلس تحت جُبّة الصحافة النفطية
فهذه نصائحي إليك:
1-أُدخل الي مدرسة تُعَلِّمُ الاميّة
2- أُكتب بلا أصابعٍ.
و كن بلا قضيّة
3- إمسح حذاء الدولة العليَّة
4- إشطبْ من القاموس كلمة الحريّة
5- لا تتحدَّثْ عن شؤون الفقر،والثورة،
في الشوارع الخلفيّة
6- لا تَنْتَقِد أجهزه القمع، و لا تضعْ
أنفك في المسائل القومية.
7- كن غامضاً …
في كل ما تكتب
والزم مَبْدَأ التقيّة… [32]
هذه هي نصائح نزار الذهبية للكاتب العربي إذا أراد أن يستمر في هذه المهنة و يُبقي له الوالي لساناً يتكلم به و يداً يكتب بها. هذا الوصف الساخر للكتّاب يحمل معه بذرة الشك في داخل البعض حول الكثير ممن يكتبون في بلدان العرب، لهذا نري كلَّ جماعة ترفع أصابع الإتهام نحو جماعة أخري، لأن مع هذه النصائح، الأفضلُ أن لا يُكتب شيء.
و لو أردنا أن نخرج قليلاً من سخرية نزار السياسية إلي لون آخر من سخرياته لما وجدنا الجديد إلا القليل من القصائد و هي تهتم بالتمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات – و علي حد قول الدكتور نبيل خالد و هو يقول في قصيدة(خبزو حشيش و قمر) التي أصدرها نزار في عام 1954 قبل أن يضمها ديوان قصائد، و قد أثارت معاينها حفيظة الشارع الاسلامي، و كان موقف رجال الدين منها ضراوة من موفقهم من ديوانه (قالت لي السمراء)، و ما ينطوي عليه من المعاني الإباحية،إذ تطاول نزار فيها علي القيم الاسلامية و استهزاء بمعتقدات المسلمين و مقدساتهم بمثل قوله:
في ليالي الشرق لمّا
يبلغ البدرُ تمامه…
يتعرَّي الشرقُ من كل كرامه
و و نضالِ…
فالملايين التي تركض من غير نعال…
و التي تؤمن في أربع زوجاتٍ
و في يوم القيامة…
تتردَّي جُثثاً تحت الضياء
في بلادي … حيث يبكي الأغبياءْ
و يموتون بكاء…
كلّما طالعهُم وجه الهلال [33]
«قد يكون هذا النص الثمرة الثانية من ثمار دروس الحرية التي تعلمها نزار في لندن، و قد يكون التمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات من أبجد يات الحرية التي يقصدها نزار»[34]،و كان طبيعياً أن يتعرض الشاعر للناحية السلبية من الإيمان بالدين إذ همو يسخر من الراكعين في المعابد، الموغلين في الإغماء و الدوار، و يتهكم علي الأتقياء اللابسين جُبَّةَ الصوف و السائلين رضي الأولياء:
أتركوا اولياءنا بسلامٍ
أيُّ أرضٍ أعادها الأولياء
كما يسخر من الراضخين لمشيئه الغيب، الخاضعين لسنة القضاء يقول ناطقاً بلسان هؤلاء المتخاذ لين:
كنت في المخفر مكسوراً كبلّور كنيسة
نافخاً سورة «ياسين» بوجه القاتلين
لم أكن أملك إلاّ الصبر
(واللهُ يحب الصابرين)
ذلك أن انسان العالم الثالث مستسلم للقضاء، مقتنع أنَّ ما يصيبه هو حكم ربّ العالمين، و لا سبيل الي ردّ قضائه». [35]
و لو تصفحنا دواوين نزار لوجدنا أشعاراً سياسية ساخره أكثر مما أتينا بها، و لكن لا نری الجديد من حيث المضمون فيها، حتي الأشعار الأخيرة التي قالها بعد اتفاق «أوسلو» فالمضامين هي هي، و الكلمات هي هي، و النبرة الشعرية هي هي، و لكن «سخرية» نزار ليست بعيدة عن سادية النرجسي لأن فيها تشفّياً من أوجاع الآخرين، و تعالياً عليهم. و اذا اكتفي سقراط قديماً بالتهكم علي السفسطائيين لأظهار تهافتهم، فإن نزاراً يذهب الي أبعد من ذلك حين يعتمد السخرية ليجلد بها ظهور المقصرين». [36]
و أقول في نهاية هذه المقالة عن نزار:« قد يكون نزار قباني بين القلّة من الشعراء الذين كسروا الحواجز الاقليمية، و ذاقو طعم العولمة قبل اكتشاف (الانترنيت )، ذلك أنّ شعره العاطفي و الوطني تجاوز في الترجمة عدد اللغات الرئيسية الستّ».
منقول
أمين رحال
أ- فريق اتّسم بالروح المرحة دائماً فتجلّت في كل كتاباتهم ويعرفون بمزاج ساخر في كتاباتهم و نظمهم كله، وقد تنالوا السخرية من وجهتين:
1- في نظم مداعبة أو نادرة أو في ردٍّ شعري ساخر يختصر نكتة أو التفاتة طريفة.
2- توسعها في أغراض الشعر علي تنوعها أسلوباً يساعد في إظهار المعاني الطف وأذكي بخاصة في الهجاء حيث للسخرية باب واسع –كما هومعلوم.
ب- و فريق ثانٍ أفاد من الفكاهة في بعض كتاباته للنقد والهجاء. يستخدم الفريق الثاني فنون السخرية للنيل من الخصوم، أو لنقد مذهب أو أسلوب أدبي، فهي أمضي سلاح هجومي لا يخرق الاعراف و لا يتحدّي القوانين إذا أُحسن استعماله ظاهراً أو باطناً في عبارات والتفاتات ذكية.
ونحن فی هذا المقال بصدد الاشارة الی السخریة فی الشعرالحروقد وقع اختیارنا علی شاعر من الرواد فی الشعرالحر ألا وهوشاعرنا الفذ نزارقبانی، وانه لایخفی علی دارس للادب العربی مکانة هذا الشاعربین شعراء العربیة فی العصر الحدیث. وقد تحدثنا اولا عن بداية الشعر الحّرفي الأدب العربي ثم تطرقنا الی السخریة والشعر الحر، وتحدثنا حول علاقة السخریة بالسیایة، وبعد ذلک دخلنا فی صلب الموضوع وهو دراسة فی السخریة السیاسیة عند الشاعر نزار قبانی. بداية الشعر الحّر في الأدب العربي:
«ليست مشكلة التجديد في الشعر العربي حديثة العهد، بل هي قديمة ترجع إلي القرن الثامن (من الميلاد).
كان النقاد، آنذاك يعتبرون الشعر العربي، من هذه الناحية، عهدين:
يبدأ الأول قبل الاسلام بنحو مئة سنة، أي في أوائل القرن السادس، و ينتهي بعد الإسلام بنحو مئة سنة كذلگ. و تسمي هذه الفترة فترة الشعر القديم، أما العهد الثاني فيبدأ بقيام الدولة العباسية في أواسط القرن الثامن حيث بدأت فترة الشعر المحدث.»[1]
وهكذا نري التجديد و الإتيان به يتكرر فترة بعد فترة في الشعر العربي حتي نصل إلي آخر جيل من هؤلاء المتجددين الذين يعرفون بشعراء مدرسة «الشعر الحّر» و كانت علي رأسهم الشاعرة و الناقدة العراقية «نازك الملائكة»، [2] حيث تقول عن هذه الحركة: [3]
« كانت بداية حركة الشعر الحّر سنة 1947، في العراق. و من العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة و امتدّت حتي غَمرت الوطن العربي كله و كادت، بسبب تطرّف الذين استجابوا لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخري جميعاً. و كانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المُعَنْوَنة «الكوليرا».
و قد ذكر بعض النقاد و الشعراء ميزات لهذا الشعر، منها:
« 1- الخروج من الزمن الشعري العربي الواقف إلي زمن تمتد أجزاؤه و تتسع كل لحظة.
2- تحررت القصيدة الحديثة موسيقياً من الجبرية و من حتميّة البحور الخليلية و وثنية القافية الموحدة.». [4]
یذکرمحمدحمودفی کتابه«الحداثةفی الشعرالعربی»عن بناءالقصیدة قائلاً: «فالقصيدة الجديدة لن تسكن في أي شكل وهي جاهدة ابداً في الهَرَبِ من كل انواع الأنحباس في أوزان أو ايقاعات محدودة بحيث يتاح لها أن توحي بالإحساس.» [5]
«و قد سيطرت هذه التغييرات في القافية كما سبق و رأينا علي الشعر العربي خلال فترة الكلاسيكية الجديدة و الرومانسية حتي بدأت تجارب الشعر الجديد في أواخر الأربعينات، و أحس الشاعر الحديث بمدي ثقل القافية كنوع من الإلزام الخارجي، فطرحها ضمن ما طرح من شكليات الوزن الشعري». [6]
من أشهر رُوّاد هذه المدرسة الشعرية: نازك الملائكة، و بدر شاكر السياب،[7] و البياتي [8]، و بلنـــــد الحيــــدري[9] من العــــراق،و صــــلاح عبدالصبـــور[10]و عبدالمعطي حجازي[11]،و أمل دنقل[12] من مصر، و أدونيس [13]، و نزار قباني الذي سنرکزفی هذه المقالةعلی سخریته السیاسیة من سوريا و خليل حاوی [14]من لبنان، و محمد الفيتوري [15]من السودان، و محمود درويش و سميح القاسم من فلسطين، و….
السخرية و الشعر الحرّ:
رغم التغيير الحاصل في الشكل و المضامين الشعرية عند الشعراء الجُدد لم،نلاحظ تغييراً هاماً في مجال استخدام الفن الساخر عند الشعراء، فما زالت المواضيع نفسها التي كانت تستخدم في الشعر الكلاسيكي إلاّ أننّا نري قد تغيّر الأسلوب من المباشر إلي الغير مباشر و في بعض الأمعان و التدقيق.
و عندما نتصفّح دواوين هؤلاء الشعراء، نجد السخرية قد أخذت حيّزاً واسعاً من الشعر الساخر بالنسبة لأنواع السخرية الشعرية المستخدمة في شعرهم، و قد ساهمت السخرية السياسية في تمثيل الواضع الراهن في العالم العربي حيث تمنحنا صوراً واضحة عن قضاياه و تساعدنا في الإصلاع علي خفاياه من مختلف جوانبه، المحليّة و العربيّة و العالميّة، رابطة الأحداث بما يدور حولنا.
طبعاً، لم تقتصر السخرية عند هؤلاء الشعراء علي هذا اللون فقط، بل نجد في مجالات أخري قد استطاعت السخرية أن تصوّر من خلالها معالم حياة العالم العربي لأن السخرية تنبثق مع كل حركة أو كلمة و لا تُحدّد نبوع خاص أو مجال محدود، و بالأحري نستطيع أن نقول:كلّ موضوع يصلح أن يكون محطّة للسخرية.
و لو أردنا أن نقسم الشعراء في مجال استخدم السخرية لجعلناهم في جماعتين: جماعة قد اتخذت السخرية أسلوباً في شعرها فتجلّت في كل شعرها، مِنْ أمثال:نزار قباني و أحمد مطر،
فإنّ هذین الشاعرین أستطاعا أن يستخدما ألوان السخرية بغزارة في شعرهما لا سيّما في المجال السياسي، فالسخرية عندهما سلاح هجومي لا يخرق الاعراف، و لا يتحّدي القوانين إذا أحسن استخدامه ظاهراً أو باطناً في عبارات و التفاتات ذكيّة. و جماعة ثانية أفادت من السخرية في بعض أشعارها للنقد و الإعتراض،فنري قصائد ساخرة هنا و هناك في دواوينهم و أنهّم قد استخدموا السخرية في مجالات متنوّعة، دون أن تطفي السخرية علي شعرهم، من هؤلاء الشعراء: البياتي و صلاح عبدالصبور، و أمل دنقل و غيرهم.
علاقة السخرية بالسياسة:
«ترجع المعاني اللغوية للكلمة»السياسة«كما وردت في المعاجم إلي تدبير شئون الناس،و تملك أمورهم، و الرياسة عليهم، و نفاذ الأمر فيهم». [16]
«هذه هي السياسة، و يكون الشعر السياسي إذاً، هو هذا الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدول الداخلي أو بنفوذ ها الخارجي و مكانتها بين الدول».[17]
و حسب هذه التعاريف تكون بين السخرية و السياسة علاقة و طيدة، لأنّ السياسة هي فن الحكم و يحتاج من يتعاطاها أن يكون ذكياً في معاملته مع الآخرين، و في السخرية أيضاً يجب علي من يكتبها أن يتمتع بذكاء و لباقة –كما بيننّا –لكي يستطيع الربط المطلوب و الموجود،و بين الظاهر المستور.
و من ناحية أخري- كما نعلم-انّ السخرية سلاح في أيدي المظلومين و المضطهدين و المغبونين لنقد الساسة و كشف عيوبهم، و قد تكون سلاحاً في أيدي الطبقة الحكامة لينصحوا أو يشيروا ساخرين للوصل إلي الحقيقة.
وهكذا نعرف أن السخرية متصلة بالسياسة منذ القدم حتي يومنا هذا، و لدينا لون خاص من الأدب الساخر يُعرف بالسخرية السياسية. واستهوي الكثير من الشعراء منذ القديم حتي يومنا هذا و خاصة في هذه الأيام أصبح هذا اللون من السخرية أكلةً يوميّة يستعذبونهاويتداولونها، حتي نجد الشاعر يكتب دوواين من الشعر في هذا المجال، و كما يقول الشاعر:
قُلْتُ يا هندُ دَعيني وَ اجري
يَغَــلِبُ الــلائِذ بـــالصَبرِ ابتئاسَهْ
إنّما يا هندُ دَعيـــني وَ اجري
تمـلِكُ الــرأسَ مَـــعَ ربِّ الرئاسه
قَدْ دَعَـانــا للهـوي نــاظـِرُها
فــاستـجَبَنَا بــانقيــادٍ وَحمــاسَه
فأجـابتني و مـا تـُـدْعَي التي
قَدْ سَباكم حُسْنُها ؟قلت السياسة» [18]
و قد نري أن هذا الأسلوب أكثر شيوعاً و استعمالاً عند شعوب دول العالم الثالث و ذلك يرجع إلي أن هذه الشعوب لا تستطيع أن تنتقد ما يجري في بلدها بصراحة و دون خوف، فنراها تلتجي إلي طريقة ساخرة غير مباشرة و في بعض الاحيان لاذعة، لتصوّر ما يمرّ عليها من المصاعب و المصائب من قِبَل هذه الشعوب.
و في دراستنا هذه سنقف عندالشاعرالکبیرنزارقبانی الذي أورد الكثير من هذا اللون في شعره هومن الشعراءالذین امتهنوا السياسة و عاشوا فترات طويلة من عمرهم يمارسونها. نزار قباني والسخرية السياسية: [19]
«تميّز شعرنزار قباني بعد نكسة حزيران 1967 بالغضب العنيف، و برفض جميع المؤسسات، و الأفكار، و الخرافات القديمة، و مارس علي نفسه، و علي قومه، أجرأَ عمليّة نقد ذاتّي مارسها شاعر من قبل، و بشَّرَ بولادة إنسان عربيّ جديد، يتخلّص من أوهامه و خدَرِه، و رومنطيقية، و يواجه القرن العشرين بمنطقه و أسلحته».[20] أسلوب نزار متميز يعرفه قراؤه و ان كانت أشعاره بلا توقيع، في شعره الغزلي، و في شعره السياسي، و لكننّا نركّز علي شعره السياسي الذي يختص بمجال دراستنا و هو حافلٌ بالشواهد المضيئة علي ظاهرة السخرية. فهو قد رَفعَ العِذار بنيه و بين السياسة والسياسيين، فاختار أكباشه من بينهم و قلّما نجد مَنْ نجا من حدّة لسانه الساخر، حتي اختلف النقاد مرة أخري في شأنه بعد أن اختلفوا فيه سابقاً في أشعاره و الغزليّة، فأعتبر بعضهم «نزارَ مناضلاً يسنِّ القلم في خندق واحد مع المناضلين بالرشاش و الكلاشينكوف، وبعضهم اعتبرة مزايداً استثمر النكسة و آلام الجماهير العربية، و البعض الآخر أغضبه الهجاء نزار بالشعوبية لأنه يهاجم كل ما هو عربي و يتهم العرب بالتخلّف و الجهل و الجاهليّة و الغدر و يسخر من تاريخهم و أفكارهم و أدبهم و يهزأ بكل ما يقدسه العرب….
والبعض الآخر إتّهم نزار بالسادية والرغبة في جلد الذات العربية في محاولة للتشفي واتخذوا من انتحار شقيقته (وصال) سبباً سيكلوجياً لدعوي السادية التي اتهموا بها نزار و أنه كان يحاول جلد الذات العربية التي تسببت برجعيتها و صلفها في مقتل شقيقته التي حرمتها التقاليد العربية من الزواج ممن تحب فانتحرت.».[21]
مهما كانت الأسباب فنحن لا نريد الاّ أن ندرس جانباً من شعر نزار السياسي و هو الجانب الساخر من شعره. و كما ذکرنا في بداية هذا البحث قلّما نجد أحداً نجا من حدّة لسانه الساخر، بداية بالزعماء و الساسة حتي المخبرين و الشُرطة.
«يری ( ماندل) أن في الانسان قوة استثنائية من نزوات العدوانية يمكن ارجاعها الي ما سميناه الجرح النرجسي الأصلي الذي يتغذَّي من مجموع احباطات الطفولة و قيودها و تبعيتّها. والعدوانية إذن جواب (الأنا) عن معاناة آلام النرجسية.[22]
فهي تبغي الهرب من القلق و الضعف بالصطناع القوة و الجبروت. و ربّما عَمَد صاحبنا الي السخرية يتوسّلها قفاعاً من أقفعة التستر يخفي بها حقيقة ضعفه، كي لا ينفجر باكياً مثل النساء. هكذا بعد حزيران،حين يلتفت الشاعر حوله و لا يري شيئاً تغيّر. كأنّ المعركة لا تخصّنا بل تعني سوانا، نراه يوغل في التشفي الساخر » [23] من خلال قصائده. و من أشهر هذه القصائد، قصیدةتحمل عنوان «هوامش علي دفتر النكسة» يقول في بعض أبياتها:
أنعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر و الهجاء و الشتمية
أنعي لكم … أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلي الهزيمة
* * *
يا وطني الخرين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب و الحنين
لشاعر يكتب بالسكين
* * *
لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا
لابد أن نخجل من أشعارنا
* * *
إذا خسرنا الحرب … لا غرابه
لأننا ندخلها …
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه
لأننا ندخلها
بمنطق الطلبة والربابه
السرّ في مأساتنا
صراخنا أضخم من أصواتنا
وسيفنا أطول من قاماتنا
* * *
خلاصة القضية
توجز في عباره
لقد لبسنا قشرة الحضاره
والروح جاهلية
* * *
بالناي و المزمار
لا يحدث انتصار
كلفنا ارتجالنا
خمسين ألف خيمة جديدة
* * *
لو أحد يمنحني الأمان
لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان
قلت له يا سيدي السلطان
كلابك المفترسات مزقت ردائي
و مخبروك دائماً ورائي
أنوفهم ورائي
أقدامهم ورائي
كالقدر المحترم … كالقضاء
يستجوبون زوجتي
و يكتبون عندهم
أسماء أصدقائي
يا حضرة السلطان
لأنني اقتربت من أسوارك الصماء
لأنني
حاولت أن أكشف عن حزني و عن بلائي
ضربت بالحذاء
أرغمني جندك أن آكل من حذائي
يا سيدي
يا سيدي السلطان
لقد خسرت الحرب مرتين… [24]
« و نزار في قصيدة «هوامش علي دفتر النكسة »يوّجه رسالة غضب إلي زعیم من الزعماء وَ يقلِب المائدة عليه و هو عندما يلومه يلوم كل العرب و هو عندما يسبه و يشتمه،يشتم فيه كل الواقع العربي المرير و هو عندما يهيل عليه التراب يهيل التراب علي كل العرب مجتمعين و مجسدين في ذلک الزعیم … حتي عندما يسخر منه و يهجوه هجاء مقذعاً يهجو فيه الانسان العربي و الممارسات العربية المستفزة ما يريد أن يوبخ الأنظمة العربية و القمع العربي والسلبية و التواكلية و الانهزامية لا يجد أمامه وسيلة إلا أن يقذف ذلک الزعیم بالبيض الفاسد في موجة المظاهرة العربية الغاضبة».
و اما بالنسبة للصورة الساخرة المستخدمة في هذه القصيدة فنجد الكثير منها في هذه القصيدة، مثل تشبيهه اللغة العربية القديمة وكتبها بأحذية مثقوبة قديمة التي لا تساوي شيئاً عندالجميع، و لكن اكثر ما نجد من هذه الصورة فنجدها في المقطع الرابع حسب ما أوردناه – فيسخر نزار من الخطابات التي تُلقَي من قِبل زعماء العرب، فهي لا تتجاوز حدَّ الكلام، أو هذه الصورة الساخرة التي تصوّر البطل في ساحة الحرب و هو يحمل سيفاً يفوق قامته طولاً، فدون شكٍ هذه الهيئة تثير الضحك بدلاً من الهيبة والرهبة في داخل الأعداء.
و من الاسماء التي تكرر ذكرها في شعر نزار، أسم الحاكم فهو عندما يتكلم في شعره عن الحاكم يقصد به الحاكم العربي و لا يتخلف عنده أن يكون أميراً، أو سلطاناً،أو ملكاً،أو رئيساً،أو صاحب جلالة، لأن الحكام كلهم علي شاكلة واحدة من المحيط إلي الخليج و إن تغيّرت العناوين فنري ميلاً الي السخرية في حديث نزار عن الحاكم العربي. فهو القائل:
نحن بغايا العمر كل حاكم
يبيعنا و يقبض الثمن
نحن جواري القصر يرسلوننا
من حجرة لحجرة
من قبضة لقبضة
من هالك لهالك
من وثن إلي وثن
نركض كالكلاب كل ليله
من عدن … لطنجه
من طنجه إلي عدن [25]
«و يتكي الشاعر علي كل الممارسات المشبوهة للحكام و كيف أنّ الرعية دائماً هي التي تدفع الثمن و يطلب في سخرية ان يتوقف الكتّاب و الشعراء في نصيحة خبيثة عن الإشاره إلي خطايا الحاكم:
لا تتعرض للسلاطين إذا تقهّروا
أو قامروا… أو تاجروا …فهذه مسألية شخصية»[26]
«والحكام العرب كما يصورهم نزار في كل قصائده يعيشون في بذح و رفاهية منعمين مترفين يمارسون كل المتع الحسية كما كان يعيش الملوك الذين يحيطون أنفسهم بالجواري و الحرائر و العبيد و المغنين و الراقصات كل ذلك داخل قصر منيف مثل قصور ملوك و سلاطين أساطير ألف ليلة:
هذا بلاغ من بلاط صاحب الجلالة
الأخضر اليدين … و المكتمل الصفات … و المبجل الألقاب
تحسساً من ملك الملوك
بحاجة الشعب إلي العدالة » [27]
المفردة التالية التي لها صلة بالحاكم و بسخرية نزار الشعرية، هي مفردة «الحكومة» أو «الدولة» عند العرب، فقد انتقد نزار الدول و الحكومات العربية بأسلوب لاذع و مقذع فللدولة في هذا القرن، تعريف خاص:
الدولة منذ بداية هذا القرن تعيد تقاسيم الطّبْلَه:
«العدل أساس الملك»
«الشوري – بين الناس – أساس الملك»
« الشعب – كما نصَّ الدستور – أساس الملك».
يا ربَّ الكون شبعنا من ضرب الطّبْلَهْ…
لا أحد يرقُصُ بالكلمات سوي الدولَهْ …
«القَمعُ أساس الملكْ»
«شَنْقُ الانسان أساس الملك»
«تأليهُ الشَخصِ أساس الملك»
«تجديد البَيْعَه للحكام أساس الملك». [28]
شعارات مثل «العدل أساس الملك» و غيرها من هذه الشعارات معروفة عند العرب و المسلمين، و كانت حقاً أساساً للملك و السيادة، و لكن قد انقلبت جميع الشعارات و أصبح «القمع» و «الشنق» و «تأليه الحكام» و … مفردات قد أخذت تُعْرَف من قبل الحكّام علي طبلة السياسة و علي الشعوب أن ترقص علي هذا الإيقاع، فإذا أراد أن يخرج عن ايقاع هذا العزف و لو بضحكة، فالويل له:
أوقفوني
و أنان أضحك كالمجنون وحدي
من خطاب كان يلقيه أمير المؤمنين
كلفتني ضحكتي عَشْرَ سنين
سألوني
عمّن حرّضوني فضحك
قال عنّي المدّعي العام…
و قال الجندُ حين اعتقلوني …
إنني ضد الحكومة…
لم أكن أعرف أن الضحك
يحتاج لترخيص الحكومه… [29]
والصور التي يرسمها لنا نزار قباني في شعره عن حكام العرب هي دائماً صورة حاكم متخاذل أناني، لا يحتمل الرأي المخالف أبداً. فالحكام هو الأول و الآخر. و هو المسؤول عن كل شيء حتي الأحكام و الأشعار:
لا أحد يقرؤنا
في مُدُنٍ
صارت بها مباحث الدولة
عرّاب الأدب … [30]
فإذا أراد أن يصبح شخص ما في بلدٍ عربي كاتباً أو شاعراً،فيقدّم له نزار نصائحاً ذهبيةً لكي يصبح شاعراً مرقوماً «في أدب الكتابة النفطية»[31]منها:
لو شاءت الأقدار أن تكون كاتباً
يجلس تحت جُبّة الصحافة النفطية
فهذه نصائحي إليك:
1-أُدخل الي مدرسة تُعَلِّمُ الاميّة
2- أُكتب بلا أصابعٍ.
و كن بلا قضيّة
3- إمسح حذاء الدولة العليَّة
4- إشطبْ من القاموس كلمة الحريّة
5- لا تتحدَّثْ عن شؤون الفقر،والثورة،
في الشوارع الخلفيّة
6- لا تَنْتَقِد أجهزه القمع، و لا تضعْ
أنفك في المسائل القومية.
7- كن غامضاً …
في كل ما تكتب
والزم مَبْدَأ التقيّة… [32]
هذه هي نصائح نزار الذهبية للكاتب العربي إذا أراد أن يستمر في هذه المهنة و يُبقي له الوالي لساناً يتكلم به و يداً يكتب بها. هذا الوصف الساخر للكتّاب يحمل معه بذرة الشك في داخل البعض حول الكثير ممن يكتبون في بلدان العرب، لهذا نري كلَّ جماعة ترفع أصابع الإتهام نحو جماعة أخري، لأن مع هذه النصائح، الأفضلُ أن لا يُكتب شيء.
و لو أردنا أن نخرج قليلاً من سخرية نزار السياسية إلي لون آخر من سخرياته لما وجدنا الجديد إلا القليل من القصائد و هي تهتم بالتمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات – و علي حد قول الدكتور نبيل خالد و هو يقول في قصيدة(خبزو حشيش و قمر) التي أصدرها نزار في عام 1954 قبل أن يضمها ديوان قصائد، و قد أثارت معاينها حفيظة الشارع الاسلامي، و كان موقف رجال الدين منها ضراوة من موفقهم من ديوانه (قالت لي السمراء)، و ما ينطوي عليه من المعاني الإباحية،إذ تطاول نزار فيها علي القيم الاسلامية و استهزاء بمعتقدات المسلمين و مقدساتهم بمثل قوله:
في ليالي الشرق لمّا
يبلغ البدرُ تمامه…
يتعرَّي الشرقُ من كل كرامه
و و نضالِ…
فالملايين التي تركض من غير نعال…
و التي تؤمن في أربع زوجاتٍ
و في يوم القيامة…
تتردَّي جُثثاً تحت الضياء
في بلادي … حيث يبكي الأغبياءْ
و يموتون بكاء…
كلّما طالعهُم وجه الهلال [33]
«قد يكون هذا النص الثمرة الثانية من ثمار دروس الحرية التي تعلمها نزار في لندن، و قد يكون التمرد علي قيم الدين و السخرية من المعتقدات من أبجد يات الحرية التي يقصدها نزار»[34]،و كان طبيعياً أن يتعرض الشاعر للناحية السلبية من الإيمان بالدين إذ همو يسخر من الراكعين في المعابد، الموغلين في الإغماء و الدوار، و يتهكم علي الأتقياء اللابسين جُبَّةَ الصوف و السائلين رضي الأولياء:
أتركوا اولياءنا بسلامٍ
أيُّ أرضٍ أعادها الأولياء
كما يسخر من الراضخين لمشيئه الغيب، الخاضعين لسنة القضاء يقول ناطقاً بلسان هؤلاء المتخاذ لين:
كنت في المخفر مكسوراً كبلّور كنيسة
نافخاً سورة «ياسين» بوجه القاتلين
لم أكن أملك إلاّ الصبر
(واللهُ يحب الصابرين)
ذلك أن انسان العالم الثالث مستسلم للقضاء، مقتنع أنَّ ما يصيبه هو حكم ربّ العالمين، و لا سبيل الي ردّ قضائه». [35]
و لو تصفحنا دواوين نزار لوجدنا أشعاراً سياسية ساخره أكثر مما أتينا بها، و لكن لا نری الجديد من حيث المضمون فيها، حتي الأشعار الأخيرة التي قالها بعد اتفاق «أوسلو» فالمضامين هي هي، و الكلمات هي هي، و النبرة الشعرية هي هي، و لكن «سخرية» نزار ليست بعيدة عن سادية النرجسي لأن فيها تشفّياً من أوجاع الآخرين، و تعالياً عليهم. و اذا اكتفي سقراط قديماً بالتهكم علي السفسطائيين لأظهار تهافتهم، فإن نزاراً يذهب الي أبعد من ذلك حين يعتمد السخرية ليجلد بها ظهور المقصرين». [36]
و أقول في نهاية هذه المقالة عن نزار:« قد يكون نزار قباني بين القلّة من الشعراء الذين كسروا الحواجز الاقليمية، و ذاقو طعم العولمة قبل اكتشاف (الانترنيت )، ذلك أنّ شعره العاطفي و الوطني تجاوز في الترجمة عدد اللغات الرئيسية الستّ».
منقول
أمين رحال
الجمعة يونيو 28, 2019 8:55 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» د. ليلى عريقات نائب الرئيس ورئيسة تكريم الشهادات الفخرية والرئيسة الفخرية للمجلس
الإثنين ديسمبر 03, 2018 12:25 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» اهداء ارتجالي الى عميدة الشعر المعاصر الاستاذة د. ليلى عريقات / د. لطفي الياسيني
السبت ديسمبر 01, 2018 9:05 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» خذ ومن عمري لعمرك .. مهداة لشيخ الشعراء المجاهدين لطفي الياسيني للشاعر حسين حرفوش
السبت ديسمبر 01, 2018 2:18 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» وما غير الطبيعة من سِفر
الخميس يوليو 11, 2013 6:22 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» حمى الناس ..إهداء إلى أهالي الحولة
الخميس يوليو 11, 2013 6:13 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» قصيدة معايدة الرؤساء العرب .. للشيخ عائض القرني
الخميس يوليو 11, 2013 6:12 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» طال ابتهال المصطفى
الخميس يوليو 11, 2013 6:11 pm من طرف الشاعر لطفي الياسيني
» من وحي السيول والفيضانات التي اجتاحت بيوتنا / د. لطفي الياسيني
الأربعاء يناير 09, 2013 4:02 am من طرف الشاعر لطفي الياسيني